جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأه قراء الأمصار: {فِيهِ آيَاتٌ بَيّنَاتٌ} على جماع آية، بمعنى: فيه علامات بينات. وقرأ ذلك ابن عباس: «فيه آية بينة» يعني بها: مقام إبراهيم، يراد بها علامة واحدة.
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {فِيهِ آيَاتٌ بَيّنَاتٌ} وما تلك الآيات. فقال بعضهم: مقام إبراهيم والمشعر الحرام، ونحو ذلك.
وقال آخرون: الآيات البينات {مَقَام إبرَاهيم وَمن دَخَلَهُ كانَ آمِنا}.
وقال آخرون: الآيات البينات: هو مقام إبراهيم. وأما الذين قرأوا ذلك: {فيه آية بينة} على التوحيد، فإنهم عنوا بالآية البينة: مقام إبراهيم.
وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب، قول من قال: الآيات البينات منهن مقام إبراهيم، وهو قول قتادة ومجاهد الذي رواه معمر عنهما، فيكون الكلام مرادا فيهن «منهنّ»، فترك ذكره اكتفاءً بدلالة الكلام عليها. فإن قال قائل: فهذا المقام من الآيات البينات، فما سائر الآيات التي من أجلها قيل: {آيَاتٌ بَيّنَاتٌ}؟ قيل: منهنّ: المقام، ومنهنّ الحِجر، ومنهنّ الحطيم. وأصحّ القراءتين في ذلك قراءة من قرأ {فِيهِ آيَاتٌ بَيّنَاتٌ} على الجماع، لإجماع قراء أمصار المسلمين على أن ذلك هو القراءة الصحيحة دون غيرها.
فتأويل الآية إذا: إن أوّل بيت وضع للناس مباركا وهدًى للعالمين، للذي ببكة، فيه علامات من قدرة الله وآثار خليله إبراهيم منهن أثر قدم خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم في الحجَر الذي قام عليه...
{وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنا}: واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: تأويله: الخبر عن أن كلّ من جرّ في الجاهلية جريرة ثم عاذ بالبيت لم يكن بها مأخوذا.
فتأويل الآية على قول هؤلاء: فيه آيات بينات مقام إبراهيم، والذي دخله من الناس كان آمنا بها في الجاهلية. وقال آخرون: معنى ذلك: ومن يدخله يكن آمنا بها، بمعنى: الجزاء، كنحو قول القائل: من قام لي أكرمته: بمعنى من يقم لي أكرمه. وقالوا: هذا أمر كان في الجاهلية، كان الحرم مفزع كل خائف، وملجأ كلّ جانٍ، لأنه لم يكن يُهاج له ذو جريرة، ولا يعرض الرجل فيه لقاتل أبيه وابنه بسوء. قالوا: وكذلك هو في الإسلام، لأن الإسلام زاده تعظيما وتكريما.
وقال آخرون: معنى ذلك: ومن دخله يكن آمنا من النار.
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب من قال معنى ذلك: ومن دخله من غيره ممن لجأ إليه عائذا به كان آمنا ما كان فيه، ولكنه يخرج منه فيقام عليه الحدّ إن كان أصاب ما يستوجبه في غيره ثم لجأ إليه، وإن كان أصابه فيه أقيم عليه فيه. فتأويل الآية إذا: فيه آيات بينات مقام إبراهيم، ومن يدخله من الناس مستجيرا به يكن آمنا مما استجار منه ما كان فيه، حتى يخرج منه...
{وَللّهِ على النّاسِ حِجّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً}: وفرض واجب لله على من استطاع من أهل التكليف السبيل إلى حجّ بيته الحرام الحجّ إليه.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله عزّ وجلّ: {مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً}، وما السبيل التي يجب مع استطاعتها فرض الحجّ؟ فقال بعضهم: هي الزاد والراحلة... وقال آخرون: السبيل التي إذا استطاعها المرء كان عليه الحجّ: الطاقة للوصول إليه. قال: وذلك قد يكون بالمشي وبالركوب، وقد يكون مع وجودهما العجز عن الوصول إليه، بامتناع الطريق من العدوّ الحائل، وبقلة الماء وما أشبه ذلك. قالوا: فلا بيان في ذلك أبين مما بينه الله عزّ وجلّ بأن يكون مستطيعا إليه السبيل، وذلك الوصول إليه بغير مانع ولا حائل بينه وبينه، وذلك قد يكون بالمشي وحده، وإن أعوزه المركب، وقد يكون بالمركب وغير ذلك. وقال آخرون: السبيل إلى ذلك: الصحة. وقال آخرون: من وجد قوّة في النفقة والجسد والحُمْلان...
