تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا جَآءَكَ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ يُبَايِعۡنَكَ عَلَىٰٓ أَن لَّا يُشۡرِكۡنَ بِٱللَّهِ شَيۡـٔٗا وَلَا يَسۡرِقۡنَ وَلَا يَزۡنِينَ وَلَا يَقۡتُلۡنَ أَوۡلَٰدَهُنَّ وَلَا يَأۡتِينَ بِبُهۡتَٰنٖ يَفۡتَرِينَهُۥ بَيۡنَ أَيۡدِيهِنَّ وَأَرۡجُلِهِنَّ وَلَا يَعۡصِينَكَ فِي مَعۡرُوفٖ فَبَايِعۡهُنَّ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُنَّ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (12)

قال البخاري : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن أخي ابن شهاب ، عن عمه قال : أخبرني عروة أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، أخبرته : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ } إلى قوله : { غَفُورٌ رَحِيمٌ } قال عروة : قالت عائشة : فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات ، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قد بايعتك " ، كلامًا ، ولا والله ما مست يده يد امرأة قَطّ في المبايعة ، ما يبايعهن إلا بقوله : " قد بايعتك على ذلك " هذا لفظ البخاري{[28701]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا سفيان ، عن محمد بن المُنْكَدِر ، عن أميمة بنت رُقَيقة قالت : أتيت رسول الله{[28702]} صلى الله عليه وسلم في نساء لنبايعه ، فأخذ علينا ما في القرآن : { أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا } الآية ، وقال : " فيما استطعتن وأطقتن " ، قلنا : الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا ، قلنا : يا رسول الله ، ألا تصافحنا ؟ قال " إني لا أصافح النساء ، إنما قولي لامرأة واحدة {[28703]} كقولي لمائة امرأة " .

هذا إسناد صحيح ، وقد رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة ، من حديث سفيان بن عيينة - والنسائي أيضًا من حديث الثوري - ومالك بن أنس كلهم ، عن محمد بن المنكدر ، به{[28704]} . وقال الترمذي : حسن صحيح ، لا نعرفه إلا من حديث محمد بن المنكدر .

وقد رواه أحمد أيضا من حديث محمد ابن إسحاق ، عن محمد بن المنكدر ، عن أميمة ، به . وزاد : " ولم يصافح منا امرأة " {[28705]} . وكذا رواه ابن جرير من طريق موسى بن عقبة ، عن محمد بن المنكدر ، به{[28706]} . ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي جعفر الرازي ، عن محمد بن المنكدر : حدثتني أميمة بنت رقيقة - وكانت أخت خديجة خالة فاطمة ، من فيها إلى في ، فذكره .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن ابن إسحاق ، حدثني سليط بن أيوب بن الحكم بن سُلَيم ، عن أمه سلمى بنت قيس - وكانت إحدى خالات رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلت معه القبلتين ، وكانت إحدى نساء بني عدي بن النجار - قالت : جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم نبايعه في نسوة من الأنصار ، فلما شرط علينا : ألا نشرك بالله شيئًا ، ولا نسرق ، ولا نزني ، ولا نقتل أولادنا ، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ، ولا نعصيه في معروف - قال : " ولا تغشُشْن أزواجكن " . قالت : فبايعناه ، ثم انصرفنا ، فقلت لامرأة منهن : ارجعي فسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما غش أزواجنا ؟ قال : فسألته فقال : " تأخذ ماله ، فتحابي به غيره " {[28707]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن أبي العباس ، حدثنا عبد الرحمن بن عثمان بن إبراهيم بن محمد بن حاطب ، حدثني أبي ، عن أمه عائشة بنت قُدَامة - يعني : ابن مظعون - قالت : أنا مع أمي رائطة بنت سفيان الخزاعية ، والنبي صلى الله عليه وسلم يبايع النسوة ويقول : " أبايعكنّ على أن لا تشركن بالله شيئًا ، ولا تسرقن ، ولا تزنين ، ولا تقتلن أولادكن ، ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن ، ولا تعصينني في معروف " . [ قالت : فأطرقن . فقال لهن النبي صلى الله عليه وسلم ]{[28708]} قُلن : نعم فيما استطعتن " . فَكُنّ يقلن وأقول معهن ، وأمي تُلقّني : قولي {[28709]} أي بنية ، نعم [ فيما استطعتُ ]{[28710]} . فكنت أقول كما يقلنٍّ-{[28711]}

وقال البخاري : حدثنا أبو مَعْمَر ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا أيوب ، عن حفصة بنت سيرين ، عن أم عطية قالت : بَايَعْنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرأ{[28712]} علينا : { أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا } ونهانا عن النياحة ، فقبضت امرأة يدها ، قالت : أسعدتني فلانة أريد أن أجزيها . فما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ، فانطلقت ورجعت فبايعها .

ورواه مسلم{[28713]} . وفي رواية : " فما وفى منهن امرأة غيرها ، وغير أم سليم ابنة ملحان " .

وللبخاري عن أم عطية قالت : أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند البيعة ألا ننوح ، فما وَفّت منا امرأة غير خمس نسوة : أم سليم ، وأم العلاء ، وابنة أبي سبرة امرأة معاذ ، وامرأتان - أو : ابنة أبي سَبرة ، وامرأة معاذ ، وامرأة أخرى{[28714]} .

