قوله تعالى : { وهي تجري بهم في موج كالجبال } ، والموج ما ارتفع من الماء إذا اشتدت عليه الريح ، شبهه بالجبال في عظمه وارتفاعه على الماء .
قوله تعالى : { ونادى نوح ابنه } ، كنعان ، وقال عبيد بن عمير : سام ، وكان كافرا ، { وكان في معزل } ، عنه لم يركب في السفينة : { يا بني اركب معنا } ، قرأ ابن عامر وحمزة وعاصم ويعقوب بإظهار الباء ، والآخرون يدغمونها في الميم ، { ولا تكن مع الكافرين } ، فتهلك .
وقوله : { وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ } أي : السفينة سائرة بهم على وجه الماء ، الذي قد طَبَّق{[14602]} جميع الأرض ، حتى طفت{[14603]} على رءوس الجبال ، وارتفع عليها بخمسة عشر ذراعا ، وقيل : بثمانين ميلا وهذه السفينة على وجه الماء سائرة بإذن الله وتحت كَنَفه وعنايته{[14604]} وحراسته وامتنانه كما قال تعالى : { إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } [ الحاقة : 11 ، 12 ] ، وقال تعالى : { وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } [ القمر : 13 - 15 ] .
وقوله : { وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ } هذا هو الابن الرابع ، واسمه " يام " ، وكان كافرا ، دعاه أبوه عند ركوب السفينة أن يؤمن ويركب معهم ولا يغرق مثل ما يغرق الكافرون ، { قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ } وقيل : إنه اتخذ له مركبا من زُجاج ، وهذا من الإسرائيليات ، والله أعلم بصحته . والذي نص عليه القرآن أنه قال : { قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ } اعتقد بجهله أن الطوفان لا يبلغ إلى رءوس الجبال ، وأنه لو تعلق في رأس جبل لنجّاه ذلك من الغرق ، فقال له أبوه نوح ، عليه السلام : { لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ } أي : ليس شيء يعصم اليوم من أمر الله . وقيل : إن عاصما بمعنى معصوم ، كما يقال : " طاعم وكاس " ، بمعنى مطعوم ومكسُوّ ، { وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَىَ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَبُنَيّ ارْكَبَ مّعَنَا وَلاَ تَكُن مّعَ الْكَافِرِينَ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ والفلك تجري بنوح ومن معه فيها فِي مَوْجٍ كالجبالِ وَنادَى نُوحٌ ابْنَهُ يام ، وكانَ فِي مَعْزِلٍ عنه لم يركب معه الفلك : يا بُنَيّ ارْكَبْ مَعَنا الفلك وَلا تَكُنْ مَعَ الكافِرِينَ .
{ وهي تجري بهم } متصل بمحذوف دل عليه { اركبوا } فركبوا مسمين وهي تجري وهم فيها . { في موج كالجبال } في مومج من الطوفان ، وهو ما يرتفع من الماء عند اضطرابه كل موجة منها كجبل في تراكمها وارتفاعها ، وما قيل من أن الماء طبق ما بين السماء والأرض وكانت السفينة تجري في جوفه ليس بثابت ، والمشهور أنه علا شوامخ الجبال خمسة عشر ذراعا وإن صح فلعل ذلك قبل التطبيق . { ونادى نوح ابنه } كنعان ، وقرئ " ابنها " و{ ابنه } بحذف الألف على أن الضمير لامرأته ، وكان ربيبه وقيل كان لغير رشدة لقوله تعالى : { فخانتاهما } وهو خطأ إذ الأنبياء عصمن من ذلك والمراد بالخيانة الخيانة في الدين ، وقرئ " ابناه " على الندبة ولكونها حكاية سوغ حذف الحرف . { وكان في معزل } عزل فيه نفسه عن أبيه أو عن دينه مفعل للمكان من عزله عنه إذا أبعده . { يا بني اركب معنا } في السفينة ، والجمهور كسروا الياء ليدل على ياء الإضافة المحذوفة في جميع القرآن ، غير ابن كثير فإنه وقف عليها في " لقمان " في الموضع الأول باتفاق الرواة وفي الثالث في رواية قنبل وعاصم فإنه فتح ها هنا اقتصارا على الفتح من الألف المبدلة من ياء الإضافة ، واختلفت الرواية عنه في سائر المواضع وقد أدغم الباء في الميم أبو عمرو الكسائي وحفص لتقاربهما . { ولا تكن مع الكافرين } في الدين والانعزال .