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، قول من قال: إن ذلك على قدر الطاقة، لأن السبيل في كلام العرب: الطريق، فمن كان واجدا طريقا إلى الحجّ لا مانع له منه من زمانة، أو عجز، أو عدوّ، أو قلة ماء في طريقه، أو زاد، وضعف عن المشي، فعليه فرض الحجّ لا يجزيه إلا أداؤه. فإن لم يكن واجدا سبيلاً، أعني بذلك: فإن لم يكن مطيقا الحجّ بتعذّر بعض هذه المعاني التي وصفناها عليه، فهو ممن لا يجد إليه طريقا، ولا يستطيعه، لأن الاستطاعة إلى ذلك هو القدرة عليه، ومن كان عاجزا عنه ببعض الأسباب التي ذكرنا أو بغير ذلك، فهو غير مطيق ولا مستطيع إليه السبيل. وإنما قلنا هذه المقالة أولى بالصحة مما خالفها، لأن الله عزّ وجلّ لم يخصص إذ ألزم الناس فرض الحجّ بعض مستطيعي السبيل إليه بسقوط فرض ذلك عنه فذلك على كل مستطيع إليه سبيلاً بعموم الآية...
{وَمَنْ كَفَرَ فإنّ اللّهَ غَنِيّ عَنِ العالَمِينَ}: ومن جحد ما ألزمه الله من فرض حجّ بيته، فأنكره وكفر به، فإن الله غنيّ عنه، وعن حجه وعمله، وعن سائر خلقه من الجنّ والإنس...
وقال آخرون: معنى ذلك: أن لا يكون معتقدا في حجه أن له الأجر عليه، ولا أن عليه بتركه إثما ولا عقوبة...
وقال آخرون: معنى ذلك: ومن كفر بالله واليوم الاَخر...
وقال آخرون: معنى ذلك: ومن كفر بهذه الآيات التي في مقام إبراهيم...
وقال آخرون: من كفر بالبيت. وقال آخرون: كفره به: تركه إياه حتى يموت...
وأولى التأويلات بالصواب في ذلك قول من قال: معنى {وَمَنْ كَفَرَ}: ومن جحد فرض ذلك وأنكر وجوبه، فإن الله غنيّ عنه وعن حجه وعن العالمين جميعا. وإنما قلنا ذلك أولى به، لأن قوله: {وَمَنْ كَفَرَ} بعقب قوله: {وَلِلّهِ على النّاسِ حِجّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً} بأن يكون خبرا عن الكافر بالحجّ، أحقّ منه بأن يكون خبرا عن غيره، مع أن الكافر بفرض الحجّ على من فرضه الله عليه بالله كافر، وإن الكفر أصله الجحود، ومن كان له جاحدا ولفرضه منكرا، فلا شكّ إن حجّ لم يرج بحجه برّا، وإن تركه فلم يحجّ لم يره مأثما. فهذه التأويلات وإن اختلفت العبارات بها فمتقاربات المعاني.
الآية في مقام إبراهيم عليه السلام أن قدميه دخلتا في حَجَرٍ صَلْدٍ بقدرة الله تعالى، ليكون ذلك دلالة وآية على توحيد الله وعلى صحة نبوة إبراهيم عليه السلام. ومن الآيات فيه ما ذكرنا من أمْنِ لوحش وأُنْسِهِ فيه مع السباع الضارية المتعادية، وأمْنِ الخائف في الجاهلية فيه ويُتَخَطَّف الناس من حولهم، وإمحاق الجمار على كثرة الرامي من لَدُنْ إبراهيم عليه السلام إلى يومنا هذا مع أن حَصَى الجِمَارِ إِنما تنقل إلى موضع الرّمْي من غيره، وتعجيل العقوبة لمن انتهك حرمته وقد كانت العادة بذلك جارية، ومن إهلاك أصحاب الفيل لما قصدوا لإخرابه بالطير الأبابيل... فهذه كلها من آيات الحرم سوى ما لا نحصيه منها، وفي جميع ذلك دليل على أن المراد بالبيت هنا الحَرَمُ كله؛ لأن هذه الآيات موجودة في الحرم، ومقام إبراهيم ليس في البيت إنما هو خارج البيت؛ والله أعلم...