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعاهدُ النساءَ بهذه البيعة يوم العيد ، كما قال البخاري :

حدثنا محمد بن عبد الرحيم ، حدثنا هارون بن{[28715]} معروف ، حدثنا عبد الله بن وهب ، أخبرني ابن جُرَيج : أن الحسن بن مسلم أخبره ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : شهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ، فكلهم يصليها قبل الخطبة ثم يخطب بَعدُ ، فنزل نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فكأني أنظر إليه حين{[28716]} يُجَلَّس الرجالَ بيده ، ثم أقبل يَشقّهم حتى أتى النساء مع بلال فقال : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } حتى فرغ من الآية كلها . ثم قال حين فرغ : " أنتن على ذلك ؟ " . فقالت امرأة واحدة ، ولم يجبه غيرها : نعم يا رسول الله - لا يدري الحسن{[28717]} من هي - قال : " فتصدقن " ، قال : وبسط بلال ثوبه فجعلن{[28718]} يلقين الفَتَخَ والخواتيم في ثوب بلال{[28719]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا خلف بن الوليد ، حدثنا ابن عياش ، عن سليمان بن سُليم ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : جاءت أميمة بنت رقيقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تبايعه على الإسلام ، فقال : " أبايعك على ألا تشركي بالله شيئًا ، ولا تسرقي ، ولا تزني ، ولا تقتلي ولدك ، ولا تأتي ببهتان تفترينه بين يَديك ورجليك ، ولا تنوحي ، ولا تبرجي تبرج الجاهلية الأولى " {[28720]}

وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن أبي إدريس الخولاني ، عن عبادة بن الصامت قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال : " تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا أولادكم - قرأ الآية التي أخذت على النساء { إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ } فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به ، فهو كفارة له ، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله عليه ، فهو إلى الله ، إن شاء غفر له ، وإن شاء عذبه " . أخرجاه في الصحيحين{[28721]} .

وقال محمد ابن إسحاق ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن مرثد{[28722]} بن عبد الله اليَزني{[28723]} عن أبي عبد الله عبد الرحمن بن عُسَيلة الصُّنَابجي{[28724]} ، عن عبادة بن الصامت قال : كنت فيمن حضر العقبة الأولى ، وكنا اثني عشر رجلا فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء ، وذلك قبل أن يفرض الحرب ، على ألا نشرك بالله شيئًا ، ولا نسرق ، ولا نزني ، ولا نقتل أولادنا ، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ، ولا نعصيه في معروف ، وقال : " فإن وَفَيتم فلكم الجنة " رواه ابن أبي حاتم .

وقد روي ابن جرير من طريق العوفي ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب فقال : " قل لهن : إن رسول الله يبايعكن على ألا تشركن بالله شيئًا " - وكانت هند بنت عتبة بن ربيعة التي شقت بطن حمزة مُنَكرة في النساء - فقالت : " إني إن أتكلم يعرفني ، وإن عرفني قتلني " . وإنما تنكرت فرقًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسكت النسوة اللاتي مع هند ، وأبين أن يتكلمن . فقالت هند وهي مُنَكَّرة : كيف تقبل من النساء شيئًا لم تقبله من الرجال ؟ ففطن{[28725]} إليها رسول الله وقال لعمر : " قل لهن : ولا تسرقن " . قالت هند : والله إني لأصيب من أبي سفيان الهَنَات ، ما أدري أيحلهن لي أم لا ؟ قال أبو سفيان : ما أصبت من شيء مضى أو قد بقي ، فهو لك حلال . فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها ، فدعاها فأخذت بيده ، فعاذت{[28726]} به ، فقال : " أنت هند ؟ " . قالت : عفا الله عما سلف . فصرف عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ولا يزنين " ، فقالت : يا رسول الله ، وهل تزني الحرة ؟ قال : " لا والله ما تزني الحرة " . فقال : " ولا يقتلن أولادهن " . قالت هند : أنت قتلتهم يوم بدر ، فأنت وهم أبصر . قال : { وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } قال :{ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } قال : منعهن أن ينحن ، وكان أهل الجاهلية يمزقن الثياب ويخدشن الوجوه ، ويقطعن الشعور ، ويدعون بالثبور . والثبور : الويل{[28727]} .

وهذا أثر غريب ، وفي بعضه نكارة ، والله أعلم ؛ فإن أبا سفيان وامرأته لما أسلما لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيفهما ، بل أظهر الصفاء والود له ، وكذلك كان الأمر من جانبه ، عليه السلام ، لهما .

وقال مقاتل بن حيان : أنزلت هذه الآية يوم الفتح ، فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال على الصفا ، وعمر يبايع النساء تحتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر بقيته كما تقدم وزاد : فلما قال : { وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ } قالت هند : ربيناهم صغارًا فقتلتموهم كبارا . فضحك عمر بن الخطاب حتى استلقى . رواه بن أبي حاتم .

وقال بن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا نصر بن علي ، حدثتني عطية بنت سليمان ، حدثني عمتي ، عن جدتها{[28728]} عن عائشة قالت : جاءت هند بنت عتبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتبايعه ، فنظر إلى يدها فقال : " اذهبي فغيري يدك " . فذهبت فغيرتها بحناء ، ثم جاءت فقال : " أبايعك على ألا تشركي بالله شيئا " ، فبايعها وفي يدها سواران من ذهب ، فقالت : ما تقول في هذين السوارين ؟ فقال : " جمرتان من جمر جهنم " {[28729]} .

فقوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ } أي : من جاءك منهن يبايع على هذه الشروط فبايعها ، { عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ } أي : أموال الناس الأجانب ، فأما إذا كان الزوج مقصرًا في نفقتها ، فلها أن تأكل من ماله بالمعروف ، ما جرت به عادة أمثالها ، وإن كان بغير علمه ، عملا بحديث هند بنت عتبة أنها قالت : يا رسول الله ، إن أبا سفيان رجل شَحِيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني ، فهل عليَّ جناح إن أخذت من ماله بغير علمه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك " . أخرجاه في الصحيحين{[28730]} .

وقوله : { وَلا يَزْنِينَ } كقوله { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا } [ الإسراء : 32 ] . وفي حديث سَمُرة ذكرُ عقوبة الزناة بالعذاب الأليم في نار الجحيم {[28731]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عُرْوة ، عن عائشة قالت : جاءت فاطمة بنت عتبة تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ عليها : { أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ } الآية ، قالت : فوضعت يدها على رأسها حياء ، فأعجبه ما رأى منها ، فقالت عائشة : أقري أيتها المرأة ، فوالله ما بايعنا إلا على هذا . قالت : فنعم إذًا . فبايعها بالآية{[28732]} .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن فضيل ، عن حصين ، عن عامر - هو الشعبي - قال : بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء ، وعلى يده ثوب قد وضعه على كفه ، ثم قال : " ولا تقتلن أولادكن " . فقالت امرأة : تقتل آباءهم وتوصينا بأولادهم ؟ قال : وكان بعد ذلك إذا جاءت النساء يبايعنه ، جمعهن فعرض عليهن ، فإذا أقررن رجعن .

وقوله { وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ } وهذا يشمل قتله بعد وجوده ، كما كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الإملاق ، ويعم قتله وهو جنين ، كما قد يفعله بعض الجهلة من النساء ، تطرح نفسها لئلا تحبل إما لغرض فاسد أو ما أشبهه .

وقوله : { وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } قال ابن عباس : يعني لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم . وكذا قال مقاتل . ويؤيد هذا الحديث الذي رواه أبو داود :

حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا بن وهب ، حدثنا عمرو - يعني : ابن الحارث - عن ابن الهاد ، عن عبد الله بن يونس ، عن سعيد المَقْبُري ، عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول حين نزلت آية الملاعنة : " أيما امرأة أدخَلت على قوم من ليس منهم ، فليست من الله في شيء ، ولن يدخلها الله جَنّته ، وأيما رجل جَحَد ولده وهو ينظر إليه ، احتجب الله منه ، وفضحه على رءوس الأولين والآخرين " {[28733]} .

وقوله : { وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } يعني : فيما أمرتهن به من معروف ، ونهيتهن عنه من منكر .

قال البخاري : حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا وهب بن جرير ، حدثنا أبي قال : سمعت الزبير ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس في قوله : { وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } قال : إنما هو شرط شَرَطه الله للنساء {[28734]} .

وقال ميمون بن مِهْرَان : لم يجعل الله لنبيه طاعة إلا لمعروف{[28735]} والمعروف : طاعة .

وقال ابن زيد : أمر الله بطاعة رسوله ، وهو خِيَرة الله من خلقه في المعروف . وقد قال غيره ابن عباس ، وأنس بن مالك ، وسالم بن أبي الجَعْد ، وأبي صالح ، وغير واحد : نهاهن يومئذ عن النوح . وقد تقدم حديث أم عطية في ذلك أيضًا .

وقال ابن جرير : حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة في هذه الآية : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أخذ عليهن النياحة ، ولا تحدثن الرجال إلا رجلا منكن محرمًا . فقال عبد الرحمن بن عوف : يا نبي الله ، إن لنا أضيافًا ، وإنا نغيب عن نسائنا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس أولئك عَنَيتُ ، ليس أولئك عَنَيتُ " {[28736]} .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا إبراهيم بن موسى الفراء ، أخبرنا ابن أبي زائدة ، حدثني مبارك ، عن الحسن قال : كان فيما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم : " ألا تحدثن الرجال إلا أن تكون ذات محرم ، فإن الرجل لا يزال يحدث المرأة حتى يَمذي بين فخذيه " .

وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا هارون ، عن عمرو ، عن عاصم{[28737]} عن ابن سيرين ، عن أم عطية الأنصارية قالت : كان فيما اشتُرط علينا{[28738]} من المعروف حين بايعنا{[28739]} ألا ننوح ، فقالت امرأة من بني فلان : إن بني فلان أسعدوني ، فلا حتى أجزيهم{[28740]} فانطلقت فأسعَدتَهم ثم جاءت فبايعت ، قالت : فما وفى منهن غيرها ، وغير أم سليم ابنة مِلْحان أم أنس بن مالك{[28741]} .

وقد روى البخاري هذا الحديث من طريق حفصة بنت سيرين ، عن أم عطية نسيبة الأنصارية رضي الله عنها{[28742]} وقد روي نحوه من وجه آخر أيضًا .

وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا أبو نُعَيم ، حدثنا عُمَر بن فروخ القَتَّات ، حدثني مصعب بن نوح الأنصاري قال : أدركت عجوزًا لنا كانت فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم . قالت : فأتيته لأبايعه ، فأخذ علينا فيما أخذ ألا تنحن . فقالت عجوز : يا رسول الله{[28743]} إن ناسًا قد كانوا {[28744]} أسعدوني على مصائب أصابتني ، وأنهم قد أصابتهم مصيبة ، فأنا أريد أسعدهم . قال : " فانطلقي فكافئيهم " . فانطلقت فكافأتهم ، ثم إنها أتته فبايعته ، وقال : هو {[28745]} المعروف الذي قال الله عز وجل : { وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } {[28746]} .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا القَعْنَبِي{[28747]} ، حدثنا الحجاج بن صفوان ، عن أسيد{[28748]} بن أبي أسيد البراد ، عن امرأة من المبايعات قالت : كان فيما أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن لا نعصيه في معروف : أن لا نخمش وجوهًاٍّ{[28749]} ولا ننشر شعرًا ، ولا نشق جيبا ، ولا ندعو ويلا .

وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا وَكِيع ، عن يزيد مولي الصهباء ، عن شهر بن حَوشب ، عن أم سلمة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : { وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } قال : " النوح " .

ورواه الترمذي في التفسير ، عن عبد بن حُمَيد ، عن أبي نُعَيم - وابن ماجة ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن وكيع - كلاهما عن يزيد بن عبد الله الشيباني مولي{[28750]} الصهباء ، به{[28751]} وقال الترمذي : حسن غريب .

وقال ابن جرير : حدثنا محمد{[28752]} بن سنان القزاز ، حدثنا إسحاق بن إدريس ، حدثنا إسحاق بن عثمان أبو يعقوب ، حدثني إسماعيل بن عبد الرحمن بن عطية ، عن جدته أم عطية قالت : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع نساء الأنصار في بيت ، ثم أرسل إلينا عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، فقام على الباب وسلم علينا ، فرددن - أو : فرددنا - عليه السلام ، ثم قال : " أنا رُسولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكن " . قالت : فقلنا : مرحبًا برسول الله وبرسول رسول الله . فقال : " تبايعن على ألا تشركن بالله شيئا ، ولا تسرقن ولا تزنين ؟ " قالت : فقلنا : نعم . قالت : فمد يده من خارج الباب - أو : البيت - ومددنا أيدينا من داخل البيت ، ثم قال : " اللهم اشهد " . قالت : وأمرنا في العيدين أن نخرج فيه الحُيَّض والعواتق ، ولا جمعة علينا ، ونهانا عن اتباع الجنائز . قال إسماعيل : فسألت جدتي عن قوله : { وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } قالت : النياحة{[28753]} .

وفي الصحيحين من طريق الأعمش ، عن عبد الله بن مُرة ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس منا من ضَرَب الخدود ، وشَقَّ الجيوب ، ودعا بدعوى الجاهلية " {[28754]} .

وفي الصحيحين أيضًا عن أبي موسى : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة والحالقة والشاقة{[28755]} .

وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا هُدْبَة بن خالد ، حدثنا أبان بن يزيد ، حدثنا يحيى بن أبي كثير : أن زيدًا حدثه : أن أبا سلام حدثه : أن أبا مالك الأشعري حدثه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : الفخر في الأحساب ، والطعن في الأنساب ، والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة . وقال : النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قَطران ودرع من جَرَب " .

ورواه مسلم في صحيحه منفردًا به ، من حديث أبان بن يزيد العطار ، به{[28756]} .

وعن أبي سعيد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن النائحة والمستمعة . رواه أبو داودٍّ{[28757]}


[28701]:- (1) صحيح البخاري برقم (4891) ووقع في رواية أبي ذر: "حدثنا إسحاق، حدثنا يعقوب بن إبراهيم".
[28702]:- (2) في م: "أتيت النبي".
[28703]:- (3) في م: "واحدة منكن".
[28704]:- (4) المسند (6/357) وسنن الترمذي برقم (1597) وسنن النسائي (7/149) وسنن ابن ماجة برقم (2874).
[28705]:- (5) المسند (6/357).
[28706]:- (6) تفسير الطبري (28/53).
[28707]:- (7) المسند (6/379).
[28708]:- (1) زيادة من مسند الإمام أحمد.
[28709]:- (2) زيادة من مسند الإمام أحمد، وفي هـ، م، أ: "تقول لي".
[28710]:- (3) زيادة من مسند الإمام أحمد.
[28711]:- (4) المسند (6/365).
[28712]:- (5) في م: "فشرط".
[28713]:- (6) صحيح البخاري برقم (4892) وصحيح مسلم برقم (936).
[28714]:- (7) صحيح البخاري برقم (1306).
[28715]:- (8) في م: "حدثنا".
[28716]:- (9) في م: "إليه حتى".
[28717]:- (10) في م، أ: "لا يدري حسن".
[28718]:- (11) في م: "فجعل".
[28719]:- (1) صحيح البخاري برقم (4895).
[28720]:- (2) المسند (2/196).
[28721]:- (3) المسند (5/314) وصحيح البخاري برقم (4894) وصحيح مسلم برقم (1709).
[28722]:- (4) في م: "يزيد".
[28723]:- (5) في أ: "المزني".
[28724]:- (6) في أ: "الصالحي".
[28725]:- (7) في أ: "فنظر".
[28726]:- (8) في أ: "فعادتنا".
[28727]:- (1) تفسير الطبري (28/52).
[28728]:- (2) في أ: "حدثني عمي عن جدي".
[28729]:- (3) ورواه أبو يعلى في المسند (8/195) عن نصر بن على به نحوه، وقال الهيثمي في المجمع (6/37): "فيه من لم أعرفهن".
[28730]:- (4) صحيح البخاري برقم (7180) وصحيح مسلم برقم (1714).
[28731]:- (5) رواه الإمام أحمد في المسند (5/15).
[28732]:- (1) المسند (6/151).
[28733]:- (2) سنن أبي داود برقم (2263).
[28734]:- (3) صحيح البخاري برقم (4893).
[28735]:- (4) في م: "في معروف".
[28736]:- (1) تفسير الطبري (28/51).
[28737]:- (2) في م: "عن عمرو بن عاصم".
[28738]:- (3) في م: "علينا رسول الله".
[28739]:- (4) في م، أ: "حين بايعناه".
[28740]:- (5) في أ: "حتى أحدثهم".
[28741]:- (6) تفسير الطبري (28/52).
[28742]:- (7) صحيح البخاري برقم (4892).
[28743]:- (8) في م: "يانبي الله".
[28744]:- (9) في م: "كانوا قد".
[28745]:- (10) في م: "هذا".
[28746]:- (11) تفسير الطبري (28/52).
[28747]:- (12) في م: "الضبي".
[28748]:- (13) في أ: "عن أسد".
[28749]:- (14) في م، أ: "وجهًا".
[28750]:- (1) في أ: "عن أبي".
[28751]:- (2) سنن الترمذي برقم (3307) وسنن ابن ماجة برقم (1579).
[28752]:- (3) في م: "حدثنا أحمد".
[28753]:- (4) تفسير الطبري (28/53).
[28754]:- (5) صحيح البخاري برقم (1297) وصحيح مسلم برقم (103).
[28755]:- (6) صحيح البخاري برقم (1296) وصحيح مسلم برقم (104).
[28756]:- (7) مسند أبي يعلى (3/148) وصحيح مسلم برقم (934).
[28757]:- (8) سنن أبي داود برقم (3128).
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا جَآءَكَ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ يُبَايِعۡنَكَ عَلَىٰٓ أَن لَّا يُشۡرِكۡنَ بِٱللَّهِ شَيۡـٔٗا وَلَا يَسۡرِقۡنَ وَلَا يَزۡنِينَ وَلَا يَقۡتُلۡنَ أَوۡلَٰدَهُنَّ وَلَا يَأۡتِينَ بِبُهۡتَٰنٖ يَفۡتَرِينَهُۥ بَيۡنَ أَيۡدِيهِنَّ وَأَرۡجُلِهِنَّ وَلَا يَعۡصِينَكَ فِي مَعۡرُوفٖ فَبَايِعۡهُنَّ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُنَّ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (12)

