تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِذَا ٱلنُّفُوسُ زُوِّجَتۡ} (7)

وقوله : { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } أي : جمع كل شكل إلى نظيره ، كقوله : { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ } [ الصافات : 22 ] .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن الصباح البزار ، حدثنا الوليد بن أبي ثور ، عن سمَاك ، عن النعمان بن بشير أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } قال : الضرباء ، كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون عمله " ، وذلك بأن الله عز وجل يقول : { وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } [ الواقعة : 7 - 10 ] ، قال : هم الضرباء{[29754]} .

ثم رواه ابن أبي حاتم من طرق أخر ، عن سماك بن حرب ، عن النعمان بن بشير أن عُمَر خطب الناس فقرأ : { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } فقال : تَزَوّجها : أن تؤلف{[29755]} كل شيعة إلى شيعتهم . وفي رواية : هما الرجلان يعملان العمل فيدخلان به الجنة أو النار{[29756]} .

وفي رواية عن النعمان قال : سئل عمر عن قوله تعالى : { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } فقال : يقرن بين الرجل الصالح مع الرجل الصالح ، ويقرن بين الرجل السوء مع الرجل السوء في النار ، فذلك تزويج الأنفس .

وفي رواية عن النعمان أن عمر قال للناس : ما تقولون في تفسير هذه الآية : { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } ؟ فسكتوا . قال : ولكن هو الرجل يزوج نظيره من أهل الجنة ، والرجل يزوج نظيره من أهل النار ، ثم قرأ : { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ }

وقال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } قال : ذلك حين يكون الناس أزواجا ثلاثة .

وقال ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد : { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } قال : الأمثال من الناس جمع بينهم . وكذا قال الربيع بن خُثَيم{[29757]} والحسن ، وقتادة . واختاره ابن جرير ، وهو الصحيح .

قول آخر في قوله : { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } قال ابن أبي حاتم :

حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن أشعث [ بن سوار ]{[29758]} ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : يسيل واد من أصل العرش من ماء فيما بين الصيحتين ، ومقدار ما بينهما أربعون عاما ، فينبت منه كل خلق بلي ، من الإنسان أو طير أو دابة ، ولو مر عليهم مار قد عرفهم قبل ذلك لعرفهم على الأرض . قد نبتوا ، ثم تُرسَل الأرواح فتزوج الأجساد ، فذلك قول الله تعالى{[29759]} : { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ }

وكذا قال أبو العالية ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والشعبي ، والحسن البصري أيضا في قوله : { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } أي : زوجت بالأبدان . وقيل : زوج المؤمنون بالحور العين ، وزوج الكافرون بالشياطين . حكاه القرطبي في " التذكرة " {[29760]} .


[29754]:- (3) ورواه ابن مردويه في تفسيره، كما في الدر المنثور (8/429).
[29755]:- (4) في أ: "أن يؤلف الله".
[29756]:- (5) ورواه أبو بكر بن حمدان كما في مسند عمر (2/620) للمؤلف من طريق خلف بن الوليد، عن إسرائيل عن سماك بنحوه، ورواه عبد الرزاق في تفسيره (2/284، 285)، عن الثوري، عن سماك، عن النعمان، وعن إسرائيل، عن سماك، عن النعمان، ورواه الحاكم في المستدرك (2/515) من طريق سفيان عن سماك، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه
[29757]:- (1) في أ: "خيثم".
[29758]:- (2) زيادة من م.
[29759]:- (3) في م، أ: "قول الله عز وجل".
[29760]:- (4) التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة (ص 213).
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذَا ٱلنُّفُوسُ زُوِّجَتۡ} (7)

و «تزويج النفوس » : هو تنويعها ، لأن الأزواج هي الأنواع والمعنى : جعل الكافر مع الكافر والمؤمن مع المؤمن وكل شكل مع شكله ، رواه النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم{[11655]} ، وقاله عمر بن الخطاب وابن عباس ، وقال : هذا نظير قوله تعالى :

{ وكنتم أزواجاً ثلاثة } [ الواقعة : 7 ] وفي الآية على هذا حض على خليل الخبر ، فقد قال عليه السلام : «المرء مع من أحب »{[11656]} ، وقال : «فلينظر أحدكم من يخالل »{[11657]} ، وقال الله تعالى : { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين }{[11658]} [ الزخرف : 67 ] ، وقال مقاتل بن سليمان : زوجت نفوس المؤمنين بزوجاتهم من الحور وغيرهن ، وقال عكرمة والضحاك والشعبي : زوجت الأرواح الأجساد ، وقرأ عاصم : «زوجت » غير مدغم{[11659]}