لما كانت الآيات المذكورة عقيب قوله: {إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ للنَّاسِ} موجودة في جميع الحرم، ثم قال: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً}، وجب أن يكون مراده جميع الحرم، وقوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} يقتضي أمْنَهُ على نفسه سواء كان جانياً قبل دخوله أو جَنَى بعد دخوله، إلاّ أن الفقهاء متّفقون على أنه مأخوذ بجنايته في الحرم في النفس وما دونها، ومعلوم أن قوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} هو أمرٌ وإنْ كان في صورة الخبر، كأنه قال: هو آمن في حكم الله تعالى وفيما أمر به، كما نقول: هذا مباح وهذا محظور؛ والمراد أنه كذلك في حكم الله وما أمر به عباده، وليس المراد أن مبيحاً يستبيحه ولا أن معتقداً للحَظْرِ يحظره، وإنما هو بمنزلة قوله في المباح:"افْعَلْهُ على أن لا تَبِعَةَ عليك فيه ولا ثواب" وفي المحظور: "لا تفعله فإنك تستحق العقاب به"؛ وكذلك قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} هو أمرٌ لنا بإيمانه وحَظْرِ دمه، ألا ترى إلى قوله تعالى: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم} [البقرة: 191] فأخبر بجواز وقوع القتل فيه وأمرنا بقتل المشركين فيه إذا قاتلونا؟ ولو كان قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} خبراً لما جاز أن لا يوجد مخبره، فثبت بذلك أن قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} هو أمرٌ لنا بإيمانه ونَهْيُ لنا عن قتله. ثم لا يخلو ذلك من أن يكون أمراً لنا بأن نؤمنه من الظلم والقتل الذي لا يستحق أو أن نؤمنه من قَتْلٍ قد استحقه بجنايته، فلما كان حمله على الإيمان من قَتْلٍ غير مستحَقٍّ عليه بل على وجه الظلم، تسقط فائدة تخصيص الحرم به؛ لأن الحرم وغيره في ذلك سواء، إذْ كان علينا إيمان كل أحد من ظلم يقع به من قِبَلِنَا أو من قِبَلِ غيرنا إذا أمكننا ذلك، علمنا أن المراد الأمر بالإيمان مِنْ قِبَلِ مُسْتَحقٍّ، فظاهره يقتضي أن نؤمنه من المستحَقّ من ذلك بجنايته في الحرم وفي غيره، إلا أن الدلالة قد قامت من اتفاق أهل العلم على أنه إذا قَتَل في الحرم قُتِلَ، قال الله تعالى: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم} [البقرة: 191] ففرّق بين الجاني في الحرم وبين الجاني في غيره إذا لجأ إليه...
ونظير قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} قوله عز وجل: {أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم} [العنكبوت:67]، وقوله: {أولم نمكن لهم حرماً آمناً} [القصص:57]، وقوله: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وآمناً} [البقرة: 125]، فهذه الآي متقاربة المعاني في الدلالة على حَظْرِ قَتْلِ من لجأ إليه وإن كان مستحقّاً للقتل قبل دخوله. ولمّا عبّر تارة بذكر البيت وتارة بذكر الحرم دلّ على أن الحرم في حُكْمِ البيت في باب الأمْنِ وَمَنْعِ قَتْلِ من لجأ إليه. ولما لم يختلفوا أنه لا يُقتل من لجأ إلى البيت لأن الله تعالى وصفه بالأمن فيه، وجب مثله في الحرم فيمن لجأ إليه...
والذي يقتضيه ظاهر قوله تعالى: {وللّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ} حَجَّة واحدة، إذ ليس فيه ما يوجب تكراراً؛ فمتى فعل الحج فقد قضى عهدة الآية.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{فيه آيات بينات}: أي المشاعر والمناسك كلها ثم ذكر بعضها فقال {مقام إبراهيم}: أي منها مقام إبراهيم. {ومن دخله كان آمنا}: أي من حجه فدخله كان آمنا من الذنوب التي اكتسبها قبل ذلك وقيل من النار. {ولله على الناس حج البيت}: عمم الإيجاب ثم خص وأبدل من الناس فقال: {من استطاع إليه سبيلا}.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
"فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا"؛ إن قلت: كيف صح بيان الجماعة بالواحد؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما أن يجعل وحده بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة الله ونبوة إبراهيم من تأثير قدمه في حجر صلد، كقوله تعالى: {إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] والثاني: اشتماله على آيات لأنّ أثر القدم في الصخرة الصماء آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وإلانة بعض الصخر دون بعض آية، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام آية لإبراهيم خاصة، وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة ألوف سنة آية. ويجوز أن يراد فيه آيات بينات مقام إبراهيم، وأمن من دخله، لأنّ الاثنين نوع من الجمع كالثلاثة والأربعة. ويجوز أن تذكر هاتان الآيتان ويطوى ذكر غيرهما. دلالة على تكاثر الآيات، كأنه قيل: فيه آيات بينات مقام إبراهيم، وأمن من دخله، وكثير سواهما...
قوله: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} يعني أنه حق واجب لله في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج من عهدته. ومنها أنه ذكر الناس ثم أبدل عنه من استطاع إليه سبيلاً، وفيه ضربان من التأكيد: أحدهما أن الإبدال تثنية للمراد وتكرير له، والثاني أن الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين. ومنها قوله: {وَمَن كَفَرَ} مكان ومن لم يحج تغليظاً على تارك الحج؛ ... ونحوه من التغليط "من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر "ومنها ذكر الاستغناء عنه وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان، ومنها قوله: {عَنِ العالمين} وإن لم يقل عنه، وما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان، لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة، ولأنه يدل على الاستغناء الكامل فكان أدلّ على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
الضمير في قوله: {فيه} عائد على البيت، وساغ ذلك مع كون «الآيات» خارجة عنه لأن البيت إنما وضع بحرمه وجميع فضائله، فهي فيه وإن لم تكن داخل جدرانه... [و] منهن {مقام إبراهيم}؛ قال القاضي: والمترجح عندي أن المقام وأمن الداخل جعلا مثالاً مما في حرم الله من الآيات، وخصا بالذكر لعظمهما، وأنهما تقوم بهما الحجة على الكفار، إذ هم مدركون لهاتين الآيتين بحواسهم، ومن آيات الحرم والبيت التي تقوم بها الحجة على الكفار أمر الفيل، ورمي طير الله عنه بحجارة السجيل، وذلك أمر لم تختلف كافة العرب في نقله وصحته إلى أن أنزله الله في كتابه، ومن آياته كف الجبابرة عنه على وجه الدهر... ومن آياته، الأمنة الثابتة فيه على قديم الدهر، وأن العرب كانت تغير بعضها على بعض ويتخطف الناس بالقتل، وأخذ الأموال وأنواع الظلم إلا في الحرم، وتركب على هذا أمن الحيوان فيه، وسلامة الشجر، وذلك كله للبركة التي خصه الله بها، والدعوة من الخليل عليه السلام في قوله، {اجعل هذا بلداً آمناً}، وإذعان نفوس العرب وغيرهم قاطبة لتوقير هذه البقعة دون ناه، ولا زاجر، آية عظمى تقوم بها الحجة، وهي التي فسرت بقوله تعالى: {ومن دخله كان آمناً}...
