الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{إِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۚ فَٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٞ وَهُم مُّسۡتَكۡبِرُونَ} (22)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{إلهكم إله واحد}، فلا تعبدوا غيره، ثم نعتهم تعالى، فقال: {فالذين لا يؤمنون بالآخرة}، يعني: لا يصدقون بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال، ثم نعتهم فقال سبحانه: {قلوبهم منكرة} لتوحيد الله عز وجل أنه واحد، {وهم مستكبرون} عن التوحيد.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

معبودكم الذي يستحقّ عليكم العبادة وإفراد الطاعة له دون سائر الأشياء معبود واحد، لأنه لا تصلح العبادة إلا له، فأفردوا له الطاعة وأخلصوا له العبادة ولا تجعلوا معه شريكا سواه.

"فالّذِينَ لا يُؤمِنُونَ بالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ" يقول تعالى ذكره: فالذين لا يصدّقون بوعد الله ووعيده ولا يقرّون بالمعاد إليه بعد الممات "قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ" يقول تعالى ذكره: مستنكرة لما نقص عليهم من قدرة الله وعظمته وجميل نعمه عليهم، وأن العبادة لا تصلح إلا له والألوهة ليست لشيء غيره، يقول: "وهم مستكبرون" عن إفراد الله بالألوهة والإقرار له بالوحدانية، اتباعا منهم لما مضى عليه من الشرك بالله أسلافهم.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

قد ذكرنا في ما تقدم ما يبين إبطال ما كانوا يعبدون، وما لا يليق بأمثالها العبادة لها ونصبهم آلهة. ثم ذكر ما يبين جعل الألوهية والربوبية أنه لواحد وأنه هو المستحق لذلك دون العدد الذي عبدوه، فقال: {إلهكم إله واحد} لا العدد الذي عبد أولئك.

{فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة} يحتمل قوله {قلوبكم منكرة} للإيمان بالآخرة والبعث بعد الموت، أو {قلوبهم منكرة} لما جاء به الرسول.

{وهم مستكبرون} على ما جاء به من الله. وقوله تعالى: {وهم مستكبرون} يحتمل {مستكبرون} على رسول الله، لم يروه أهلا لخضوع أمثالهم لمثله، أو {مستكبرون} على ما دعتهم الرسل، لأن الرسل جميعا دعوا الخلق إلى وحدانية الله وجعل العبادة له.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

الاستكبار: طلب الترفع بترك الإذعان للحق.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

لا قَسِيم لِذَاتِه جوازاً أو وجوباً، ولا شبيهَ له ولا شريك.. ومَنْ لم يتحققْ بهذه الجملة قطعاً، وبشهادة البراهين له تفصيلاً فهو في دَرَكَاتِ الشِّرك واقعٌ، وعن حقائق التوحيد بمعزل، قال تعالى في صفة الكفار: {قُلُوبُهُم منكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} أي في أَسْرِ الشِّرْكِ وغطاء الكفر، ثم ليس فيه اتصاف لطلب العرفان؛ لأنَّ العلةَ -لِمَنْ أراد المعرفة- مُتاحة، وأدلة الخْلق لائحة.

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

أي: جاحدة، وهذا دليل على أن العبرة بجحد القلب وإنكاره. وقوله: (وهم مستكبرون) أي: متكبرون، ويقال: إنه لا ينكر الدين إلا متكبر. قال الله تعالى: (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون)...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

يعني أنه قد ثبت بما تقدّم من إبطال أن تكون الإلهية لغيره، وأنها له وحده لا شريك له فيها، فكان من نتيجة ثبات الوحدانية ووضوح دليلها: استمرارهم على شركهم، وأنّ قلوبهم منكرة للوحدانية، وهم مستكبرون عنها وعن الإقرار بها.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

لما تقدم وصف الأصنام، جاء الخبر الحق بالوحدانية، وهذه مخاطبة لجميع الناس معلمة بأن الله تعالى متحد وحدة تامة لا يحتاج لكمالها إلى مضاف إليها...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

والمعنى أن الذين يؤمنون بالآخرة ويرغبون في الفوز بالثواب الدائم ويخافون الوقوع في العقاب الدائم إذا سمعوا الدلائل والترغيب والترهيب، خافوا العقاب فتأملوا وتفكروا فيما يسمعونه، فلا جرم ينتفعون بسماع الدلائل، ويرجعون من الباطل إلى الحق...

