وقوله : وَلا تُطِعِ الكافِرِينَ وَالمُنافِقِينَ يقول : ولا تطع لقول كافر ولا منافق ، فتسمع منه دعاءه إياك إلى التقصير في تبليغ رسالات الله إلى من أرسلك بها إليه من خلقه وَدَعْ أذَاهُمْ يقول : وأعرض عن أذاهم لك ، واصبر عليه ، ولا يمنعك ذلك عن القيام بأمر الله في عباده ، والنفوذ لما كلّفك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَدَعْ أذَاهُمْ قال : أعرض عنهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَدَعْ أذَاهُمْ : أي اصبر على أذاهم .
وقوله : وَتَوَكّلْ على اللّهِ يقول : وفوّض إلى الله أمورك ، وثق به ، فإنه كافيك جميع من دونه ، حتى يأتيك بأمره وقضاؤه وكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً يقول : وحسبك بالله قيما بأمورك ، وحافظا لك وكالئا .
{ ولا تطع الكافرين والمنافقين } تهييج له على ما هو عليه من مخالفتهم . { ودع أذاهم } إيذاءهم إياك ولا تحتفل به ، أو إيذاءك إياهم مجازاة أو مؤاخذة على كفرهم ، ولذلك قيل إنه منسوخ . { وتوكل على الله } فإنه يكفيكهم . { وكفى بالله وكيلا } موكولا إليه الأمر في الأحوال كلها ، ولعله سبحانه وتعالى لما وصفه بخمس صفات قابل كلا منها بخاطب يناسبه ، فحذف مقابل الشاهد وهو الأمر بالمراقبة لان ما بعده كالتفصيل له ، وقابل المبشر بالأمر والسراج المنير بالاكتفاء به فإن من أناره الله برهانا على جميع خلقه كان حقيقا بأن يكتفى به عن غيره .
وقوله تعالى ، { ولا تطع الكافرين والمنافقين } نهي له عن السماع منهم في أشياء كانوا يطلبونها مما لا يجب وفي أشياء كانوا يدخلونها مدخل النصائح وهي غش إلى نحو هذا المعنى ، وقوله تعالى : { ودع آذاهم } يحتمل معنيين : أحدهما أن يأمره بترك أن يؤذيهم هو ويعاقبهم فكأن المعنى واصفح عن زللهم ولا تؤذهم فالمصدر على هذا مضاف إلى المفعول ، ونسخ من الآية على هذا التأويل ما يخص الكافرين وناسخه آية السيف ، والمعنى الثاني أن يكون قوله { ودع آذاهم } بمعنى أعرض عن أقوالهم وما يؤذونك به ، فالمصدر على هذا التأويل مضاف إلى الفاعل ، وهذا تأويل مجاهد . ثم أمره تعالى بالتوكل عليه ، وأنسه بقوله { وكفى بالله وكيلاً } ، ففي قوة الكلام وعد بنصر وتقدم القول في { كفى بالله } ، والوكيل الحافظ القائم على الأمر .
جاء في مقابلة قوله : { وبشر المؤمنين } [ الأحزاب : 47 ] بقوله : { ولا تطع الكافرين والمنافقين } تحذيراً له من موافقتهم فيما يسألون منه وتأييداً لفعله معهم حين استأذنه المنافقون في الرجوع عن الأحزاب فلم يأذن لهم ، فنُهي عن الإِصغاء إلى ما يرغبونه فيترك ما أحلّ له من التزوّج ، أو فيعطي الكافرين من الأحزاب ثَمر النخل صلحاً أو نحو ذلك ، والنهي مستعمل في معنى الدوام على الانتهاء .
وعلم من مقابلة أمر التبشير للمؤمنين بالنهي عن طاعة الكافرين والمنافقين أن الكافرين والمنافقين هم متعلَّق الإِنذار من قوله : { ونذيراً } [ الأحزاب : 45 ] لأن وصف « بشيراً » قد أخذ متعلّقه فقد صار هذا ناظراً إلى قوله : { ونذيراً } [ الأحزاب : 45 ] .