وقوله تعالى: {ومن كفر فإن الله غني عن العالمين}: فهذا كفر معصية، كقوله عليه السلام، (من ترك الصلاة فقد كفر) وقوله: (لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض)، على أظهر محتملات هذا الحديث. وبيّن أن من أنعم الله عليه بمال وصحة ولم يحج فقد كفر النعمة، ومعنى قوله تعالى: {غني عن العالمين} الوعيد لمن كفر، والقصد بالكلام، فإن الله غني عنهم، ولكن عمم اللفظ ليبرع المعنى، وينتبه الفكر على قدرة الله وسلطانه واستغنائه من جميع الوجوه حتى ليس به افتقار إلى شيء، لا رَبَّ سواه.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
المسألة الرابعة: قوله تعالى: {مَقَامُ إبْرَاهِيمَ}.
أحدهما: أنه الحجر المعهود، وإنما جُعِل آيةً للناس؛ لأنه جماد صَلْد وقف عليه إبراهيم، فأظهر اللهُ فيه أثَرَ قدَمِه آيةً باقية إلى يوم القيامة.
الثاني: قال ابنُ عباس: {مَقَامُ إبْرَاهِيمَ} هو الحجّ كلّه؛ وهذا بيِّن، فإنَّ إبراهيم قام بأمْرِ اللهِ سبحانَه، ونادى بالحجِّ عبادَ الله، فجمع اللهُ العبادَ على قَصْده، وكانت شرعه من عَهْده، وحجَّةً على العرب الذين اقتَدَوْا به من بعده.
وفيه من الآيات أنَّ مَنْ دخله خائفاً عادَ آمِناً؛ فإنّ الله سبحانه وتعالى قد كان صرفَ القلوبَ عن القَصْدِ إلى معارضته، وصَرَف الأيدي عن إذايته، وجمعها على تعظيم الله تعالى وحرمته.
وهذا خبرٌ عمَّا كان، وليس فيه إثباتُ حُكْم، وإنما هو تنبيهٌ على آيات، وتقرير نِعَم متعدّدات، مقصودها وفائدتها وتمامُ النعمة فيه بعثه محمداً صلى الله عليه وسلم؛ فمن لم يشهدْ هذه الآياتِ ويرى ما فيها من شرَفِ المقدّمات لحرمة مَنْ ظهر من تلك البقعة فهو من الأموات.
المسألة الخامسة: قال أبو حنيفة: إنَّ من اقترف ذَنْباً واستوجب به حدّاً، ثم لجأ إلى الحرَم عصمَه؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً}، فأوجب اللهُ سبحانه الأمْنَ لمن دخله، ورُوي ذلك عن جماعةٍ من السلف، منهم ابنُ عباس وغيره من الناس.
وكلّ مَنْ قال هذا فقد وهم من وجهين:
أحدهما: أنه لم يفهم معنى الآية أنه خبرٌ عما مضى، ولم يُقْصد بها إثباتُ حكم مستقبل.
الثاني: أنه لم يعلم أنّ ذلك الأمْن قد ذهب، وأنَّ القتل والقتال قد وقع بعد ذلك فيها، وخبرُ الله سبحانه لا يقعُ بخلاف مخبره؛ فدلَّ على أنه في الماضي...
المسألة السادسة: قال بعضُهم: مَنْ دخله كان آمِناً من النار؛ ولا يصحُّ هذا على عمومه، ولكنه «مَن حجَّ فلم يَرْفُث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه»، «والحج المبرور ليس له جزاء إلاّ الجنة». قال ذلك كلَّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؛ فيكون تفسيراً للمقصود، وبياناً لخصوص العموم، إن كان هذا القَصْد صحيحاً.
هذا، والصحيحُ ما قدمناه من أنه قصد به تعديد النعم على مَنْ كان بها جاهلاً ولها مُنْكِراً من العرب، كما قال تعالى {أوَلم يَرَوْا أنَّا جعَلْنا حَرَماً آمِناً ويُتَخَطَّفُ الناسُ مِنْ حَوْلِهِم، أفبالباطلِ يُؤْمِنونَ وبِنِعْمَةِ الله يَكْفُرون} [العنكبوت:67].