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

" فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة "أي لا تقبل الوعظ ولا ينفع فيها الذكر...

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

... وقال العلماء: كل ذنب يمكن التستر به وإخفاؤه إلا التكبر فإنه فسق يلزمه الإعلان.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كانت أدلة البعث قد ثبت قيامها، واتضحت أعلامها، وعلا منارها، وانتشرت أنوارها، ساق الكلام فيها مساق ما لا خلاف إلا في العلم بوقته مع الاتفاق على أصله، لأنه من لوازم التكليف، ولما اتضح بذلك كله عجز شركائهم، أشار إلى أن منشأ العجز قبول التعدد، إرشاداً إلى برهان التمانع، فقال على طريق الاستئناف لأنه نتيجة ما مضى قطعاً: {إلهكم} أي أيها الخلق كلكم، المعبود بحق {إله} أي متصف بالإلهية على الإطلاق بالنسبة إلى كل أحد وكل زمان وكل مكان {واحد} لا يقبل التعدد -الذي هو مثار النقص- بوجه من الوجوه، لأن التعدد يستلزم إمكان التمانع المستلزم للعجز المستلزم للبعد عن رتبة الإلهية {فالذين} أي فتسبب عن هذا أن الذين {لا يؤمنون بالآخرة} أي دار الجزاء ومحل إظهار الحكم الذي هو ثمرة الملك والعدل الذي هو مدار العظمة {قلوبهم منكرة} أي جاهلة بأنه واحد، لما لها من القسوة لا لاشتباه الأمر -لما تقدم في هود من أن مادة "نكر "تدور على القوة وهي تستلزم الصلابة فتأتي القسوة {وهم} أي والحال أنهم بسبب إنكار الآخرة {مستكبرون} أي صفتهم الاستكبار عن كل ما لا يوافق أهواءهم وهو طلب الترفع بالامتناع من قبول الحق أنفة من أهله، فصاروا بذلك إلى حد يخفى عليهم معه الشمس كما قال تعالى: {ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون} [هود: 20] وربما دل {مستكبرون} على أن {منكرة} بمعنى "جاحدة ما هي به عارفة".

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

{إلهكم إله واحد} لا يشاركه شيءٌ في شيء، وهو تصريحٌ بالمدعى وتمحيضٌ للنتيجة غِبَّ إقامةِ الحجة..

{فالذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة}...والفاء للإيذان بأن إصرارَهم على الإنكار واستمرارَهم على الاستكبار وقعَ موقع النتيجة للدلائل الظاهرةِ والبراهينِ الباهرة، والمعنى أنه قد ثبت بما قُرّر من الحجج والبينات اختصاصُ الإلهية به سبحانه فكان من نتيجة ذلك إصرارُهم على ما ذكر من الإنكار والاستكبار، وبناءُ الحكم المذكورِ على الموصول للإشعار بكونه معللاً بما في حيّز الصلة، فإن الكفرَ بالآخرة وبما فيها من البعث والجزاءِ المتنوِّع إلى الثواب على الطاعة والعقابِ على المعصية يؤدِّي إلى قصر النظر على العاجل، والإعراضِ عن الدلائل السمعية والعقليةِ الموجبِ لإنكارها وإنكارِ مؤدّاها، والاستكبارِ عن اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام وتصديقِه، وأما الإيمانُ بها وبما فيها فيدعو لا محالة إلى التأمل في الآيات والدلائلِ رغبةً ورهبة فيورث ذلك يقيناً بالوحدانية وخضوعاً لأمر الله تعالى.

روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :

... وإسناد الإنكار إلى القلوب لأنها محله وهو أبلغ من إسناده إليهم، ولعله إنما لم يسلك في إسناد الاستكبار مثل ذلك لأنه أثر ظاهر كما تشير إليه الآية بعد...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وقفنا في الدرس السابق عند استعراض آيات الخالق في خلقه، وفي نعمته على عباده، وفي علمه بالسر والعلن.. بينما الآلهة المدعاة، لا تخلق شيئا، بل هي مخلوقة. ولا تعلم شيئا، بل هي ميتة لا تنتظر لها حياة. وهي لا تعلم متى يبعث عبادها للجزاء! وهذا وذلك قاطع في بطلان عبادتها، وفي بطلان عقيدة الشرك كافة.. وكان هذا هو الشوط الأول في قضية التوحيد في السورة مع إشارة إلى قضية البعث أيضا. وها نحن أولاء نبدأ في الدرس الجديد من حيث انتهينا في الدرس السابق. نبدأ شوطا جديدا، يفتتح بتقرير وحدة الألوهية، ويعلل عدم إيمان الذين لا يؤمنون بالآخرة بأن قلوبهم منكرة، فالجحود صفة كامنة فيها تصدهم عن الإقرار بالآيات البينات، وهم مستكبرون، فالاستكبار يصدهم عن الإذعان والتسليم.. ويختم بمشهد مؤثر:مشهد الظلال في الأرض كلها ساجدة لله، ومعها ما في السماوات وما في الأرض من دابة، والملائكة، قد برئت نفوسهم من الاستكبار، وامتلأت بالخوف من الله، والطاعة لأمره بلا جدال.. هذا المشهد الخاشع الطائع يقابل صورة المستكبرين المنكرة قلوبهم في مفتتح هذا الشوط الجديد. وبين المقطع والختام يستعرض السياق مقولات أولئك المستكبرين المنكرين عن الوحي والقرآن إذ يزعمون أنه أساطير الأولين. ومقولاتهم عن أسباب شركهم بالله وتحريمهم ما لم يحرمه الله، إذ يدعون أن الله أراد منهم الشر وارتضاه. ومقولاتهم عن البعث والقيامة إذ يقسمون جهدهم لا يبعث الله من يموت. ويتولى الرد على مقولاتهم جميعا. ويعرض في ذلك مشاهد احتضارهم ومشاهد بعثهم وفيها يتبرؤون من تلك المقولات الباطلة، كما يعرض بعض مصارع الغابرين من المكذبين أمثالهم، ويخوفهم أخذ الله في ساعة من ليل أو نهار وهم لا يشعرون، وهم في تقلبهم في البلاد، أو وهم على تخوف وتوقع وانتظار للعذاب.. وإلى جوار هذا يعرض صورا من مقولات المتقين المؤمنين وما ينتظرهم عند الاحتضار ويوم البعث من طيب الجزاء. وينتهي بذلك المشهد الخاشع الطائع للظلال والدواب والملائكة في الأرض والسماء...

...

ويجمع السياق بين الإيمان بوحدة الله والإيمان بالآخرة. بل يجعل إحداهما دالة على الأخرى لارتباط عبادة الله الواحد بعقيدة البعث والجزاء. فبالآخرة تتم حكمة الخالق الواحد ويتجلى عدله في الجزاء.. (إلهكم إله واحد) وكل ما سبق في السورة من آيات الخلق وآيات النعمة وآيات العلم يؤدي إلى هذه الحقيقة الكبيرة البارزة، الواضحة الآثار في نواميس الكون وتناسقها وتعاونها كما سلف الحديث. فالذين لا يسلمون بهذه الحقيقة، ولا يؤمنون بالآخرة -وهي فرع عن الاعتقاد بوحدانية الخالق وحكمته وعدله- هؤلاء لا تنقصهم الآيات ولا تنقصهم البراهين، إنما تكمن العلة في كيانهم وفي طباعهم. إن قلوبهم منكرة جاحدة لا تقر بما ترى من الآيات، وهم مستكبرون لا يريدون التسليم بالبراهين والاستسلام لله والرسول. فالعلة أصيلة والداء كامن في الطباع والقلوب!