هذه بيعة النساء في ثاني يوم الفتح على جبل الصفا وهي كانت في المعنى بيعة الرجال قبل فرض القتال ، وسماهم { المؤمنات } بحسب الظاهر من أمرهن ، ورفض الاشتراك هو محض الإيمان ، وقتل الأولاد وهو من خوف الفقر ، وكانت العرب تفعل ذلك . وقرأ الحسن وأبو عبد الرحمن : «يُقَتِّلن » بضم الياء وفتح القاف وكسر التاء المشددة ، و«الإتيان بالبهتان » ، قال أكثر المفسرين معناه أن تنسب إلى زوجها ولداً ليس هو له واللفظ أعم من هذا التخصيص ، فإن الفرية بالقول على أحد من الناس بعظيمة لمن هذا{[11056]} ، وإن الكذب فيما ائتمن فيه من الحمل والحيض لفرية بهتان ، وبعض أقوى من بعض وذلك أن بعض الناس قال :{ بين أيديهن } يراد به اللسان والفم في الكلام والقبلة ونحوه ، «وبين الأرجل » يراد به الفروج وولد الإلحاق ونحوه ، والمعروف الذي نهي عن العصيان فيه ، قال أنس وابن عباس ، وزيد بن أسلم : هو النوح ، وشق الجيوب ووشم الوجوه ووصل الشعر وغير ذلك من أوامر الشريعة ، فرضها وندبها . ويروى أن جماعة نساء فيهن هند بنت عتبة بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليهن الآي ، فلما قررهن على أن لا يشركن قالت هند : وكيف نطمع أن تقبل منا ما لم تقبله من الرجال ؟ بمعنى أن هذا بين لزومه ، فلما وقف على السرقة ، قالت : والله إني لأصيب الهنة من مال أبي سفيان لا أدري أيحل لي ذلك ، فقال أبو سفيان : ذلك لك حلال فيما مضى وبقي ، وقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كلي وولدك بالمعروف » .

وقدر تكرر هذا المعنى في الحديث الآخر قولها إن أبا سفيان رجل مسيك فلما وقف على الزنا قالت : يا رسول الله وهل تزني الحرة ؟ قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا ما تزني الحرة » ، وذلك أن الزنا في قريش إنما كان في الإماء في أغلب الأمر ، وفيما تعرف مثل هند وإلا فالبغايا قد كن أحراراً ، فلما وقف على قتل الأولاد ، قالت : نحن ربيناهم صغاراً وقتلتهم أنت ببدر كباراً ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما وقف على العصيان بالمعروف ، قالت : ما جلسنا هذا المجلس وفي أنفسنا أن نعصيك{[11057]} ، ويروى أن جماعة نساء بايعن النبي صلى الله عليه وسلم فقلن : يا رسول الله نبايعك على كذا وكذا الآية ، فلما فرغن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فيما استطعتن وأطقتن » ، فقلن الله ورسوله أرحم بنا منا بأنفسنا .