الآية الخامسة عشرة: قوله تعالى: {وَللهِ عَلَى النَّاسِ حجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً، وَمَنْ كَفَرَ فَإنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}.
المسألة الأولى: قال علماؤنا: هذا من أوْكد ألفاظ الوجوب عند العرب، إذا قال العربي: لفلان عليّ كذا فقد وكَّدَهُ وأوجبه.
قال علماؤنا: فذكر اللهُ سبحانه الحج فأبلغ ألفاظ الوجوب؛ تأكيداً لحقّه، وتعظيماً لحرمته، وتقويةً لفَرْضِه.
المسألة الثانية: كان الحجُّ معلوماً عند العرب مشروعاً لديهم، فخُوطِبوا بما علموا وألزمُوا ما عرفوا، وقد حجّ النبيُّ معهم قبل فَرْضِ الحج؛ فوقف بعَرفة ولم يغيِّر مِنْ شَرْع إبراهيم ما غيَّروا حيث كانت قريش تقف بالْمُزْدَلفة، ويقولون: نحن أهل الحرم فلا نخرج منه ونحن الْحُمْس.
المسألة الثالثة: هذا يدلُّ على أنَّ ركْن الحج القصد إلى البيت. وللحج ركنان:
أحدهما: الطواف بالبيت. والثاني: الوقوف بعرفة: لا خلاف في ذلك، وكل ما وراءه نازل عنه مختلَف فيه.
فإن قيل: فأين الإحرام، وهو متّفق عليه؟
قلنا: هو النية التي تلزم كلَّ عبادة، وتتعيَّن في كل طاعة، وكل عمل خلافها لم يكن به اعتداد؛ فهي شَرْط لا رُكْن.
المسألة السادسة: قوله تعالى: {عَلَى النَّاسِ} عامٌّ في جميعهم، مسترسل على جميعهم من غير خلافٍ بيه الأمّة في هذه الآية، وإن كان الناسُ قد اختلفوا في مطلق العمومات، بَيْدَ أنهم اتفقوا على حمل هذه الآية على جميع الناس ذكَرِهم وأنثاهم، خلا الصغير؛ فإنه خارج بالإجماع عن أصول التكليف، فلا يقال فيه: إنّ الآية مخصوصة فيه، وكذا العبد لم يدخل فيها؛ لأنه أخْرَجَه عن مطلق العموم الأول قولُه سبحانه في تمام الآية: {مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً}، والعبْدُ غير مستطيع؛ لأنَّ السيد يمنعه بشَغله بحقوقه عن هذه العبادة؛ وقد قدَّم الله سبحانه حقَّ السيدِ على حقه رفقاً بالعباد ومصلحةً لهم.
ولا خلافَ فيه بين الأمة ولا بين الأئمة، ولا نهرف بما لا نعرف، ولا دليل عليه إلا الإجماع.
المسألة الثامنة: إذا وُجدت الاستطاعة توجَّه فَرْض الحج بلا خلافٍ إلا أن تعرض له آفةٌ.
{مقام إبراهيم} لا تعلق له بقوله {فيه ءايات بينات} فكأنه تعالى قال: {فيه ءايات بينات} ومع ذلك فهو مقام إبراهيم ومقره والموضع الذي اختاره وعبد الله فيه، لأن كل ذلك من الخلال التي بها يشرف ويعظم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم فسر الهدى بقوله: {فيه آيات بينات} وقوله: {مقام إبراهيم} أي أثر قدمه عليه الصلاة والسلام في الحجر حيث قام لتغسل كنته رأسه الشريف -... وهو وحده آيات لعظمه ولتعدد ما فيه من تأثير القدم، وحفظه إلى هذا الزمان مع كونه منقولاً، وتذكيره بجميع قضايا إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام.
ولما كان أمن أهله في بلاد النهب والغارات التي ليس بها حاكم يفزع إليه ولا رئيس يعول في ذلك عليه من أدل الآيات قال سبحانه وتعالى: {ومن دخله} أي فضلاً عن أهله {كان آمناً} أي عريقاً في الأمن، أو فأمنوه بأمان الله، وتحويل العبارة عن "وأمن داخله "لأن هذا أدل على المراد من تمكن الأمن، وفيه بشارة بدخول الجنة.
ولما أوضح سبحانه وتعالى براءتهم من إبراهيم عليه الصلاة والسلام لمخالفتهم إياه بعد دعواهم بهتاناً أنه على دينهم، وكانت المخالفة في الواجب أدل قال سبحانه وتعالى: {ولله} أي الملك الذي له الأمر كله {على الناس} أي عامة، فأظهر في موضع الإضمار دلالة على الإحاطة والشمول -كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى عن الأستاذ أبي الحسن الحرالي في {استطعما أهلها} [الكهف:77] في الكهف، وذلك لئلا يدعي خصوصة بالعرب أو غيرهم {حج البيت} أي زيارته زيارة عظيمة، وأظهر أيضاً تنصيصاً عليه وتنويهاً بذكره تفخيماً لقدره، وعبر هنا بالبيت لأنه في الزيارة، وعادة العرب زيارة معاهد الأحباب وأطلالهم وأماكنهم وحلالهم، وأعظم ما يعبر به عن الزيارة عندهم الحج، ثم مَن بالتخفيف بقوله مبدلاً من الناس، تأكيداً بالإيضاح بعد الإبهام وحملاً على الشكر بالتخفيف بعد التشديد وغير ذلك من البلاغة: {من استطاع} أي منهم {إليه سبيلاً} فمن حجه كان مؤمناً.