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

استئناف نتيجةً لحاصل المحاجّة الماضية، أي قد ثبت بما تقدّم إبطال إلهية غير الله، فثبت أن لكم إلهاً واحداً لا شريك له، ولكون ما مضى كافياً في إبطال إنكارهم الوحدانية عُرّيت الجملة عن المؤكّد تنزيلاً لحال المشركين بعدما سمعوا من الأدلّة منزلة من لا يظن به أنه يتردّد في ذلك بخلاف قوله تعالى: {إن إلهكم إله واحد} في سورة البقرة (163) خطاب لأهل الكتاب.

...والتعبير عن المشركين بالموصول وصلته « الذين لا يؤمنون بالآخرة» لأنهم قد عُرفوا بمضمون الصّلة واشتهروا بها اشتهارَ لمز وتنقيص عند المؤمنين، كقوله: {وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا} [سورة الفرقان: 21]، وللإيماء إلى أن لهذه الصّلة ارتباطاً باستمرارهم على العناد، لأن انتفاء إيمانهم بالبعث والحساب قد جرّأهم على نبذ دعوة الإسلام ظهرياً فلم يتوقعوا مؤاخذة على نبذها، على تقدير أنها حقّ فينظروا في دلائل أحقّيتها مع أنهم يؤمنون بالله ولكنّهم لا يؤمنون بأنه أعدّ للناس يوم جزاء على أعمالهم.

ومعنى {قلوبهم منكرة} جاحدة بما هو واقع. استعمل الإنكار في جحد الأمر الواقع لأنه ضدّ الإقرار. فحذف متعلق {منكرة} لدلالة المقام عليه، أي منكرة للوحدانية.

وعبر بالجملة الاسمية {قلوبهم منكرة} للدلالة على أن الإنكار ثابت لهم دائم لاستمرارهم على الإنكار بعد ما تبين من الأدلّة. وذلك يفيد أن الإنكار صار لهم سجيّة وتمكّن من نفوسهم لأنهم ضروا به من حيث إنهم لا يؤمنون بالآخرة فاعتادوا عدم التبصّر في العواقب. وكذلك جملة {وهم مستكبرون} بنيت على الاسمية للدّلالة على تمكّن الاستكبار منهم. وقد خولف ذلك في آية سورة الفرقان (21) {لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتواً كبيراً} لأن تلك الآية لم تتقدّمها دلائل على الوحدانية مثل الدلائل المذكورة في هذه الآية.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

{فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة} هذا النص السامي سبق لبيان كفر من كفر، أو شرك من أشرك، فذكر أن سبب ذلك لأنهم لا يؤمنون بالآخرة، فذكر سبحانه أن عدم الإيمان بالآخرة يؤدى إلى وصفين:

الوصف الأول- أن تكون القلوب منكرة.

والوصف الثاني – أنهم مستكبرون، وذلك لأن عدم الإيمان بالآخرة، وأنه لا بعث ولا نشور ولا حساب ولا عقاب يجعل الشخص يحسب أن الإنسان خلق عبثا، وأن الحياة الدنيا هي الحياة، وهي المتاع ولا متاع سواه، فيكون قالبا للحقائق، وجاحدا دائما، إذ الدنيا وما فيها من حسيات قد استغرقته وملأته، ولا موضع لغيرها في نفسه فقلبه منكر إلا للمحسوس، فلا يؤمن بالله، ولا بالرسالة الإلهية. وأما أنهم مستكبرون، فلأن الدنيا تدليهم بغرور، ومن اعتر بهذه الحياة، وأوتى منها حظا طغى واستكبر وتجبر، كما قال تعالى: {كلا إن الإنسان ليطغى (6) أن رآه استغنى (7)} [العلق].ومن كان من طبيعته الإنكار والاستكبار، فإنه تنغلق في قلبه مفاتيح الهداية. و (الفاء) في قوله: {فالذين لا يؤمنون بالآخرة}، فاء الإفصاح، والمعنى إذا كان الله واحدا فلماذا يكفرون؟ فأجيب بأنهم يكفرون بالآخرة. وأساس الإيمان هو الإيمان بالغيب، فالذين لا يؤمنون إلا بالمحسوس، لا يؤمنون بالله ولا بالملائكة ولا بالرسالة الإلهية، ولذا ذكر سبحانه أن أولى صفات المؤمنين بالغيب، فقال تعالى: {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون (3)} [البقرة].