وقوله تعالى : { وهي تجري بهم } الآية ، روي أن السماء أمطرت بأجمعها حتى لم يكن في الهواء جانب لا مطر فيه ، وتفجّرت الأرض كلها بالنبع ، فهكذا كان التقاء الماء ، وروي أن الماء علا على الجبال وأعلى الأرض أربعين ذراعاً وقيل خمسة عشرة ذراعاً ؛ وأشار الزجاج وغيره إلى أن الماء انطبق : ماء الأرض وماء السماء فصار الكل كالبحر .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وأين كان الموج كالجبال على هذا ؟ وكيف استقامت حياة من في السفينة على هذا ؟ .
وقرأت فرقة : «ابنه » على إضافة الابن إلى نوح ، وهذا قول من يقول : هو ابنه لصلبه ، وقد قال قوم : إنه ابن قريب له ودعاه بالنبوة حناناً منه وتلطفاً ، وقرأ ابن عباس «ابنهْ » بسكون الهاء ، وهذا على لغة لأزد السراة{[6349]} ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
. . . . . . *** ومطواي مشتاقان لهْ أرقانِ{[6350]}
وقرأ السدي «ابناه » قال أبو الفتح : ذلك على النداء وذهبت فرقة إلى أن ذلك على جهة الندبة محكية ، وقرأ عروة بن الزبير أيضاً وأبو جعفر وجعفر بن محمد «ابنهَ » على تقدير ابنها ، فحذف الألف تخفيفاً وهي لغة ومنها قول الشاعر : [ البسيط ]
أما تقود به شاة فتأكلها*** أو أن تبيعه في نقض الأراكيب{[6351]}
فلست بمدرك ما فات مني*** بلهف ولا بليت ولا لواني{[6352]}
قال القاضي أبو محمد : وخطأ النحاس أبا حاتم في حذف هذه الألف وليس كما قال .
وقرأ وكيع بن الجراح : «ونادى نوح ابنه » بضم التنوين ، قال أبو حاتم : وهي لغة سوء لا تعرف .
وقوله : { في معزل } أي في ناحية ، فيمكن أن يريد في معزل في الدين ، ويمكن أن يريد في معزل في بعده عن السفينة ، واللفظ يعمهما : وقال مكي في المشكل : ومن قال : «معزِل » - بكسر الزاي - أراد الموضع ، ومن قال : «معزَل » - بفتحها - أراد المصدر : فلم يصرح بأنها قراءة ولكن يقتضي ذلك لفظه .
وقرأ السبعة «يابنيِّ » بكسر الياء المشددة ، وهي ثلاث ياءات : أولاها ياء التصغير ، وحقها السكون ؛ والثانية لام الفعل ، وحقها أن تكسر بحسب ياء الإضافة إذ ما قبل ياء الإضافة مكسور : والثالثة : ياء الإضافة فحذفت ياء الإضافة إما لسكونها وسكون الراء{[6353]} ، وإما إذ هي بمثابة التنوين في الإعلام وهو يحذف في النداء فكذلك ياء الإضافة والحذف فيها كثير في كلام العرب ، تقول : يا غلام ، ويا عبيد ، وتبقى الكسرة دالة ، ثم أدغمت الياء الساكنة في الياء المكسورة ، وقد روى أبو بكر وحفص عن عاصم أيضاً «يابنيَّ » بفتح الياء المشددة ، وذكر أبو حاتم : أن المفضل رواها عن عاصم ، ولذلك وجهان : أحدهما : أن يبدل من ياء الإضافة ألفاً وهي لغة مشهورة تقول : يا غلاما ، ويا عينا ، فانفتحت الياء قبل الألف ثم حذفت الألف استخفافاً{[6354]} ولسكونها وسكون الراء من قوله { اركب } .
والوجه الثاني : أن الياءات لما اجتمعت استثقل اجتماع المماثلة{[6355]} فخفف ذلك الاستثقال بالفتح إذ هو أخف الحركات ، هذا مذهب سيبويه ، وعلى هذا حمل قوله صلى الله عليه وسلم : «وحواري الزبير »{[6356]} .
وروي عن ابن كثير أنه قرأ في سورة لقمان : { يا بني لا تشرك بالله }{[6357]} بحذف ياء الإضافة ويسكن الياء خفيفة ، وقرأ الثانية { يا بني إنها }{[6358]} كقراءة الجماعة وقرأ الثالثة : { يا بني أقم }{[6359]} ساكنة كالأولى .
وقوله : { ولا تكن مع الكافرين } يحتمل أن يكون نهياً محضاً مع علمه أنه كافر ، ويحتمل أن يكون خفي عليه كفره فناداه ألا يبقى - وهو مؤمن - مع الكفرة فيهلك بهلاكهم ، والأول أبين .