وقوله تعالى : { فبايعهن } امض معهن صفقة الإيمان بأن يعطين ذلك من أنفسهن ويعطين عليه الجنة ، واختلفت هيئات مبايعة رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء بعد الإجماع على أنه لم تمس يده يد امرأة أجنبية قط ، فروي عن عائشة وغيرها أنه بايع باللسان قولاً{[11058]} ، وقال :

«إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة »{[11059]} ، وقالت أسماء بنت يزيد : كنت في النسوة المبايعات فقلت : يا رسول الله ابسط يدك نبايعك ، فقال لي عليه السلام : «إني لا أصافح النساء لكن آخذ عليهن ما أخذ الله عليهن »{[11060]} ، وذكر النقاش حديثاً أن النبي صلى الله عليه وسلم مد يده من خارج بيت ومد نساء من الأنصار أيديهن من داخله فبايعن{[11061]} وما قدمته أثبت ، وروي عن الشعبي أنه لف ثوباً كثيفاً قطرياً على يده وجاء نسوة فلمسن يده كذلك{[11062]} ، وروي عن الكلبي : أنه قدم عمر بن الخطاب فلمس نساء يده وهو خارج من بيت وهن فيه بحيث لا يراهن{[11063]} ، وذكر النقاش وغيره : أن النبي صلى الله عليه وسلم بايعه النساء على الصفا بمكة وعمر بن الخطاب يصافحهن{[11064]} ، وروي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ورفعه النقاش عن ابن عباس وعن عروة بن مسعود الثقفي : أنه عليه السلام غمس يده في إناء فيه ماء ثم دفعه إلى النساء يغمسن أيديهن فيه{[11065]} . ثم أمره تعالى بالاستغفار لهن ورجاهن في غفرانه ورحمته بقوله : { إن الله غفور رحيم } .


[11056]:يعني الافتراء على أحد من الناس بالقول أنه ارتكب عظيمة من الأمور لهي هذا النوع.
[11057]:أخرجه سعيد بن منصور، وابن سعد، عن الشعبي رضي الله عنه، وأخرج مثله ابن جرير، وابن مردويه، عن ابن عباس رضي الله عنهما.(الدر المنثور). هذا
[11058]:روى البخاري عن عُروة أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية{يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك} إلى قوله:{غفور رحيم}، قال عروة: قالت عائشة: فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:(قد بايعتك) كلاما، ولا والله ما مست يده يد امرأة في المبايعة قط، ما يبايعهن إلا بقوله:(قد بايعتك على ذلك)، هذا لفظ البخاري، وقد أخرج الحديث أيضا عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن ماجه، وابن المنذر، وابن مردويه، عن عائشة رضي الله عنها.(الدر المنثور). وأخرجه أيضا أحمد(6-153) والترمذي.
[11059]:أخرجه عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن سعد، وأحمد والترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه، عن أميمة بنت رقيقة، ولفظه كاملا أنها قالت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في نساء لنبايعه، فأخذ علينا ما في القرآن:"ألا نشرك بالله شيئا" حتى بلغ{ولا يعصينك في معروف} فقال: فيما استطعتن وأطقتن، قلنا: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، يا رسول الله ألا تصافحنا؟ قال:(إني لا أصافح النساء، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة). (الدر المنثور).
[11060]:أخرجه سعيد بن منصور، وابن سعد، وأحمد، وابن مردويه، عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها، قالت: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم في نسوة فقال:(إني لا أصافحكن، ولكن آخذ عليكن ما أخذ الله).(الدر المنثور).
[11061]:أخرج أحمد، وابن سعد، وأبو داود، وأبو يعلى، وعبد بن حميد، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب، عن إسماعيل بن عطية، عن جدته أم عطية رضي الله عنها، قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جمع نساء الأنصار في بيت، فأرسل إليهن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، فقام على الباب فسلم، فقال: أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكن، تبايعن على أن لا تشركن بالله شيئا، ولا تسرقن، ولا تزنين...الآية؟ قلنا: نعم، فمد يده من خارج البيت، ومددنا أيدينا من داخل البيت، قاله إسماعيل: فسألت جدتي عن قوله تعالى:{ولا يعصينك في معروف} قالت: نهانا عن النياحة. وهذه الرواية عن أم عطية تفيد أن الذي تكلم مع النساء ومدّ يده هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أما رواية النقاش التي ذكرها ابن عطية فتفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي مدّ يده المكرمة، ونلحظ أن ابن عطية علق على رواية النقاش بقوله:"وما قدمته أثبت".
[11062]:أخرجه سعيد بن منصور، وابن سعد، عن الشعبي رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع النساء ووضع على يده ثوبا، فلما كان بعد كان يخير النساء فيقرأ عليهن هذه الآية{يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك} الآية... ثم ذكر حضور هند امرأة أبي سفيان وكلامها.(الدر المنثور).
[11063]:راجع الهامش رقم (2) صفحة(418)، هذا وقد أخرجه أيضا ابن جرير الطبري عن أم عطية رضي الله عنها.
[11064]:في تفسير ابن كثير أن مقاتل بن حيان قال: أنزلت هذه الآية يوم الفتح، بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال على الصفا، وعمر بايع النساء يحلفهن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم...ثم قال ابن كثير: رواه ابن أبي حاتم. ثم ساق روايته، فيها خبر هند بنت عتبة.
[11065]:أخرجه ابن سعد، وابن مردويه، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء فغمس يده فيه ثم يغمسن أيديهن، فكانت هذه بيعته.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا جَآءَكَ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ يُبَايِعۡنَكَ عَلَىٰٓ أَن لَّا يُشۡرِكۡنَ بِٱللَّهِ شَيۡـٔٗا وَلَا يَسۡرِقۡنَ وَلَا يَزۡنِينَ وَلَا يَقۡتُلۡنَ أَوۡلَٰدَهُنَّ وَلَا يَأۡتِينَ بِبُهۡتَٰنٖ يَفۡتَرِينَهُۥ بَيۡنَ أَيۡدِيهِنَّ وَأَرۡجُلِهِنَّ وَلَا يَعۡصِينَكَ فِي مَعۡرُوفٖ فَبَايِعۡهُنَّ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُنَّ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (12)

