وقوله تعالى : { يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ } فسر ذلك ابن مسعود بيوم بدر . وهذا قول جماعة ممن وافق ابن مسعود على تفسيره الدخان بما تقدم ، وروي أيضًا عن ابن عباس [ وجماعة ]{[26197]} من رواية العوفي ، عنه . وعن أبي بن كعب وجماعة ، وهو محتمل .
والظاهر أن ذلك يوم القيامة ، وإن كان يوم بدر يوم بطشة أيضًا .
قال{[26198]} ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية ، حدثنا خالد الحذاء عن عكرمة قال : قال ابن عباس : قال ابن مسعود : البطشة الكبرى : يوم بدر ، وأنا أقول : هي يوم القيامة {[26199]} .
وهذا إسناد صحيح عنه ، وبه يقول الحسن البصري ، وعكرمة في أصح الروايتين{[26200]} ، عنه .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَىَ إِنّا مُنتَقِمُونَ * وَلَقَدْ فَتَنّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ * أَنْ أَدّوَاْ إِلَيّ عِبَادَ اللّهِ إِنّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } .
يقول تعالى ذكره : إنكم أيها المشركون إن كشفت عنكم العذاب النازل بكم ، والضرّ الحالّ بكم ، ثم عدتم في كفركم ، ونقضتم عهدكم الذي عاهدتم ربكم ، انتقمت منكم يوم أبطش بكم بطشتي الكبرى في عاجل الدنيا ، فأهلككم ، وكشف الله عنهم ، فعادوا ، فبطش بهم جلّ ثناؤه بطشته الكبرى في الدنيا ، فأهلكهم قتلاً بالسيف . وقد اختلف أهل التأويل في البطشة الكبرى ، فقال بعضهم : هي بطشة الله بمشركي قريش يوم بدر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، عن ابن مسعود ، أنه قال : البطشة الكبرى : يوم بدر .
حدثني عبد الله بن محمد الزهري ، قال : حدثنا مالك بن سعير ، قال : حدثنا الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق قال : قال يوم بدر ، البطشة الكبرى .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا أيوب ، عن محمد ، قال : نبئت أن ابن مسعود كان يقول : يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرَى يوم بدر .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ليث ، عن مجاهد يَوْم نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرَى قال : يوم بدر .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرَى قال : يوم بدر .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، قال : سمعت أبا العالية في هذه الاَية يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرَى قال : يوم بدر .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرَى إنّا مُنْتَقِمُونَ قال : يعني يوم بدر .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا عثام بن عليّ ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، قال : قلت : ما البطشة الكبرى فقال : يوم القيامة ، فقلت : إن عبد الله كان يقول : يوم بدر قال : فبلغني أنه سُئل بعد ذلك فقال : يوم بدر .
حدثنا أبو كُرَيب وأبو السائب قالا : حدثنا ابن إدريس ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، بنحوه .
حدثنا بشر ، حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي الخليل ، عن مجاهد ، عن أبيّ بن كعب ، قال : يوم بدر .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرَى : يوم بدر .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الكُبْرَى قال : هذا يوم بدر . وقال آخرون : بل هي بطشة الله بأعدائه يوم القيامة . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا خالد الحذّاء ، عن عكرمة ، قال : قال ابن عباس : قال ابن مسعود : البطشة الكبرى : يوم بدر ، وأنا أقول : هي يوم القيامة .
حدثنا أبو كُرَيب وأبو السائب ، قالا : حدثنا ابن دريس ، قال : حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، قال : مرّ بي عكرمة ، فسألته عن البطشة الكبرى فقال : يوم القيامة قال : قلت : إن عبد الله بن مسعود كان يقول : يوم بدر ، وأخبرني من سأله بعد ذلك فقال : يوم بدر .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرَى قال قتادة عن الحسن : إنه يوم القيامة .
وقد بيّنا الصواب في ذلك فيما مضى ، والعلة التي من أجلها اخترنا ما أخترنا من القول فيه .
هذا هو الانتقام الذي وُعد به الرسول صلى الله عليه وسلم وتُوعِّد به أيمة الكفر . والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن قوله : { إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون } [ الدخان : 15 ] فإن السامع يُثار في نفسه سؤال عن جزائهم حيث يعودون إلى التولي والطعْن فأجيب بأن الانتقام منهم هو البطشة الكبرى ، وهي الانتقام التامّ ، ولأجل هذا التطلع والتساؤل أكدَا بخبر بحرف التأكيد دفعاً للتردد .
وأصل تركيب الجملة : إنا منتقمون يوم نبطش البطشة الكبرى ، ف { يوم } منصوب على المفعول فيه لاسم الفاعل وهو { منتقمون } .
وتقدم على عامله للاهتمام به لِتهويله ولا يمنع من هذا التعليق أن العامل في الظرف خبر عن ( إنَّ ) بناء على الشائع من كلام النحاة أن ما بعد ( إنَّ ) لا يعمل فيما قبلها فإن الظروف ونحوها يتوسع فيها .
