تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ ٱلۡمُنظَرِينَ} (37)

الآيات : 36 و 37 و 38 : وقوله تعالى : { قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون } { قال فإنك من المنظرين } { إلى يوم الوقت المعلوم } لعن اللعين ، وطرد عن رحمته إلى يوم الدين ؛ أي لا تدركه الهداية ، لأن الهداية في الدنيا إنما تدركه برحمته .

والرحمة في الآخرة هي العفو عما لزمه ، ووجب عليه .

مسألة ، تكلموا فيها : ما الحكمة في خلق الله تعالى إبليس مع علمه ما يكون منه من إفساد خلقه والدعاء إلى المعاصي وإنظاره { إلى يوم الوقت المعلوم } وقد علم أنه إنما ينظره ليفسد عباده ؟ فمع ما علم ما يكون منه ، فما الحكمة في خلقه ؟ .

قال بعضهم : خلق إبليس وأهل المعاصي مع علمه ذلك ليعلم أنه لم يخلق لمنافع نفسه ولا لحاجة نفسه ، وأن معاصيهم {[9859]} لا تضره ، ولا تدخل نقصانا في ملكه . فخلقه مع علمه لما يكون منه ليعلم أنه لم يخلق الخلق لمنافع نفسه ولا لحاجته ولكن لمنافع أنفسهم ولحاجتهم .

وقال بعضهم : خلق الأعداء والأولياء نظرا للأولياء ، ليعلم أولياؤه الاختصاص الذي اختصهم به ، ولو كانوا جميعا أولياءه لم يعرفوا فضيلة الله واختصاصه إياهم . وهكذا النعم وإحسان الله لا يعرف بنفس النعم ونفس الإحسان ، وإنما تعرف بالبلايا والشدائد التي تحل . فعلى ذلك الأولياء ؛ لو لم يكن الأعداء لم يعرفوا اختصاص الله لهم وفضائله التي أكرمهم بها .

وقال بعضهم : خلق الأعداء نظرا للأولياء على ما ذكرنا ، لكن من وجه آخر : وأصله أن الله عز وجل جائز أن ينشىء أشياء ، فيها حكمة وسرية ، لا يبلغها علم الخلق ، ولا تدركها حكمة البشر على ما جعل النعم الظاهرة ، فيها حكمة معنى ، لا يبلغه علم الخلق ولا حكمة {[9860]} البشر . وكذلك البلايا والشدائد ، فيها حكمة ، لا يبلغها علم الخلق .

فعلى ذلك جائز أنه خلق إبليس والعصاة والغواة لحكمة ، جعل في ذلك حكمة ، لا يبلغها علم الخلق ، ولا تدركها حكمة البشر على ما ذكرنا من النعم الظاهرة والشدائد الظاهرة .

وأصله أن الله تعالى خلق الخلق على علم منه أنهم ، يعصون ، ويعادون ، لكن ( مكن لهم ) {[9861]} من الاختيار والإيثار ما به نجاتهم وهلاكهم إذا اختاروا / 277 – أ / ذلك . فإذا اختاروا ما به نجاتهم نجوا ، وإذا اختاروا ما به هلاكهم هلكوا ، فيكون هلاكهم باختيارهم ونجاتهم باختيارهم .

وأصله ما ذكرنا في غير موضع أنه أنشأهم في هذه الدنيا ليمتحنهم فيها ، وفي خلق ما ذكر من إبليس وغيره من الأعداء ليتم لهم المحنة . وفي ترك خلق ذلك ذهاب المحنة ، وهي دار الامتحان .

وقوله تعالى : { قال فإنك من المنظرين } { إلى يوم الوقت المعلوم } قال بعض أهل التأويل : إلى النفخة الأولى . وقيل : إلى النفخة الثانية ، ونحوه . لكنا لا نعلم ذلك . وكأنه تعالى أنظره { إلى يوم الوقت المعلوم } ولم يبين له ذلك الوقت ، ولم يطلعه على حينه{[9862]} قال : { وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه } الآية ( الأنفال : 48 ) أخبر أنه يرى ما لا يرون هم ، وأنه يخاف الله . ولو كان بين له الوقت المعلوم لكان لا يخاف هلاكه قبل ذلك الوقت .

فهذا يدل على ما ذكرنا ، والله أعلم ؟


[9859]:في الأصل وم: معاصيه.
[9860]:في م: حكم.
[9861]:في الأصل: كن، في، م: كن لهم.
[9862]:في الأصل وم: حيث.