اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَبَرَّۢا بِوَٰلِدَتِي وَلَمۡ يَجۡعَلۡنِي جَبَّارٗا شَقِيّٗا} (32)

قوله تعالى : { وَبَرّاً بِوَالِدَتِي } : العامَّةُ على فتح الباء ، وفيه تأويلان :

أحدهما : أنه منصوبٌ نسقاً على " مباركاً " أي : وجعلني برَّا .

والثاني : أنَّه منصوبٌ بإضمارِ فعلٍ ، واختير هذا على الأوَّلِ ؛ لأنَّ فيه فصلاُ كثيراً بجملةِ الوصيَّةِ ومتعلَّقها .

قال الزمخشريُّ : جعل ذاتهُ برَّا ؛ لفَرْط برِّه ، ونصبه بفعل في معنى " أوْصَانِي " وهو " كَلَّفَنِي " لأنَّ أوْصَانِي بالصَّلاة ، وكلَّفَنِي بها واحدٌ .

وقُرئ " برَّا " بكسر الباء{[21599]} : إمَّا على حذفِ مضافٍ ، وإمَّا على المبالغة في جعله نفس المصدر ، وقد تقدَّم في البقرة : أنه يجوز أن يكون وصفاً على فعلِ ، وحكى الزَّهْراوِيُّ ، وأبو البقاء{[21600]} أنه قُرِئَ بكسر الباء ، والراء ، وتوجيهه : أنه نسقٌ على " الصَّلاة " أي : وأوصاني بالصَّلاة وبالزَّكَاة ، وبالبرِّ ، أو البرّ . و " بوالدتي " متعلق بالبر ، أو البر .

فصل فيما يشير إليه قوله { وبرَّا بوالدتي }

قوله : { وَبَرّاً بِوَالِدَتِي } إشارةٌ إلى تنزيه أمِّه عن الزِّنا ؛ إذ لو كانت زانيةٌ ، لما كان الرسُول المعصومُ مأمُوراً بتعظيمها وبرِّها ؛ لأنه تأكَّد حقَّها عليه ؛ لتمحض إذ حقها لا والد له سواها .

قوله تعالى : { وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً } يدلُّ على أنَّ فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى ؛ لأنَّه لما أخبر أنه تعالى ، جعله برًّا ، وما جعله جبَّاراً ، إنما يحسن لو أنَّ الله تعالى جعل غيره جبَّاراً ، وجعله [ غير ] برٍّ بأمِّه ؛ فإن الله تعالى ، لو فعل ذلك بكلِّ أحدٍ ، لم يكُن لعيسى مزيَّةً تخصيصٍ بذلك ، ومعلومٌ أنه -صلواتُ الله عليه وسلامهُ- إنما ذكر ذلك في معرضِ التخصيصِ ، ومعنى قوله : { وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً } أي ما جعلني جبَّاراً متكبرِّاً ، بل أنا خاضعٌ لأمِّي ، متواضعٌ لها ، ولو كنتُ جبَّاراً متكبِّراً ، بل أنا خاضعٌ لأمِّي ، متواضعٌ لها ، ولو كنتُ جبَّاراً ، كنتُ عاصياً شقياً .

قال بعضُ العلماء : لا تجد العاق إلا جباراً شقياً ، وتلا : { وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً } ولا تجد سيّئ الملكة إلا مختالاً فخُوراً ، وقرأ : { وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً } [ النساء : 36 ] .


[21599]:وهي قراءة الحسن وآخرين، ينظر: الإتحاف 2/234، والمحتسب 2/42، والبحر 6/177، والدر المصون 4/505.
[21600]:ينظر: الإملاء 2/62.