تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم} بما عملتم {في الأيام الخالية} في الدنيا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول لهم ربهم جل ثناؤه: كلوا -معشر من رضيت عنه، فأدخلته جنتي- من ثمارها، وطيب ما فيها من الأطعمة، واشربوا من أشْرِبتها، هَنِيئا لَكُمْ، لا تتأذون بما تأكلون، ولا بما تشربون، ولا تحتاجون من أكل ذلك إلى غائط ولا بول.
"بِمَا أسْلَفْتُمْ فِي الأيّامِ الخالِيَةِ": كلوا واشربوا هنيئا: جزاء من الله لكم، وثوابا بما أسلفتم، أو على ما أسلفتم: أي على ما قدّ متم في دنياكم لآخرتكم من العمل بطاعة الله.
"في الأيام الخالية" : في أيام الدنيا التي خلت فمضت.
عن قتادة، قال الله "كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنيئا بِمَا أسْلَفْتُمْ فِي الأيام الخالِيَة"؛ إن أيامكم هذه أيام خالية: هي أيام فانية، تؤدي إلى أيام باقية، فاعملوا في هذه الأيام، وقدّموا فيها خيرا إن استطعتم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية}: إنما جعلتم أيامكم الخالية سلفا في أيام الدنيا، وسلف الرجل لآخر، وهو أن يعطيه قرضا ليأخذ مثله وقت الحاجة إليه، أو يسلم الرجل رأس ماله في الأشياء التي يأمل منها الربح، فكأنه يماري نفسه بجعلها سلفا ورأس مال ليأخذ ربح ما باع في الآخرة، فذلك هو الإسلاف، أو يجعل عمله للآخرة رأس ماله وما رزق من الأموال، ينفقها في سبيل الله، ويجعل ذلك رأس ماله.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يقال لهم ذلك؛ تفضلا عليهم، وامتنانا وإنعاما وإحسانا. وإلا فقد ثبت في الصحيح، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اعملوا وَسَدِّدوا وقَاربُوا واعلموا أن أحدا منكم لن يدخلَه عملُه الجنةَ". قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: " ولا أنا، إلا أن يَتَغَمَّدني الله برحمة منه وفضل"...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وإنما أفردت ضمائر الفريق الذي أوتي كتابه بيمينه فيما تقدم، ثم جاء الضمير ضمير جمع عند حكاية خطابهم، لأن هذه الضمائر السابقة حُكيت معها أفعال مما يتلبس بكل فرد من الفريق عند إتمام حسابه، وأما ضمير {كلوا واشربوا} فهو خطاب لجميع الفريق بعد حلولهم في الجنة، كما يدخل الضيوف إلى المأدبة فيُحيّي كل داخل منهم بكلام يخصه، فإذا استقروا، أقبل عليهم مضيِّفهم بعبارات الإِكرام.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ} التي انقضت بانقضاء الدنيا، فقد جاهدتم وتعبتم وصبرتم وأعطيتم لله من جهدكم الكثير مما تستحقون عليه الثواب العظيم. وإذا كان الحديث عن الأكل والشرب، فإن المسألة لا تقتصر عليهما، لأنّ السعادة الروحية التي يمنحهم الله إيّاها في رضوانه ولطفه ومحبته، لا يبلغها شيء مما يعرفه الناس من مشاعر السعادة، ولكن مناسبة الحديث عن الجنة يوحي بالحديث عن النعيم الحسي المتمثل بالأكل والشرب...
" كلوا واشربوا " أي يقال لهم ذلك . " هنيئا " لا تكدير فيه ولا تنغيص . " بما أسلفتم " قدمتم من الأعمال الصالحة . " في الأيام الخالية " أي في الدنيا . وقال : " كلوا " بعد قوله : " فهو في عيشة راضية " لقوله : " فأما من أوتي " و " من " يتضمن معنى الجمع . وذكر الضحاك أن هذه الآية نزلت في أبي سلمة عبدالله بن عبد الأسد المخزومي ، وقاله مقاتل . والآية التي تليها في أخيه الأسود بن عبد الأسد ، في قول ابن عباس والضحاك أيضا ، قاله الثعلبي . ويكون هذا الرجل وأخوه سبب نزول هذه الآيات . ويعم المعنى جميع أهل الشقاوة وأهل السعادة ، يدل عليه قوله تعالى : " كلوا واشربوا " . وقد قيل : إن المراد بذلك كل من كان متبوعا في الخير والشر . فإذا كان الرجل رأسا في الخير ، يدعو إليه ويأمر به ويكثر تبعه عليه ، دعي باسمه واسم أبيه فيتقدم حتى إذا دنا أخرج له كتاب أبيض بخط أبيض ، في باطنه السيئات وفي ظاهره الحسنات فيبدأ بالسيئات فيقرأها فيشفق ويصفر وجهه ويتغير لونه فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه " هذه سيئاتك وقد غفرت لك " فيفرح عند ذلك فرحا شديدا ، ثم يقلب كتابه فيقرأ حسناته فلا يزداد إلا فرحا ، حتى إذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه " هذه حسناتك قد ضوعفت لك " فيبيض وجهه ويؤتى بتاج فيوضع على رأسه ، ويكسى حلتين ، ويحلى كل مفصل منه ويطول ستين ذراعا وهي قامة آدم عليه السلام ، ويقال له : انطلق إلى أصحابك فأخبرهم وبشرهم أن لكل إنسان منهم مثل هذا . فإذا أدبر قال : هاؤم اقرؤوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه . قال الله تعالى : " فهو في عيشة راضية " أي مرضية قد رضيها " في جنة عالية " في السماء " قطوفها " ثمارها وعناقيدها . " دانية " أدنيت منهم . فيقول لأصحابه : هل تعرفوني ؟ فيقولون : قد غمرتك كرامة ، من أنت ؟ فيقول : أنا فلان بن فلان أبشر كل رجل منكم بمثل هذا . " كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية " أي قدمتم في أيام الدنيا .