ولما كان من الواضح أن التقدير: ومن لم يحجه مع الاستطاعة كفر بالنعمة إن كان معترفاً بالوجوب، وبالمروق من الدين إن جحد، عطف عليه قوله: {ومن كفر} أي بالنعمة أو بالدين {فإن الله} اي الملك الأعلى {غني} ولما كان غناه مطلقاً دل عليه بقوله موضع عنه: {عن العالمين} أي طائعهم وعاصيهم، صامتهم وناطقهم، رطبهم ويابسهم، فوضح بهذه الآية وما شاكلها أنهم ليسوا على دينه كما وضح بما تقدم أنه ليس على دينهم، فثبتت بذلك براءته منهم، والآية من الاحتباك لأن إثبات فرضه أولاً يدل على كفر من أباه، وإثبات {ومن كفر} ثانياً يدل على إيمان من حجه.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
(فيه آيات بينات مقام إبراهيم) أي فيه دلائل أو علامات ظاهرة لا تخفى على أحد. أحدها، أو منها: مقام إبراهيم، أي موضع قيامه فيه للصلاة والعبادة تعرف ذلك العرب بالنقل المتواتر. فأي دليل أبين من هذا على كون هذا البيت أو بيت من بيوت العبادة الصحيحة المعروفة في ذلك العهد وضع ليعبد الناس فيه ربهم- وإبراهيم أبو الأنبياء الذين بقي في الأرض أثرهم بجعل النبوة والملك فيهم لا يعرف لنبي قبله أثر ولا يحفظ له نسب.
وقوله: (ومن دخله كان آمنا) آية ثانية بينة لا يمتري فيها أحد، وهي اتفاق قبائل العرب كلها على احترام هذا البيت وتعظيمه لنسبته إلى الله، حتى أن من دخله يأمن على نفسه لا من الاعتداء عليه وإيذائه فقط بل يأمن أن يثأر منه من سفك هو دماءهم واستباح حرماتهم مادام فيه. مضى على هذا عمل الجاهلية على اختلافها في المنازع والأهواء والمعبودات وكثرة ما بينها من الأحقاد والأضغان وأقره الإسلام.
ويرد على إقرار الإسلام لحرمة البيت فتح مكة بالسيف، وأجيب عنه: بأنها حلت للنبي صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار لم تحل لأحد قبله ولن تحل لأحد بعده، كما ورد في الحديث. وذلك لضرورة تطهير البيت من الشرك وتخصيصه لما وضع له. وأقول: إن حرمة مكة كلها وما يتبعها من ضواحيها وحلها للنبي صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار أمر زائد على ما نحن فيه، وهو أمن من دخل البيت والنبي لم يستحل البيت ساعة ولا بعض ساعة، وإنما كان مناديه ينادي بأمره:"من دخل داره وأغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن" ولما أخبر أبو سفيان النبي صلى الله عليه وسلم بقول سعد بن عُبادة حامل لواء الأنصار له في الطريق: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة: قال صلى الله عليه وسلم "كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة".
وأما فعل الحجاج -أخزاه الله- فقد قال الأستاذ الإمام: إنه كان من الشذوذ الذي لا ينافي الاتفاق على احترام البيت وتعظيمه، وتأمين من دخله، وهذا الجواب مبني على أن أمن من دخل البيت ليس معناه: أن البشر يعجزون عن الإيقاع به عجزا طبيعيا على سبيل خرق العادة. وإنما معناه: أنه تعالى ألهمهم احترامه لاعتقادهم نسبته إليه عز وجل، وحرم الإلحاد والاعتداء فيه. ولم يكن الحجاج وجنده يعتقدون حل ما فعلوا من رمي الكعبة بالمنجنيق، ولكنها السياسة تحمل صاحبها على مخالفة الاعتقاد، وتوقعه في الظلم والإلحاد... فلا نلجأ إلى تأويل الأمان بمثل ما أوله به من قال: إن المراد به الأمن من العذاب يوم القيامة. وقد رد الأستاذ الإمام هذا التأويل، وقال ما معناه: إنه هدم للدين كله، فإن الأمن هناك إنما يكون لأهل التوحيد الخالص والعمل الصالح، الذين أقاموا الدين في الدنيا كما أمر الله تعالى، وما دخول البيت إلا بعض أعمال الإيمان، إذا أخلص صاحبه فيه. أقول: ولا تنسى في هذا المقام مثل قوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) [الأنعام: 82] وما رووه في ذلك من الآثار لا ينافي المتبادر المختار، وما أظن أن ذلك يصح عن الإمام جعفر الصادق كما قيل.
