وهناك حالة أخرى عكسَ ما تقدم ، وهي امرأةُ فرعون آسيةُ بنت مزاحم ، كانت زوجةً لرجل من شرار الناس ، وهي مؤمنة مخلصة في إيمانها : { إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين } . وهذا كله يتفق مع قاعدة الإسلام { أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } [ النجم : 38 ] وقوله تعالى : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت } [ البقرة : 286 ] .
{ امرأة فرعون } : أي آسيا بنت مزاحم آمنت بموسى .
هذا مثل وآخر في عدم تضرر المؤمن بقرابة الكافر ولو كانت القرابة الزوجية وما أقواها ، وهو - المثل - امرأة فرعون الكافر الظالم آسيا بنت مزاحم كانت قد آمنت بموسى مع من آمن فلما عرف فرعون إيمانها أمر بقتلها فلما علمت بعزم الطاغية على قتلها قالت في مناجاتها لربها : رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله الذي هو الكفر والظلم حتى لا أكون كافرة بك ولا ظالمة لأحد من خلقك ، ونجني من القوم الظالمين أي من عذابهم فُشدت أيديها وأرجلها لتلقى عليها صخرة عظيمة إن هي أصرت على الإيمان فرفعت بصرها إلى السماء فرأت بيتها في الجنة ففاضت روحها شوقاً إلى الله وإلى بيتها في الجنة وقد رأته فوصلت الصخرة إليها بعد أن فاضت روحها فنجاها الله من عذاب القتل الذي أراده لها فرعون وعصابته الظلمة الكافرون .
{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ } وهي آسية بنت مزاحم رضي الله عنها { إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } فوصفها الله بالإيمان والتضرع لربها ، وسؤالها لربها أجل المطالب ، وهو دخول الجنة ، ومجاورة الرب الكريم ، وسؤالها أن ينجيها الله من فتنة فرعون وأعماله الخبيثة ، ومن فتنة كل ظالم ، فاستجاب الله لها ، فعاشت في إيمان كامل ، وثبات تام ، ونجاة من الفتن ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : { كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء ، إلا مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم ، وخديجة بنت خويلد ، وفضل عائشة على النساء ، كفضل الثريد على سائر الطعام } .
وقوله { رب ابن لي عندك بيتا في الجنة } قيل ان فرعون لما تبين له اسلامها وتدها على الأرض بأربعة أوتاد على يديها ورجليها فقالت وهي تعذب { رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله } أي تعذيبه اياي وهذا بيان أنها لم تمل الى معصيته مع شدة ما قاست من العذاب وكذا فليكن صوالح النساء وأمر لعائشة وحفصة أن يكونا كآسية وكمريم بنت عمران
ولما أتم مثل النذارة بأن طاعة المطيع لا تنفع العاصي وإن كان أقرب الناس إلى المطيع إلا إن كان له أساس يصح البناء عليه ، ويجوز الاعتداد به والنظر إليه ، أتبعه مثل البشارة بأن عصيان العاصي لا يضر المطيع فقال : { وضرب الله } أي الملك الأعلى الذي له صفات الكمال { مثلاً للذين آمنوا } ولو كان في أدنى درجات الإيمان مبيناً لأن وصلة الكفار إذا كانت على وجه الإكراه والإجبار لا تضر { امرأت فرعون } واسمها آسية بنت مزاحم ، آمنت وعملت صالحاً فلم تضرها الوصلة بالكافر بالزوجية التي هي من أعظم الوصل ولا نفعه إيمانها
{ كل امرىء بما كسب رهين }[ الطور : 21 ] وأثابها ربها سبحانه أن جعلها زوجة خير خلقه محمد صلى الله عليه وسلم في دار كرامته بصبرها على عبادة الله وهي في{[66572]} حبالة عدوه ، وأسقط وصفه بالعبودية دليلاً على تحقيره وعدم رحمته لأنه أعدى أعدائه ، وأشار إلى وجه الشبه في المثل وهو التحيز إلى حزب الله بقدر الوسع فقال{[66573]} : { إذ } أي مثلهم مثلها حين { قالت } تصديقاً بالبعث منادية نداء الخواص بإسقاط الأداة لأجل أنها مؤمنة وإن كانت تحت كافر بنا فلم تضر صحبته شيئاً لأجل إيمانها : { رب } أي أيها المحسن إليّ بالهداية وأنا في حبالة هذا الكافر الجبار ولم تغرني بعز الدنيا وسعتها { ابن لي } .
ولما كان الجار{[66574]} مطلوباً - كما قالوا - قبل الدار ، طلبت خير جار وقدمت الظرف اهتماماً به لنصه على المجاورة ولدلالته على الزلفى فقالت : { عندك بيتاً } وعينت مرادها بالعندية فقالت : { في الجنة } لأنها{[66575]} دار المقربين فظهر من أول كلامها وآخره أن مطلوبها أخص داره ، وقد أجابها سبحانه بأن جعلها زوجة لخاتم رسله الذي هو خير خلقه وأقربهم منه ، فكانت معه في منزله الذي هو {[66576]}أعلى المنازل{[66577]} .
ولما سألت ما حيّزها إلى جناب الله سألت ما يباعدها في الدارين من أعدائه فقالت : { ونجني } أي تنجية عظيمة { من فرعون } أي فلا أكون عنده ولا تسلطه عليّ بما يضرني عندك { وعمله } أي أن أعمل بشيء منه { ونجني } أعادت العامل تأكيداً { من القوم الظالمين * } أي الناس الأقوياء العريقين في أن يضعوا أعمالهم في غير مواضعها التي أمروا بوضعها فيها فعل من يمشي في الظلام عامة ، وهم القبط ، لا تخالطني بأحد منهم ، فاستجاب الله تعالى دعاءها وأحسن إليها لأجل محبتها للمحبوب وهو موسى عليه الصلاة والسلام كما يقال : صديق{[66578]} صديقي داخل في صداقتي ، وذلك أن{[66579]} موسى عليه الصلاة والسلام لما غلب السحرة آمنت به فعذبها فرعون فماتت بعد أن أراها الله بيتها في الجنة ولم يضرها كونها تحت فرعون شيئاً لأنها كانت معذورة في ذلك ، فالآية من الاحتباك : حذف أولاً " فلم تسألا{[66580]} الجنة " لدلالة " رب ابن لي " ثانياً عليه ، وحذف ثانياً " كانت تحت كافر " لدلالة الأول عليه .