وإذا كان الرجل رأسا في الشر ، يدعو إليه ويأمر به فيكثر تبعه عليه ، نودي باسمه واسم أبيه فيتقدم إلى حسابه ، فيخرج له كتاب أسود بخط أسود في باطنه الحسنات وفي ظاهره السيئات ، فيبدأ بالحسنات فيقرأها ويظن أنه سينجو ، فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه " هذه حسناتك وقد ردت عليك " فيسود وجهه ويعلوه الحزن ويقنط من الخير ، ثم يقلب كتابه فيقرأ سيئاته فلا يزداد إلا حزنا ، ولا يزداد وجهه إلا سوادا ، فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه " هذه سيئاتك وقد ضوعفت عليك " أي يضاعف عليه العذاب . ليس المعنى أنه يزاد عليه ما لم يعمل - قال - فيعظم للنار وتزرق عيناه ويسود وجهه ، ويكسى سرابيل القطران ويقال له : انطلق إلى أصحابك وأخبرهم أن لكل إنسان منهم مثل هذا . فينطلق وهو يقول : " يا ليتني لم أوت كتابيه . ولم أدر ما حسابيه . يا ليتها كانت القاضية " يتمنى الموت .
ولما كان كون الثمار بهذه الصفة دالاً على كثرة الري ، وكثرة الري دالة على{[68064]} المشرب{[68065]} ، وكانت من مفردات اللفظ عامة المعنى ، فكان قد أفرد الضمائر باعتبار لفظها تنصيصاً على كل فرد فرد جمع باعتبار المعنى إعلاماً باشتراك جميع أهلها في النعم حال الانفراد والاجتماع فقال : { كلوا واشربوا } أي{[68066]} مولى لهم ذلك إشارة إلى أن ذلك لا مانع منه وإلى أنهم يؤمرون به صريحاً دلالة على رضا صاحب الجنة لئلا{[68067]} يتنغص عليهم عيشهم بنوع من الأنواع الموهمة للخطر ، وحذف المفعول إيذاناً بالتعميم لئلا يظن أنه يستثني منها شيء فيكون سبب الفتنة كما وقع لآدم صلوات الله وسلامه عليه .
ولما كان المآكل والمشارب في هذه الدار تورث التخم والأمراض وفيها ما لا يلذ ، وكان ما وقع لأبينا آدم{[68068]} وأمنا حواء عليهما الصلاة والسلام على أكلة واحدة من وخامة العاقبة معروفاً ، قال مؤمناً من ذلك : { هنيئاً } أي أكلاً {[68069]}طيباً لذيذاً{[68070]} شهياً مع البعد عن كل أذى وسلامة العاقبة بكل اعتبار ولا فضلة هناك{[68071]} من بول ولا غائط ولا بصاق ولا مخاط ولا قرف {[68072]}ولا قذر{[68073]} ولا وهن ولا صداع ولا ثقل {[68074]}ولا شيء مؤذ{[68075]} .
ولما شوق إلى المسببات حملهم على أسبابها وحضهم على المسابقة في تحصيلها والمثابرة والمداومة{[68076]} على الاستكثار منها ؛ فقال زيادة في لذتهم بأن{[68077]} ذلك على وجه العوض لا امتنان عليهم في شيء منه لأحد من الخلق ، فإن أحب ما إلى الإنسان أن يأكل مما{[68078]} أفادته يمينه وحصله بعمله مع ما في ذلك من الشرف : { بما أسلفتم } أي أعطيتم من أنفسكم لآخرتكم طوعاً من الأعمال الصالحة وبما تركتم من الدنيا مما هو سافل بالنسبة إلى ما عوضتم عنه من أعمال القلب والبدن والمال { في الأيام } ولما كان سبحانه قد ضمن كل ما يشتغل به الإنسان من مصالح دنياه فهو واصل إليه لا محالة وإن فرغ أوقاته كلها لعبادة ربه قال : { الخالية * } أي الماضية في الدنيا{[68079]} التي انقضت وذهبت{[68080]} واسترحتم من تعبها والتي لا شاغل فيها عن العبادة . إما بترك الاشتغال بالمعاش للواصل إلى درجة التوكل ، وإما بالسعي على وجه الاقتصاد بقصد المساعدة للعباد في أمور هذه الدار والإفضال عليهم وأن لا يكون كلاًّ عليهم من غير اعتماد على السعي بل امتثالاً للأمر مع القناعة بالكفاف .