{ يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين* الأعراب } ، أي : أهل البدو ، { أشد كفرا ونفاقا } ، من أهل الحضر ، " وأجدر " ، أخلق وأحرى ، " أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله " ، وذلك لبعدهم عن سماع القرآن ومعرفة السنن ، " والله عليم " ، بما في قلوب خلقه " حكيم " فيما فرض من فرائضه .
أخبر تعالى أن في الأعراب كفارا ومنافقين ومؤمنين ، وأن كفرهم ونفاقهم أعظم من غيرهم وأشد ، وأجدر ، أي : أحرى ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ، كما قال الأعمش عن إبراهيم قال : جلس أعرابي إلى زيد بن صَوْحان وهو يحدث أصحابه ، وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوَند ، فقال الأعرابي : والله إن حديثك ليعجبني ، وإن يدك لتريبني فقال زيد : ما يُريبك من يدي ؟ إنها الشمال . فقال الأعرابي : والله ما أدري ، اليمين يقطعون أو الشمالَ ؟ فقال زيد بن صوحان{[13792]} صدق الله : { الأعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ }
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي ، حدثنا سفيان ، عن أبي موسى ، عن وهب بن مُنَبِّه ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من سكن البادية جفا ، ومن اتبع الصيد غَفَل ، ومن أتى السلطان افتتن " .
ورواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي من طرق ، عن سفيان الثوري ، به{[13793]} وقال الترمذي : حسن غريب ، لا نعرفه إلا من حديث الثوري .
ولما كانت الغلظة والجفاء في أهل البوادي لم يبعث الله منهم رسولا وإنما كانت البعثة من أهل القرى ، كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } [ يوسف : 109 ] ولما أهدى ذلك الأعرابي تلك الهدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فردَّ عليه أضعافها حتى رضي ، قال : " لقد هممت ألا أقبل هدية إلا من قُرشي ، أو ثَقَفي أو أنصاري ، أو دَوْسِيّ " {[13794]} ؛ لأن هؤلاء كانوا يسكنون المدن : مكة ، والطائف ، والمدينة ، واليمن ، فهم ألطف أخلاقًا من الأعراب : لما في طباع الأعراب من الجفاء .
حديث [ الأعرابي ]{[13795]} في تقبيل الولد : قال مسلم : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كُرَيْب قالا حدثنا أبو أسامة وابن نُمَيْر ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : أتقبِّلون صبيانكم ؟ قالوا : نعم . قالوا : ولكنا والله ما نقبِّل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وَأمْلكُ أن كان الله نزع منكم الرحمة ؟ " . وقال ابن نمير : " من قلبك الرحمة " {[13796]} وقوله : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي : عليم بمن يستحق أن يعلمه الإيمان والعلم ، { حَكِيمٌ } فيما قسم بين عباده من العلم والجهل والإيمان والكفر والنفاق ، لا يسأل عما يفعل ، لعلمه وحكمته .
القول في تأويل قوله تعالى : { الأعْرَابُ أَشَدّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللّهُ عَلَىَ رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : الأعراب أشدّ جحودا لتوحيد الله وأشدّ نفاقا من أهل الحضر في القرى والأمصار . وإنما وصفهم جلّ ثناؤه بذلك لجفائهم وقسوة قلوبهم وقلة مشاهدتهم لأهل الخير ، فهم لذلك أقسى قلوبا وأقلّ علما بحقوق الله . وقوله : وأجْدَرُ أنْ لا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أنْزَلَ اللّهُ على رَسُولِهِ يقول : وأخلق أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله وذلك فيما قال قتادة : السّنَن .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وأجّدَرُ ألاّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أنْزَلَ اللّهُ على رَسُولِهِ قال : هم أقلّ علما بالسّنن .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مُقَرّن عن الأعمش ، عن إبراهيم ، قال جلس أعرابي إلى زيد بن صُوْحان وهو يحدّث أصحابه ، وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوند ، فقال : والله إن حديثك ليعجبني ، وإن يدك لتريبني فقال زيد : وما يريبك من يدي ، إنها الشّمال ؟ فقال الأعرابي : والله ما أدري أليمينَ يقطعون أم الشمال ؟ فقال زيد بن صُوحان : صدق الله : الأعْرَابُ أشَدّ كُفْرا وَنِفاقا وأجْدَرُ أنْ لا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أنْزَلَ اللّهُ على رَسُولِهِ .
وقوله : وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ يقول : والله عليم بمن يعلم حدود ما أنزل على رسوله ، والمنافق من خلقه والكافر منهم ، لا يخفى عليه منهم أحد ، حكيم في تدبيره إياهم ، وفي حلمه عن عقابهم مع علمه بسرائرهم وخداعهم أولياءه .
وقوله { الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله } الآية ، { الأعراب } لفظة عامة ومعناها الخصوص فيمن استثناه الله عز وجل ، وهذا معلوم بالوجود وكيف كان الأمر ، وإنما انطلق عليهم هذا الوصف بحسب بعدهم عن الحواضر ومواضع العلم والأحكام والشرع ، وهذه الآية إنما نزلت في منافقين كانوا في البوادي ، ولا محالة أن خوفهم هناك أقل من خوف منافقي المدينة ، فألسنتهم لذلك مطلقة ونفاقهم أنجم{[5841]} ، وأسند الطبري أن زيد بن صوحان{[5842]} كان يحدث أصحابه بالعلم وعنده أعرابي وكان زيد قد أصيبت يده اليسرى يوم نهاوند{[5843]} فقال الأعرابي والله إن حديثك ليعجبني وإن يدك لتريبني وقال زيد : وما يريبك من يدي وهي الشمال ؟ فقال الأعرابي : والله ما أدري اليمين تقطعون أم الشمال ؟ فقال زيد صدق الله { الأعراب أشد كفارً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله } ، { و أجدر } معناه أحرى وأقمن ، و «الحدود » هنا السنن والأحكام ومعالم الشريعة .