أما قوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) فهو بيان آية ثالثة من آيات هذا البيت جاءت بصيغة الإيجاب والفرضية في معرض ذكر مزاياه ودلائل كونه أول بيوت العبادة المعروفة للمعترضين من اليهود على استقباله في الصلاة، فهو يفيد بمقتضى السياق معنى خبريا وبمقتضى الصيغة معنى إنشائيا، وهو وجوب الحج على المستطيع من هذه الأمة. أشار إلى ذلك الأستاذ الإمام بقوله: هذه الجملة – وإن جاءت بصيغة الإيجاب- هي واردة في معرض تعظيم البيت، وأي تعظيم أكبر من افتراض حج الناس إليه؟ وما زالوا يحجونه من عهد إبراهيم إلى عهد محمد صلى الله عليهما وعلى آلهما وسلم. ولم يمنع العرب عن ذلك شركها، وإنما كانوا يحجون عملا بسنة إبراهيم. يعني أن الحج عام جروا عليه جيلا بعد جيل على أنه من دين إبراهيم، وهذه آية متواترة على نسبة هذا البيت إلى إبراهيم. فهي أصح من نقول المؤرخين التي تحتمل الصدق والكذب. وبهذا وبما سبقه بطل اعتراض أهل الكتاب، وثبت أن النبي على ملة إبراهيم دونهم.
أما الحج فمعناه في أصل اللغة القصد... وأما استطاعة السبيل: فهي عبارة عن القدرة على الوصول إليه. وهي تختلف باختلاف الناس في أنفسهم وفي بعدهم عن البيت وقربهم منه. وكل مكلف أعلم بنفسه – وإن كان عاميا- من غيره وإن كان عالما نحريرا. وما زاد الناس اختلاف العلماء في تفسير الاستطاعة إلا بعدا عن حقيقتها الواضحة من الآية أتم الوضوح إذ قال بعضهم: إن الاستطاعة صحة البدن والقدرة على المشي. وقال بعضهم: إنها القدرة على الزاد والراحلة. واشترطوا فيها: أمن الطريق، ولم يشترطوا الأمن في أرض الحرم، لأنها كانت آمنة قطعا...
وقال الأستاذ الإمام في قوله تعالى:"من استطاع إليه سبيلا "أنه بيان لموقع الإيجاب ومحله، وإعلام بأن الفرضية موجه أولا وبالذات إلى هذا العمل، ولكن الله رحم من لا يستطيع إليه سبيلا. والاستطاعة تختلف باختلاف الأشخاص: ولم يزد على ذلك.
وقوله تعالى: (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) تأكيد لما سبق ووعيد على جحوده، وبيان لتنزيه الله تعالى بإزالة ما عساه يسبق إلى أوهام الضعفاء عند سماع نسبة البيت إلى الله، والعلم بفرضه على الناس أن يحجوه من كونه محتاجا إلى ذلك. فالمراد بالكفر: جحود كون هذا البيت أول بيت وضعه إبراهيم للعبادة الصحيحة، بعد إقامة الحجج على ذلك وعدم الإذعان لما فرض الله من حجه والتوجه إليه بالعبادة. هذا هو المتبادر. وحمله بعضهم على الكفر مطلقا على أنه مستقل لا متمم لما قبله. وهو بعيد جدا، وبعضهم على ترك الحج وهو بعيد أيضا، وإن دعموه بحديث أبي هريرة مرفوعا:"من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا "رواه ابن عدي، وحديث أبي أمامة عند الدارمي والبيهقي:"من لم يمنعه من الحج حاجة ظاهرة أو سلطان جائر أو مرض حابس فمات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا "ورواه غيرهم باختلاف في اللفظ والروايات كلها ضعيفة إلا ما قيل في رواية موقوفة؛ بل عده ابن الجوزي من الموضوعات. واعترض عليه لكثرة طرقه. وأمثل طرقه المرفوعة: ما روي عن علي كرم الله وجهه بلفظ:"من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا، وذلك لأن الله تعالى قال في كتابه: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) الآية "رواه الترمذي، وقال: غريب، في إسناده مقال، والحارث يضعف. وهلال بن عبد الله الراوي له عن إسحاق مجهول. وقد قال بعضهم: إن تعدد طرق الحديث ترتقي به إلى درجة الحسن لغيره كما يقولون في مثله، ولا يقدح في ذلك قول العقيلي والدارقطني: لا يصح في هذا الباب شيء، إذ لا ندعي أن هناك شيئا صحيحا. وأشد من ذلك أثر عمر عند سعيد بن منصور في سننه قال:"لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان له جِدَة ولم يحج فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين "واستدل بهذه الروايات على أن الحج واجب على الفور. وبه قال كثير من أهل الفقه والأثر. والآخرون يقولون: إنه على التراخي. والاحتياط أن لا يؤخر المستطيع الحج بغير عذر صحيح لئلا يفاجئه الموت قبل ذلك.