وقوله : { ودع أذاهم } يجوز أن يكون فعل { دع } مراداً به أن لا يعاقبهم فيكون { دع } مستعملاً في حقيقته وتكون إضافة أذاهم من إضافة المصدر إلى مفعوله ، أي دع أذاك إياهم . ويجوز أن يكون { دع } مستعملاً مجازاً في عدم الاكتراث وعدممِ الاغتمام ، فما يقولونه مما يؤذي ويكون إضافة أذاهم من إضافة المصدر إلى فاعله ، أي لا تكترث بما يصدر منهم من أذىً إليك فإنك أجلّ من الاهتمام بذلك ، وهذا من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه . وأكثر المفسرين اقتصروا على هذا الاحتمال الأخير . والوجه : الحمل على كلا المعنيين ، فيكون الأمر بترك أذاهم صادقاً بالإِعراض عما يؤذون به النبي صلى الله عليه وسلم من أقوالهم ، وصادقاً بالكف عن الإِضرار بهم ، أي أن يترفع النبي صلى الله عليه وسلم عن مؤاخذتهم على ما يصدر منهم في شأنه ، وهذا إعراض عن أذى خاص لا عموم له ، فهو بمنزلة المعرف بلام العهد ، فليست آيات القتال بناسخة له .
وهذا يقتضي أنه يترك أذاهم ويكلهم إلى عقاب آجل وذلك من معنى قوله : { شاهداً } [ الأحزاب : 45 ] لأنه يشهد عليهم بذلك كقوله : { فتول عنهم حتى حين وأبصرهم } [ الصافات : 174 175 ] .
والتوكل : الاعتماد وتفويض التدبير إلى الله . وقد تقدم عند قوله تعالى : { فإذا عزمت فتوكل على الله } في سورة آل عمران ( 159 ) وقوله : { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } في سورة العقود ( 23 ) ، أي اعتمد على الله في تبليغ الرسالة وفي كفايته إياك شر عدوك ، فهذا ناظر إلى قوله : وداعياً إلى الله } [ الأحزاب : 46 ] .
وقوله : { وكفى بالله وكيلاً } تذييل لجملة { وتوكل على الله } .
والمعنى : فإن الله هو الوكيل الكافي في الوكالة ، أي المجزي من توكّل عليه ما وكله عليه فالباء تأكيد ، وتقدم قوله : { وكفى بالله وكيلاً } في سورة النساء ( 81 ) . والتقدير : كفى الله و { وكيلاً } تمييز .
فقد جاءت هذه الجمل الطلبية مقابلة وناظرة للجمل الإِخبارية من قوله : { إنا أرسلناك شاهداً إلى وسراجاً منيراً } [ الأحزاب : 45 ، 46 ] فقوله : { وبشر المؤمنين } [ الأحزاب : 47 ] ناظراً إلى قوله : { ومبشراً } [ الأحزاب : 45 ] .
وقوله : { ولا تطع الكافرين } ناظر إلى قوله : { ونذيراً } [ الأحزاب : 45 ] لأنه جاء في مقابلة بشارة المؤمنين كما تقدم .
وقوله : { ودع أذاهم } ناظر إلى قوله : { شاهداً } [ الأحزاب : 45 ] كما علمت . وقوله : { وتوكل على الله } ناظر إلى قوله : { وداعياً إلى الله } [ الأحزاب : 46 ] . وأما قوله : { وسراجاً منيراً } [ الأحزاب : 46 ] فلم يذكَر له مقابل في هذه المطالب إلا أنه لما كان كالتذييل للصفات كما تقدم ناسب أن يقابله ما هو تذييل للمطالب ، وهو قوله : { وكفى بالله وكيلاً } . وهذا أقرب من بعض ما في « الكشاف » من وجوه المقابلة ومن بعض ما للآلوسي فانظرهما واحكم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.