تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَقَالُواْ لَن نُّؤۡمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفۡجُرَ لَنَا مِنَ ٱلۡأَرۡضِ يَنۢبُوعًا} (90)

90

وقوله تعالى : { حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا } الينبوع : العين الجارية ، سألوه أن يجري لهم عينًا معينًا في أرض الحجاز هاهنا وهاهنا ، وذلك{[17841]} سهل يسير على الله تعالى ، لو شاء لفعله ولأجابهم إلى جميع ما سألوا وطلبوا ، ولكن علم أنهم لا يهتدون ، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [ يونس : 96 ، 97 ] وقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّنَا نزلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } [ الأنعام : 111 ] .


[17841]:في ت، ف: "وهذا".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَقَالُواْ لَن نُّؤۡمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفۡجُرَ لَنَا مِنَ ٱلۡأَرۡضِ يَنۢبُوعًا} (90)

عطف جملة { وقالوا } على جملة { فأبى أكثر الناس إلا كفورا } [ الإسراء : 89 ] ، أي كفروا بالقرآن وطالبوا بمعجزات أخرى .

وضمير الجمع عائد إلى أكثر الناس الذين أبوا إلا كفوراً ، باعتبار صدور هذا القول بينهم وهم راضون به ومتمالئون عليه متى علموه ، فلا يلزم أن يكون كل واحد منهم قال هذا القول كله بل يكون بعضهم قائلاً جميعه أو بعضهم قائلاً بعضه .

ولما اشتمل قولهم على ضمائر الخطاب تعين أن بعضهم خاطب به النبي مباشرة إما في مقام واحد وإما في مقامات . وقد ذكر ابن إسحاق : أن عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبا سفيان بن حرب ، والأسود بن المطلب ، وزمعة بن الأسود ، والوليد بن المغيرة ، وأبا جهل بن هشام ، وعبد الله بن أبي أمية ، وأمية بن خلف ، وناساً معهم اجتمعوا بعد غروب الشمس عند الكعبة وبعثوا إلى النبي أن يأتيهم . فأسرع إليهم حرصاً على هداهم ، فعاتبوه على تسفيه أحلامهم والطعن في دينهم . وعرضوا عليه ما يشاء من مال أو تسويد . وأجابهم بأنه رسول من الله إليهم لا يبتغي غير نصحهم ، فلما رأوا منه الثبات انتقلوا إلى طلب بعض ما حكاه الله عنهم في هذه الآية .

وروي أن الذي سأل ما حكي بقوله تعالى : { أو ترقى في السماء } إلى آخره ، هو عبد الله بن أبي أمية المخزومي .

وحكى الله امتناعهم عن الإيمان بحرف ( لن ) لمفيد للتأييد لأنهم كذلك قالوه .

والمراد بالأرض : أرض مكة ، فالتعريف للعهد . ووجه تخصيصها أن أرضها قليلة المياه بعيدة عن الجنات .

والتفجير : مصدر فجر بالتشديد مبالغة في الفَجْر ، وهو الشق باتساع . ومنه سمي فجر الصباح فجراً لأن الضوء يشق الظلمة شقاً طويلاً عريضاً ، فالتفجير أشد من مطلق الفجر وهو تشقيق شديد باعتبار اتساعه . ولذلك ناسب الينبوع هنا والنهر في قوله تعالى : { وفجرنا خلالها نهراً } [ الكهف : 33 ] وقوله : { فتفجر الأنهار } .

وقرأه الجمهور بضم التاء وتشديد الجيم على أنه مضارع ( فجر ) المضاعف . وقرأه عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف بفتح التاء وسكون الفاء وضم الجيم مخففة على أنه مضارع فجر كنصَر ، فلا التفات فيها للمبالغة لأن الينبوع يدل على المقصود أو يعبر عن مختلف أقوالهم الدالة على التصميم في الامتناع .

ومعنى { لن نؤمن لك } لن نصدقك أنك رسول الله إلينا .

والإيمان : التصديق . يقال : آمنه ، أي صدقه . وكثر أن يعدى إلى المفعول باللام ، قال تعالى : { وما أنت بمؤمن لنا } [ يوسف : 17 ] وقال { فآمن له لوط } [ العنكبوت : 26 ] . وهذه اللام من قبيل ما سماه في « مغني اللبيب » لام التنبيين . وغفل عن التمثيل لها بهذه الآية ونحوها ، فإن مجرور اللام بعد فعل { نؤمن } مفعول لا التباس له بالفاعل وإنما تذكر اللام لزيادة البيان والتوكيد .

وقد يقال : إنها لدفع التباس مفعول فعل « آمن » بمعنى صدق بمفعول فعل ( آمن ) إذا جعله أميناً . وتقدم قوله تعالى ؛ { فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه } في سورة [ يونس : 83 ] .

والينبوع : اسم للعين الكثيرة النبع التي لا ينضب ماؤها . وصيغة يفعول صيغة مبالغة غير قياسية ، والينبوع مشتقة من مادة النبع ؛ غير أن الأسماء الواردة على هذه الصيغة مختلفة ، فبعضها ظاهر اشتقاقه كالينبوع والينبوت ، وبعضها خفي كاليعبوب للفرس الكثير الجري . وقيل : اشتق من العَب المجازي . ومنه أسماء معربة جاء تعريبها على وزن يفعول مثل ؛ يَكْسوم اسم قائد حبشي ، ويرموك اسم نهر . وقد استقرى الحسن الصاغاني ما جاء من الكلمات في العربية على وزن يفعول في مختصر له مرتب على حروف المعجم . وقال السيوطي في « المزهر » : إن ابن دريد عقد له في « الجمهرة » باباً .