هذه تكملة لامتحان النساء المتقدم ذكره في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن } الآية [ الممتحنة : 10 ] . وبيان لتفصيل آثاره . فكأنه يقول : فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهنّ إلى الكفار وبَينُوا لهن شرائع الإِسلام . وآية الامتحان عقب صلح الحديبية في شأن من هاجرن من مكة إلى المدينة بعد الصلح وهن : أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، وسبيعة الأسلمية ، وأميمة بنت بشر ، وزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا صحة للأخبار التي تقول : إن الآية نزلت في فتح مكة ومنشؤها التخليط في الحوادث واشتباه المكرر بالآنف .

روى البخاري ومسلم عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر من المؤمنات بهذه الآية { يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك } إلى قوله : { غفور رحيم } فمن أقرّ بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله : قد بايعتُكِ .

والمقتضى لهذه البيعة بعد الإِمتحان أنهن دخلن في الإِسلام بعد أن استقرت أحكام الدين في مدة سنين لم يشهدن فيها ما شهده الرجال من اتساع التشريع آنا فآنا ، ولهذا ابتدئت هذه البيعة بالنساء المهاجرات كما يؤذن به قوله : { إذا جاءك المؤمنات } ، أي قدمن عليك من مكة فهي على وزان قوله : { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات } [ الممتحنة : 10 ] . قال ابن عطية : كانت هذه البيعة ثاني يوم الفتح على جبل الصفا .

وأجرى النبي صلى الله عليه وسلم هذه البيعة على نساء الأنصار أيضاً . روى البخاري عن أم عطية قالت : بايَعَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ علينا { أن لا يشركن بالله شيئاً } الحديث .

وفيه عن ابن عباس قال : شهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الخطبة فنزل نبيء الله فكأني أنظر إليه حين يجلِّس الرجال بيده ثم أقبل يشقهم حتى أتى النساء مع بلال فقال : { يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن } حتى فرغ من الآية كلها . ثم قال حين فرغ : أنتُنّ على ذلك فقالت امرأة منهنّ واحدة لم يجبه غيرها : نعم يا رسول الله . قال : « فتصدقن » .

وأجرى هذه المبايعة على الرجال أيضاً . ففي « صحيح البخاري » عن عبادة بن الصامت قال : « كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أتبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تزنوا ولا تسرقوا ، وقرأ آية النساء ( أي النازلة بخطاب النساء في سورة الممتحنة ) فمن وفَى منكم فأجره على الله . ومن أصاب من ذلك شَيئاً فعوقب به فهو كفارة له . ومن أصاب منها شيئاً فستره الله فهو إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له » .

واستمر العمل بهذه المبايعة إلى يوم فتح مكة وقد أسلم أهلها رجالاً ونساء فجلس ثاني يوم الفتح على الصفا يأخذ البيعة من الرجال على ما في هذه الآية ، وجلس عمر بن الخطاب يأخذ البيعة من النساء على ذلك ، وممن بايعته من النساء يومئذٍ هند بنت عتبة زوج أبي سفيان وكبشة بنت رافع .

وجملة { يبايعنك } يجوز أن تكون حالاً من { المؤمنات } على معنى : يُردن المبايعة وهي المذكورة في هذه الآية . وجواب { إذا } { فبايعهن } .

ويجوز أن تكون جملة { يبايعنك } جواب { إذا } .

ومعنى { إذا جاءك المؤمنات } ، أي الداخلات في جماعة المؤمنين على الجملة والإِجمال ، لا يعلمن أصولَ الإِسلام وبيّنه بقوله : { يبايعنك } فهو خبر مراد به الأمر ، أي فليبايعنك وتكون جملة { فبايعهن } تفريعاً لجملة { يبايعنك } وليبنى عليها قوله : { واستغفر لهن الله } .

وقد شملت الآية التخلي عن خصال في الجاهلية وكانت السرقة فيهن أكثر منها في الرجال . قال الأعرابي لما وَلدت زوجهُ بنتاً : والله ما هي بِنعْمَ الولدُ بَزّها بكاء ونَصرُها سرقة .

والمراد بقتل الأولاد أمران : أحدهما الوأد الذي كان يفعله أهل الجاهلية ببناتهم ، وثانيهما إسقاط الأجنة وهو الإِجهاض .

وأسند القتل إلى النساء وإن كان بعضه يفعله الرجال لأن النساء كنّ يرضين به أو يَسكتن عليه .

والبهتان : الخبر المكذوب الذي لا شبهة لكاذبه فيه لأنه يبهت من ينقل عنه .

والافتراء : اختلاق الكذب ، أي لا يختلقن أخباراً بأشياء لم تقع .

وقوله : { بين أيديهن وأرجلهن } يتعلق ب { يأتين } ، وهذا من الكلام الجامع لمعان كثيرة باختلاف محامله من حقيقة ومجاز وكناية ، فالبهتان حقيقته : الإِخبار بالكذب وهو مصدر . ويطلق المصدر على اسم المفعول كالخلق بمعنى المخلوق .

وحقيقة بين الأيدي والأرجل : أن يكون الكذب حاصلاً في مكان يتوسط الأيدي والأرجل فإن كان البهتان على حقيقته وهو الخبر الكاذب كان افتراؤه بين أيديهن وأرجلهن أنه كَذب مواجهةً في وجه المكذوب عليه كقولها : يا فلانة زنيت مع فلان ، أو سرقتتِ حلي فلانة . لتبهتها في ملأٍ من الناس ، أو أنت بنت زِنا ، أو نحو ذلك .