و { البطشة الكبرى } : هي بطشة يوم بدر فإن ما أصاب صناديد المشركين يومئذٍ كان بطشة بالشرك وأهلِه لأنهم فقدوا سادتهم وذوي الرأي منهم الذين كانوا يسيّرون أهل مكة كما يريدون .
والبطشة : واحدة البطش وهو : الأخذ الشديد بعنف ، وتقدم في قوله تعالى : { أم لهم أيد يبطشون بها } في سورة الأعراف ( 195 ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يوم نبطش البطشة الكبرى} يعني العظمى، فكانت البطشة في المدينة يوم بدر، أكثر مما أصابهم من الجوع بمكة، فذلك قوله: {إنا منتقمون} بالقتل، وضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم، وعجل الله أرواحهم إلى النار...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
إنكم أيها المشركون إن كشفت عنكم العذاب النازل بكم، والضرّ الحالّ بكم، ثم عدتم في كفركم، ونقضتم عهدكم الذي عاهدتم ربكم، انتقمت منكم يوم أبطش بكم بطشتي الكبرى في عاجل الدنيا فأهلككم، وكشف الله عنهم فعادوا، فبطش بهم جلّ ثناؤه بطشته الكبرى في الدنيا، فأهلكهم قتلاً بالسيف.
وقد اختلف أهل التأويل في البطشة الكبرى؛ فقال بعضهم: هي بطشة الله بمشركي قريش يوم بدر...
وقال آخرون: بل هي بطشة الله بأعدائه يوم القيامة...
وقد بيّنا الصواب في ذلك فيما مضى، والعلة التي من أجلها اخترنا ما أخترنا من القول فيه.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرَى} والبطشة الكبرى هي العقوبة الكبرى، وفيها قولان:.. يحتمل: ثالثاً: أنها قيام الساعة لأنها خاتمة بطشاته في الدنيا.
{إِنَّا مُنتَقِمُونَ} أي من أعدائنا.
وفي الفرق بين النقمة والعقوبة ثلاثة أوجه:
أحدها: أن العقوبة بعد المعصية لأنها من العاقبة، والنقمة قد تكون قبلها، قاله ابن عيسى.
الثاني: أن العقوبة قد تكون في المعاصي، والنقمة قد تكون في خلقه لأجله. الثالث: أن العقوبة ما تقدرت، والانتقام غير مقدر...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقوله: (يوم نبطش البطشة الكبرى) فالبطش: الأخذ بشدة وقع الألم... وأكثر ما يكون بوقوع الضرب المتتابع، فأجري إفراغ الألم المتتابع مجراه...
وقوله (إنا منتقمون) إخبار منه تعالى أنه ينتقم من هؤلاء الكفار بإنزال العقوبة بهم، وقد فرق قوم بين النقمة والعقوبة: بأن النقمة ضد النعمة، والعقوبة ضد المثوبة، فهي مضمنة بأنها بعد المعصية في الصفة، وليس كذلك النقمة، وإنما تدل الحكمة على أنها لا تقع من الحكيم إلا لأجل المعصية.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم أخبرهم بأنه ينتقم منهم بسبب هذا كله في يوم البطشة، وقدم اليوم وذكره على الذي عمل فيه تهمماً به وتخويفاً منه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان اليوم قد يراد به الزمن المجتمع في حكم من الأحكام، وكان زمان الدخان إن كان المراد به القحط الذي كان قبل يوم بدر أو ما يقرب من الساعة يسمى يوماً واحداً لاتحاد ذلك الحكم، أبدل من {يوم الدخان} قوله تهديداً بشق الأكباد: {يوم نبطش} أي بما لنا من العظمة، والبطش: الأخذ بقوة {البطشة الكبرى} أي التي تنحل لها عراهم وتنخل بها عزائمهم وقواهم ولا يحتملها حقائقهم ولا مناهم، سواء كانت البطشة يوم بدر أو غيره فيخسر هنالك من كشف حال الابتلاء عن طغيانه، وتمرده على ربه وعصيانه، ويجوز أن يكون هذا ظرفاً لعائدون. ولما كان ما له سبحانه من الحلم وطول الإمهال موجباً لأهل البلادة والغلظة الشك في وعيده، قال مؤكداً {إنا منتقمون} أي ذلك صفة ثابتة لم نزل نفعلها بأعدائنا لنسر أضدادهم في أوليائنا...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إن السامع يُثار في نفسه سؤال عن جزائهم حيث يعودون إلى التولي والطعْن فأجيب بأن الانتقام منهم هو البطشة الكبرى، وهي الانتقام التامّ، ولأجل هذا التطلع والتساؤل أكدَا بخبر بحرف التأكيد دفعاً للتردد...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
«منتقمون» من مادة الانتقام، وكما قلنا سابقاً فإنّها تعني العقوبة والجزاء، وإن كانت كلمة الانتقام تعطي معنى آخر في محادثاتنا اليومية في عصرنا الحاضر، حيث تعني العقوبة المقترنة بإخماد نار الغضب وتفريغ ما في القلب من انفعال وحب الانتقام، إلاّ أن هذا الأمر لا وجود له في المعنى اللغوي للكلمة.