تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَبَرَّۢا بِوَٰلِدَتِي وَلَمۡ يَجۡعَلۡنِي جَبَّارٗا شَقِيّٗا} (32)

وقوله : { وَبَرًّا بِوَالِدَتِي } أي : وأمرني ببر والدتي ، ذكره بعد طاعة الله ربه ؛ لأن الله تعالى كثيرًا ما يقرن{[18811]} بين الأمر بعبادته وطاعة الوالدين ، كما قال تعالى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [ الإسراء : 23 ] وقال { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } [ لقمان : 14 ] .

وقوله : { وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا } أي : ولم يجعلني جبارًا مستكبرًا عن عبادته وطاعته وبر والدتي ، فأشقى بذلك .

قال سفيان الثوري : الجبار الشقي : الذي يقبل{[18812]} على الغضب .

وقال بعض السلف : لا تجد أحدًا عاقًّا لوالديه إلا وجدته جبارًا شقيًّا ، ثم قرأ : { وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا } ، قال : ولا تجد سيئ الملكة إلا وجدته مختالا فخورًا ، ثم قرأ : { وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا } [ النساء : 36 ]

وقال قتادة : ذكر لنا أن امرأة رأت ابن مريم يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ، في آيات سلطه الله عليهن ، وأذن له فيهن ، فقالت : طوبى للبطن الذي حملك وللثدي الذي أرضعت به ، فقال نبي الله عيسى ، عليه السلام ، يجيبها : طوبى لمن تلا كلام{[18813]} الله ، فاتبع ما فيه ولم يكن جبارًا شقيًّا .


[18811]:في أ: "قرن كثيرا".
[18812]:في ف: "يقتل".
[18813]:في أ: "كتاب".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَبَرَّۢا بِوَٰلِدَتِي وَلَمۡ يَجۡعَلۡنِي جَبَّارٗا شَقِيّٗا} (32)

وقرأ الجمهور «وَبَراً » بفتح الباء وهو الكثير البر ونصبه على قوله { مباركاً } . وقرأ أبو نهيك وأبو مجلز وجماعة «بِراً » بكسر الباء فقال بعضها نصبه على العطف على قوله { مباركاً } فكأنه قال وذا بر فاتصف بالمصدر كعدل ونحوه ، وقال بعضهما نصبه بقوله { وأوصاني } أي «وأوصاني براً بوالدتي » حذف الجار كأنه يريد «وأوصاني ببر والدتي »{[7954]} . وحكى الزهراوي هذه القراءة «وبرٍّ » بالخفض عطفاً على { الزكاة } ، وقوله { بوالدتي } بيان لنه لا والد له ، وبهذا القول برأها قومها .

و «الجبار » المتعظم وهي خلق مقرونة بالشقاء لأنها مناقضة لجميع الناس فلا يلقى صاحبها من أحد إلا مكروهاً ، وكان عيسى عليه السلام في غاية التواضع ، يأكل الشجر ويلبس الشعر ويجلس على التراب ويأوي حيث جنة الليل لا مسكن له . قال قتادة وكان يقول : سلوني فإن لين القلب صغير في نفسي .


[7954]:ومثل هذا قول لبيد: فإن لم تجد من دون عدنان والدا ودون معد فلتزعك العواذل فقد عطف (دون) الثانية على موضع (من دون) الأولى.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَبَرَّۢا بِوَٰلِدَتِي وَلَمۡ يَجۡعَلۡنِي جَبَّارٗا شَقِيّٗا} (32)

البَرّ بفتح الباء : اسم بمعنى البار . وتقدم آنفاً . وقد خصه الله تعالى بذلك بين قومه ، لأن برّ الوالدين كان ضعيفاً في بني إسرائيل يومئذ ، وبخاصة الوالدة لأنها تستضعف ، لأن فرط حنانها ومشقتها قد يجرئان الولد على التساهل في البرّ بها .

والجبّار : المتكبر الغليظ على الناس في معاملتهم . وقد تقدم في سورة هود ( 59 ) قوله : { واتبعوا أمر كل جبار عنيد } .

والشقيّ : الخاسر والذي تكون أحواله كدرة له ومؤلمة ، وهو ضدّ السعيد . وتقدّم عند قوله تعالى : { فمنهم شقي وسعيد } في آخر سورة هود ( 105 ) .

ووصف الجبار بالشقي باعتبار مآله في الآخرة وربما في الدنيا .