وإن كان البهتان بمعنى المكذوب كان معنى افترائه بين أيديهن وأرجلهن كناية عن ادعاء الحمل بأن تشرب ما ينفخ بطنها فتوهم زوجها أنها حامل ثم تظهر الطلق وتأتي بولد تلتقطه وتنسبه إلى زوجها لئلا يطلقها ، أو لئلا يرثه عصبته ، فهي تعظم بطنها وهو بين يديها ، ثم إذا وصل إبان إظهار الطلق وضعت الطفل بين رجليها وتحدثتْ وتحدث الناس بذلك فهو مبهوت عليه . فالافتراء هو ادعاؤها ذلك تأكيداً لمعنى البهتان .

وإن كان البهتان مستعاراً للباطل الشبيه بالخبرِ البهتاننِ ، كان { بين أيديهن وأرجلهن } محتملاً للكناية عن تمكين المرأة نفسها من غير زوجها يقبلها أو يحبسها ، فذلك بين يديها أو يزني بها ، وذلك بين أرجلها .

وفسره أبو مسلم الأصفهاني بالسحر إذ تعالج أموره بيديها ، وهي جالسة تضع أشياء السحر بين رجليها .

ولا يمنع من هذه المحامل أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع الرجال بمثلها . وبعض هذه المحامل لا يتصور في الرجال إذ يؤخذ لكل صنف ما يصلح له منها .

وبعد تخصيص هذه المنهيات بالذكر لخطر شأنها عمم النهي بقوله : { ولا يعصينك في معروف } والمعروف هو ما لا تنكره النفوس . والمراد هنا المعروف في الدين ، فالتقييد به إما لمجرد الكشف فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بالمعروف ، وإما لقصد التوسعة عليهن في أمر لا يتعلق بالدين كما فعلتْ بريرة إذْ لم تقبل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في إرجاعها زوجَها مُغيثاً إذ بانت منه بسبب عتقها وهو رقيق .

وقد روي في « الصحيح » عن أمّ عطية أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهنّ في هذه المبايعة عن النياحة فقبضت امرأةٌ يدها وقالت : أسعدَتْني فلانةُ أريد أن أَجزِيها . فما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فانطلقتْ ورجعت فبايَعها . وإنما هذا مثال لبعض المعروف الذي يأمرهن به النبي صلى الله عليه وسلم تركه فاش فيهن .

وورد في أَخبار أنه نهاهن عن تَبرج الجاهلية وعن أن يُحدثن الرجال الذين ليسوا بمحرم فقال عبد الرحمان بن عوف : يا نبيء الله إن لنا أضيافاً وإنا نغيب ، قال رسول الله : ليس أولئك عنيتُ . وعن ابن عباس : نهاهنّ عن تمزيق الثياب وخدش الوجوه وتقطيع الشعور والدعاء بالويل والثبور ، أي من شؤون النياحة في الجاهلية .

وروى الطبري بسنده إلى ابن عباس لمَّا أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعة على النساء كانت هندٌ بنتُ عتبةَ زوجُ أبي سفيان جالسة مع النساء متنكرة خوفاً من رسول الله أن يقتصَّ منها على شَقها بطن حمزة وإخراجِها كبدَه يوم أُحد . فلما قال : { على أن لا يشركن بالله شيئاً } ، قالت هند : وكيف نَطمع أَن يَقبل منا شيئاً لم يقبله من الرجال . فلما قال : { ولا يسرقن } . قالت هند : والله إِني لأُصيب من مَاللِ أبي سفيان هَنات فما أدري أتحل لي أم لا ؟ فقال : أبو سفيان : ما أصبتِ من شيء فيما مضى وفيما غَبَر فهو لككِ حلال . فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعَرَفها فدعاها فأتته فعاذت به ، وقالت : فاعفُ عما سلف يا نبيء الله عفا الله عنك . فقال : { ولا يَزْنِينَ } . فقالت : أَوَ تزني الحُرّة . قال : { ولا يقتلن أولادهن } . فقالت هند : ربيْناهم صغاراً وقتلتهم كباراً فأنتم وهم أعلم . تريد أن المسلمين قتلوا ابنها حنظلة بن أبي سفيان يوم بدر . فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : { ولا يأتين ببهتان يفترينه } . فقالت : والله إن البهتان لأمرٌ قبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق . فقال : { ولا يعصينك في معروف } .

فقالت : والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيَك في شيء .

فقوله : { ولا يعصينك في معروف } جامع لكل ما يخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ويأمر به مما يرجع إلى واجبات الإِسلام . وفي الحديث عن أم عطية قالت : كان من ذلك : أن لا ننوح . قالت : فقلت يا رسول الله إلا آل فلان فإنهم كانوا أسعدوني في الجاهلية فلا بدّ أن أَسعدهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ آل فلان ، وهذه رخصة خاصة بأم عطية وبمن سَمَّتهم . وفي يوم معيّن .

وقوله : { فبايعهن } جواب { إذا } تفريع على { يبايعنك } ، أي فأقبل منهنّ ما بايعنك عليه لأن البيعة عنده من جانبين ولذلك صيغت لها صيغة المفاعلة .

{ واستغفر لهن الله } ، أي فيما فرط منهنّ في الجاهلية مما خص بالنهي في شروط البيعة وغير ذلك . ولذلك حذف المفعول الثاني لفعل { استغفر } .