أقول: إن الآية تشتمل على مزايا وآيات لبيت الله الحرام. فالمزايا كونه أول مسجد وضع للناس، وكونه مباركا. وكونه هدى للعالمين، والآيات: مقام إبراهيم وأمن داخله، والحج إليه على ما بينا، ويذكر له المفسرون هنا خصائص ومزايا أخرى يعدونها من الآيات على تقدير "منها مقام إبراهيم "ومنهم من قال: إنها هي الآيات، وإن قوله" مقام إبراهيم "كلام مستقل. قال الرازي: فكأنه قال: فيه آيات بينات؛ ومع ذلك هو مقام إبراهيم ومقره والموضع الذي اختاره وعبد الله فيه، اه. ولعل الدافع لهم إلى هذا: فهمهم أن" مقام إبراهيم "تفسير للآيات وهو مفرد، وقد علمت أن ما بعده تابع له في ذلك. وما يؤيد ذلك: محاولة الآخرين أن يجعلوا مقام إبراهيم بمنزلة عدة آيات. قال الرازي: إن مقام إبراهيم اشتمل على الآيات، لأن أثر القدم في الصخرة الصماء آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية، لأنه لان من الصخرة ما تحت قدميه فقط، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام آية خاصة لإبراهيم عليه السلام، وحفظه مع كثرة أعدائه من اليهود والنصارى والمشركين ألوف السنين آية. فثبت أن مقام إبراهيم عليه السلام آيات كثيرة، اه.
أقول: وقد تقدم في تفسير (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) [البقرة: 125] أن بعضهم يقول: إن مقامه عبارة عن موقعه حيث ذلك الأثر للقدمين وإن هذا ضعيف. والكلام هنا في أن مقام إبراهيم مشتمل على ما ذكره من الأثر، وهذا هو الصحيح أما الأثر نفسه. فقد كانت العرب تعتقد أنه أثر قدمي إبراهيم.
وقد يؤخذ من قوله" رطبة "أن الصخرة كانت عندما وطئ عليها رطبة لم تتحجر ثم تحجرت بعد ذلك وبقي أثر قدميه فيها. وعلى هذا لا يظهر معنى كونه آية إلا على الوجه الذي جرينا عليه في تفسير" آيات بينات "دون ما جرى عليه الجمهور من كون الآيات بمعنى الخوارق الكونية. وقد يكون مراده أنها كانت رطبة كرامة له، وقال بعضهم. إن" مقام "مصدر بمعنى الجمع، والمراد مقامات إبراهيم، أي ما قام به من المناسك وأعمال الحج. والمتبادر ما ذكرناه في موضعه.
ومما عدوه من الآيات. قصم من يقصده من الجبابرة بسوء كأصحاب الفيل، ويرد عليهم ما كان من الحجاج ومن هم شر من الحجاج، وعدم تعرض ضواري السباع للصيود فيه. وهذا القول ظاهر الضعف؛ إذ ليس ذلك آية وعدم نفرة الطير من الناس هناك. ويرد عليه أن الطير تألف الناس لعدم تعرضهم لهذا. ولذلك نظائره في الأرض، وانحراف الطير عن موازاته وليس بمتحقق، وكون وقوع الغيث فيه دليلا على الخصب، فإذا عمه كان الخصب عاما وإذا وقع في جهة من جهاته كان الخصب في تلك الجهة من الأرض، وهي آية وهمية.
ولعمري إن بيت الله غني عن اختراع الآيات وإلصاقها به مع براءته منها. فحسبه شرفا كونه حرما آمنا ومثابة للناس وأمنا ومباركا وهدى للعالمين، وما فيه من الآيات التي ذكرها الله وإقسامه تعالى به وما ورد عن رسوله في حرمته وتحريمه وفضله، ككونه لا يسفك فيه دم ولا يعضد شجره، ولا يختلى خلاه أي لا يقطع نباته ولا ينفر صيده ولا تملك لقطته، وكون قصده مكفرا للذنوب ماحيا للخطايا، وكون العبادة التي تؤدى فيه لا تؤدى في غيره وكون استلام الحجر الأسود فيه رمزا إلى مبايعة الله تعالى على إقامة دينه والإخلاص له فيه، وكون الصلاة فيه بمائة ألف ضعف في غيره. والأحاديث الواردة في ذلك تطلب من الصحيحين وكتب السنن.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
من الآيات البينات فيها أن من دخله كان آمنا شرعا وقدرا، فالشرع قد أمر الله رسوله إبراهيم ثم رسوله محمد باحترامه وتأمين من دخله، وأن لا يهاج، حتى إن التحريم في ذلك شمل صيودها وأشجارها ونباتها... وأما تأمينها قدرا فلأن الله تعالى بقضائه وقدره وضع في النفوس حتى نفوس المشركين به الكافرين بربهم احترامه، حتى إن الواحد منهم مع شدة حميتهم ونعرتهم وعدم احتمالهم للضيم يجد أحدهم قاتل أبيه في الحرم فلا يهيجه...