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

ويصفي الحق سبحانه من بعد ذلك المسألة العقدية،. وقوله الحق: {إلهكم إله واحد} تمنع أن يكون هناك أفراد غيره مثله، وقد يتصور البعض أنها تساوي كلمة "أحد". وأقول: إن كلمة "أحد "هي منع أن يكون له أجزاء؛ فهو منزه عن التكرار أو التجزيئ. وفي هذا القول طمأنه للمؤمنين بأنهم قد وصلوا إلى قمة الفهم والاعتقاد بأن الله واحد. أو: هو يوضح للكافرين أن الله واحد رغم أنوفكم، وستعودون إليه غصباً، وبهذا القول يكشف الحق سبحانه عن الفطرة الموجودة في النفس البشرية التي شهدت في عالم الذر أن الله واحد لا شريك له، وأن القيامة والبعث حق. ولكن الذين لا يؤمنون بالله وبالآخرة هم من ستروا عن أنفسهم فطرتهم، فكلمة الكفر كما سبق أن قلنا هي ستر يقتضي مستوراً، والكفر يستر إيمان الفطرة الأولى. والذين ينكرون الآخرة إنما يحرمون أنفسهم من تصور ما سوف يحدث حتماً؛ وهو الحساب الذي سيجازي بالثواب والحسنات على الأفعال الطيبة، ولعل سيئاتهم تكون قليلة؛ فيجبرها الحق سبحانه لهم وينالون الجنة. والمسرفون على أنفسهم؛ يأملون أن تكون قضية الدين كاذبة، لأنهم يريدون أن يبتعدوا عن تصور الحساب، ويتمنون ألا يوجد حساب. ويصفهم الحق سبحانه: {قلوبهم منكرة وهم مستكبرون} أي: أنهم لا يكتفون بإنكار الآخرة فقط؛ بل يتعاظمون بدون وجه للعظمة. و" استكبر "أي: نصب من نفسه كبيراً دون أن يملك مقومات الكبر، ذلك أن" الكبير "يجب أن يستند لمقومات الكبر؛ ويضمن لنفسه أن تظل تلك المقومات ذاتية فيه. ولكنا نحن البشر أبناء أغيارٍ؛ لذلك لا يصح لنا أن نتكبر؛ فالواحد منا قد يمرض، أو تزول عنه أعراض الثروة أو الجاه، فصفات وكمالات الكبر ليست ذاتية في أي منا؛ وقد تسلب ممن فاء الله عليه بها؛ ولذلك يصبح من اللائق أن يتواضع كل منا، وأن يستحضر ربه، وأن يتضاءل أمام خالقه. فالحق سبحانه وحده هو صاحب الحق في التكبر؛ وهو سبحانه الذي تبلغ صفاته ومقوماته منتهى الكمال، وهي لا تزول عنه أبداً.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

... {وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} في تفكيرهم الذي يتحرك من موقعٍ فوقي يمنعهم من احترام فكر الآخرين، وفي مشاعرهم التي تتحكم فيها عقدة الكبرياء وتمنع عنها التفاعل بمحبة مع مشاعر الآخرين. وبذلك لا يكون الاستكبار حالةً اجتماعيةً منحرفةً، بل يتحول إلى نوعٍ من الانحراف الثقافي والعقيدي والروحي، الناشئ من الإصرار على الرأي الخاطئ تحت تأثير الحالة النفسية المعقّدة.