استئناف ابتدائي رجع به الكلام إلى أحوال المعذّرين من الأعراب والذين كذبوا الله ورسوله منهم ، وما بين ذلك استطراد دعا إليه قرن الذين كذبوا الله ورسوله في الذكر مع الأعراب . فلما تقضَّى الكلام على أولئك تخلص إلى بقية أحوال الأعراب . وللتنبيه على اتصال الغرضين وقع تقديم المسند إليه ، وهو لفظ ( الأعراب ) للاهتمام به من هذه الجهة ، ومن وراء ذلك تنبيه المسلمين لأحوال الأعراب لأنهم لبعدهم عن الاحتكاك بهم والمخالطة معهم قد تخفى عليهم أحوالهم ويظنون بجميعهم خيراً .
و ( أشد ) و ( أجدر ) اسما تفضيل ولم يذكر معهما ما يدل على مفضل عليه ، فيجوز أن يكونا على ظاهرهما فيكون المفضل عليه أهل الحضر ، أي كفار ومنافقي المدينة . وهذا هو الذي تواطأ عليه جميع المفسرين .
وازديادهم في الكفر والنفاق هو بالنسبة لكفار ومنافقي المدينة . ومنافقوهم أشد نفاقاً من منافقي المدينة . وهذا الازدياد راجع إلى تمكن الوصفين من نفوسهم ، أي كفرهم أمكن في النفوس من كفر كفار المدينة ، ونفاقهم أمكن من نفوسهم كذلك ، أي أمكن في جانب الكفر منه والبعدِ عن الإقلاع عنه وظهور بوادر الشر منهم ، وذلك أن غلظ القلوب وجلافة الطبع تزيد النفوس السيئة وحشة ونفوراً . ألا تعلم أن ذا الخويصرة التميمي ، وكان يدعى الإسلام ، لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الأقرع بن حابس ومن معه من صناديد العرب من ذهب قَسمَه قال ذو الخويصرة مواجهاً النبي صلى الله عليه وسلم « اعدل » فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " ويحك ومَن يعدل إن لم أعْدِل " .
فإن الأعراب لنشأتهم في البادية كانوا بعداء عن مخالطة أهل العقول المستقيمة وكانت أذهانهم أبعد عن معرفة الحقائق وأملأ بالأوهام ، وهُم لبعدهم عن مشاهدة أنوار النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وآدابه وعن تلقي الهدى صباحَ مساءَ أجهلُ بأمور الديانة وما به تهذيب النفوس ، وهم لتوارثهم أخلاق أسلافهم وبعدهم عن التطورات المدنية التي تؤثّر سُمّوا في النفوس البشرية ، وإتقاناً في وضع الأشياء في مواضعها ، وحكمة تقليدية تتدرج بالأزمان ، يكونون أقرب سيرة بالتوحش وأكثر غلظة في المعاملة وأضيع للتراث العلمي والخلقي ؛ ولذلك قال عثمان لأبي ذرّ لما عزم على سكنى الربذة : تَعَهَّد المدينةَ كيلا ترتَدَّ أعرابياً .
فأما في الأخلاق التي تحمد فيها الخشونة والغلظة والاستخفاف بالعظائم مثل الشجاعة ؛ والصراحة وإباء الضيم والكرم فإنها تكون أقوى في الأعراب بالجبلة ، ولذلك يكونون أقرب إلى الخير إذا اعتقدوه وآمنوا به .
ويجوز أن يكون { أشد } و { أجدر } مسلوبَيْ المفاضلة مستعملين لقوة الوصفين في الموصوفِين بهما على طريقة قوله تعالى : { قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه } [ يوسف : 33 ] . فالمعنى أن كفرهم شديد التمكن من نفوسهم ونفاقهم كذلك ، من غير إرادة أنهم أشد كفراً ونفاقاً من كفار أهل المدينة ومنافقيها .
وعلى كلا الوجهين فإن { كفراً ونفاقاً } منصوبان على التمييز لبيان الإبهام الذي في وصف { أشد } . سلك مسلك الإجمال ثم التفصيل ليتمكن المعنى أكمل تمكن .
والأجدر : الأحق . والجَدارة : الأولوية . وإنما كانوا أجدر بعدم العلم بالشريعة لأنهم يبعدون عن مجالس التذكير ومنازل الوحي ، ولقلة مخالطتهم أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذفت الباء التي يتعدى بها فعل الجدارة على طريقة حذف حرف الجر مع ( أن ) المصدرية .
والحدود : المقادير والفواصل بين الأشياء . والمعنى أنهم لا يعلمون فواصل الأحكام وضوابط تمييز متشابهها .
وفي هذا الوصف يَظهر تفاوت أهل العلم والمعرفة . وهو المعبر عنه في اصطلاح العلماء بالتحقيق أو بالحكمة المفسرة بمعرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه ، فزيادة قيد ( على ما هي عليه ) للدلالة على التمييز بين المختلطات والمتشابهات والخفيات .
وجملة : { والله عليم حكيم } تذييل لهذا الإفصاح عن دخيلة الأعراب وخلقهم ، أي عليم بهم وبغيرهم ، وحكيم في تمييز مراتبهم .