[11655]:أخرج ابن مردويه عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (وإذا النفوس زوجت)، قال: (هما الرجلان يعملان العمل يدخلان الجنة والنار). وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والحاكم وصححه والبيهقي في البعث، وأبو نعيم في الحلية، عن النعمان بن بشير، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سئل عن قوله: (وإذا النفوس زوجت)، قال: يقرن بين الرجل الصالح مع الصالح في الجنة، ويقرن بين الرجل السوء مع السوء في النار، فذلك تزويج الأنفس. وفي رواية لابن أبي حاتم عن النعمان بن بشير: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإذا النفوس زوجت) قال: الضرباء، كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون عمله، وذلك بأن الله عز وجل يقول: (وكنتم أزواجا ثلاثة، فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة، والسابقون السابقون) قال: هو الضرباء.
[11656]:أخرجه البخاري في الأدب، ومسلم في البر، والترمذي في الزهد والدعوات، والدارمي في الرقاق، وأحمد في عشرات من المواضع، ولفظه كما في مسند أحمد (3/104): عن أنس قال: كان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية فيسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء أعرابي فقال: يا رسول الله متى قيام الساعة؟ وأقيمت الصلاة فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ من صلاته قال: أين السائل عن الساعة؟ قال: أنا يا رسول الله، قال: وما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها من كثير عمل لا صلاة ولا صيام، إلا أني أحب الله ورسوله ،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحب، قال أنس: فما رأيت المسلمين فرحوا بعد الإسلام بشيء ما فرحوا به.
[11657]:هذا جزء من حديث أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة ، ولفظه كما ذكره السيوطي في الجامع الصغير: (الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل). وقد رمز له السيوطي بأنه حديث حسن.
[11658]:من الآية 67 من سورة الزخرف.
[11659]:الذي في الأصول: (زوجت) بدون ضبط، وقد أخذنا الضبط عن البحر المحيط حيث قال: "على فوعلت والمفاعلة تكون بين اثنين".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِذَا ٱلنُّفُوسُ زُوِّجَتۡ} (7)

وقوله تعالى : { وإذا النفوس زوجت } شروع في ذكر الأحوال الحاصلة في الآخرة يوم القيامة وقد انتقل إلى ذكرها لأنها تحصل عقب الستة التي قبلها وابتدىء بأولها وهو تزويج النفوس ، والتزويج : جعل الشيء زوجاً لغيره بعد أن كان كلاهما فرداً ، والتزويج أيضاً : جعل الأشياء أنواعاً متماثلة قال تعالى : { ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين } [ الرعد : 3 ] لأن الزوج يطلق على النوع والصنف من الأشياء والنفوس : جمع نفس ، والنفس يطلق على الروح ، قال تعالى : { يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك } [ الفجر : 27 ، 28 ] وقال : { أخرجوا أنفسكم } [ الأنعام : 93 ] .

وتطلق النفس على ذات الإنسان قال تعالى : { ولا تقتلوا النفس التي حرم اللَّه إلا بالحق } [ الأنعام : 151 ] وقال : { هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم } [ الجمعة : 2 ] وقال : { فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم } [ النور : 61 ] أي فليسلم الداخل على أمثاله من الناس .

فيجوز أن يكون معنى النفوس هنا الأرواح ، أي تزوج الأرواح بالأجساد المخصصة لها فيصير الروح زَوجاً مع الجسد بعد أن كان فرداً لا جسم له في برزخ الأرواح ، وكانت الأجساد بدون أرواح حين يعاد خلقها ، أي وإذا أعطيت الأرواح للأجساد . وهذا هو البعث وهوالمعنى المتبادر أولاً ، وروي عن عكرمة .

ويجوز أن يكون المعنى وإذا الأشخاص نُوعت وصنفت فجعلت أصنافاً : المؤمنون ، والصالحون ، والكفار ، والفجار ، قال تعالى : { وكنتم أزواجاً ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون } [ الواقعة : 7 10 ] الآية .

ولعل قصد إفادة هذا التركيب لهاذين المعنيين هو مقتضِيَ العدول عن ذكر ما زُوجت النفوس به . وأول منازل البعث اقتران الأرواح بأجسادها ، ثم تقسيم الناس إلى مراتبهم للحشر ، كما قال تعالى : { ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون } [ الزمر : 68 ] ثم قال : { وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً } [ الزمر : 71 ] ثم قال : { وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً } [ الزمر : 73 ] الآية .

وقد ذكروا معاني أخرى لتزويج النفوس في هذه الآية غير مناسبة للسياق .