{ وهي تجري بهم في موج كالجبال }
جملة معترضة دعا إلى اعتراضها هنا ذكر ( مجراها ) إتماماً للفائدة وصفاً لعظم اليوم وعجيب صنع الله تعالى في تيْسير نجاتهم .
وقدم المسند إليه على الخبر الفعلي لتقوّي الحكم وتحقيقه .
وعدل عن الفعل الماضي إلى المضارع لاستحضار الحالة مثل قوله تعالى : { والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً } [ فاطر : 9 ] .
والموج : ما يرتفع من الماء على سطحه عند اضطرابه ، وتشبيهه بالجبال في ضخامته . وذلك إما لكثرة الرياح التي تعلو الماء وإما لدفع دفقات الماء الواردة من السيول والتقاء الأودية الماءَ السابقَ لها ، فإن حادث الطوفان ما كان إلاّ عن مثل زلازل تفجرت بها مياه الأرض وأمطار جمّة تلتقي سيولها مع مياه العيون فتختلط وتجتمع وتصب في الماء الذي كان قبلها حتى عم الماء جميع الأرض التي أراد الله إغراق أهلها ، كما سيأتي .
{ ونادى نوح ابنه وكان بمعزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين }
عطفت جملة { ونادى } على أعلق الجمل بها اتّصالاً وهي { وقال اركبوا فيها } [ هود : 41 ] لأن نداءه ابنه كان قبل جريان السفينة في موج كالجبال ، إذ يتعذر إيقافها بعد جريها لأن الراكبين كلّهم كانوا مستقرين في جوف السفينة .
وابن نوح هذا هو ابن رابع في أبنائه من زَوج ثانية لنوح كان اسمها ( وَاعلة ) غرقت ، وأنّها المذكورة في آخر سورة التحريم . قيل كان اسم ابنه ( ياماً ) وقيل اسمه ( كنعان ) وهو غير كنعان بن حام جد الكنعانيين . وقد أهملت التوراة الموجودة الآن ذكر هذا الابن وقضية غرقه وهل كان ذا زوجة أو كان عزباً .
وجملة { وكان في معزل } حال من { ابنه } . والمعْزل : مكان العزلة أي الانفراد ، أي في معزل عن المؤمنين إمّا لأنه كان لم يؤمن بنوح عليه السلام فلم يصدق بوقوع الطوفان ، وإما لأنّه ارتد فأنكر وقوع الطوفان فكفر بذلك لتكذيبه الرسول .
وجملة { يا بنيّ اركب معنَا } بيان لجملة { نادى } وهي إرشاد له ورفق به .
وأما جملة { ولا تكن مع الكافرين } فهي معطوفة على جملة { اركب معنا } لإعلامه بأنّ إعراضه عن الركوب يجعله في صف الكفار إذ لا يكون إعراضه عن الركوب إلاّ أثراً لتكذيبه بوقوع الطوفان . فقول نوح عليه السّلام له { اركب معنا } كناية عن دعوته إلى الإيمان بطريقة العرض والتحذير . وقد زاد ابنَه دلالة على عدم تصديقه بالطوفان قولُه متهكماً { سَآوي إلى جبل يعصمني من الماء } .
و ( بنيّ ) تصغير ( ابن ) مضافاً إلى ياء المتكلم . وتصغيره هنا تصغير شفقة بحيث يجعل كالصغير في كونه محل الرحمة والشفقة . فأصله بُنَيْو ، لأنّ أصل ابن بَنْو ، فلما حذفوا منه الواو لثقلها في آخر كلمة ثلاثية نقصَ عن ثلاثة أحرف فعوّضوه همزة وصل في أوله ، ومهما عادتْ له الواو المحذوفة لزوال داعي الحذف طرحت همزة الوصل ، ثم لمّا أريد إضافة المصغّر إلى ياء المتكلم لزم كسر الواو ليصير بُنَيْوِيّ ، فلما وقعت الواو بين عدوتيها الياءين قلبت ياء وأدغمت في ياء التصغير فصار بنَيّي بياءين في آخره أولاهما مشدّدة ، ولما كان المنادى المضاف إلى ياء المتكلم يجوز حذف ياء المتكلم منه وإبْقاء الكسرة صار { بنَيّ } بكسر الياء مشدّدة في قراءة الجمهور .
وقرأه عاصم { بنيّ } بفتح ياء المتكلم المضاف إليها لأنها يجوز فتحها في النداء ، أصله يَا بنَيّيَ بياءين أولاهما مكسورة مشدّدة وهي ياء التصغير مع لام الكلمة التي أصلها الواو ثم اتصلت بها ياء المتكلم وحذفت الياء الأصلية .