اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَهِيَ تَجۡرِي بِهِمۡ فِي مَوۡجٖ كَٱلۡجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبۡنَهُۥ وَكَانَ فِي مَعۡزِلٖ يَٰبُنَيَّ ٱرۡكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (42)

قوله : " وهِيَ تَجْرِي " في هذه الجملةِ ، ثلاثة أوجه :

أحدها : أنَّها مستأنفةٌ ، أخبر الله تعالى عن السفينة بذلك .

والثاني : أنَّها في محلِّ نصب على الحالِ من الضَّمير المستتر في " بِسْمِ اللهِ " أي : جريانها استقرَّ بسم الله حال كونها جارية .

الثالث : أنَّها حالٌ من شيءٍ محذوفٍ تضَمَّنته جملةٌ دلَّ عليها سياقُ الكلامِ .

قال الزمخشريُّ : فإن قلت : بم اتَّصل قوله : " وهِيَ تَجْرِي بهِمْ " ؟ قلت : بمحذُوفٍ دلَّ عليه قوله : " اركبُوا فيها بسْمِ الله " كأنَّهُ قيل : فركبوا فيها يقولون : " بسم الله وهي تجري بهم " .

وقوله " بِهِمْ " يجوزُ فيه وجهان :

أحدهما : أن يتعلَّق ب " تَجْرِي " .

والثاني : أنَّه متعلقٌ بمحذوفٍ أي : تجري ملتبسةً بهم ، ولذلك فسَّرهُ الزمخشريُّ بقوله : " أي : تجْرِي وهُمْ فيها " .

وقوله : " كالْجِبَالِ " صفة ل " مَوْجٍ " .

فصل

قال ابن جرير ، وغيره : إنَّ الطُّوفان كان في ثالث عشر شهر آب في عادة القبطِ ، وإنَّ الماء ارتفع على أعلى جبل في الأرض خمسة عشر ذراعاً ، وهو الذي عند أهل الكتاب ، وقيل : ثمانين ذراعاً وعمَّ جميع الأرض طولاً وعرْضاً .

والمَوْجُ جمع " مَوْجة " والموج : ما ارتفع من الماءِ إذا اشتدَّ عليه الريح . وهذا يدلُّ على أنَّهُ حصل في ذلك الوقت رياح عاصفة .

فإن قيل : الجريانُ في الموج يوجب الغرقَ .

فالجوابُ : أنَّ الأمواجَ لمَّا أحاطت بالسَّفينة من جوانبها أشبهت تلك السَّفينة كأنَّها جرت في داخل الأمواج .

قوله تعالى : { ونادى نُوحٌ ابنه } الجمهور على كسْرِ تنوين " نوح " لالتقاء الساكنين .

وقرأ{[18807]} وكيع بضمِّه إتباعاً لحركةِ الإعراب ، واسترذلَ أبو حاتمٍ هذه القراءة ، وقال : " هي لغةُ سوءٍ لا تُعْرَفُ " .

وقرأ العامَّةُ : " ابنهُ " بوصل هاء الكناية بواو ، وهي اللغةُ الفصيحةُ الفاشية .

وقرأ ابنُ عباس{[18808]} بسكون الهاء . قال بعضهم : هذا مخصُوصٌ بالضَّرُورة ؛ وأنشد : [ البسيط ]

وأشْرَبُ الماء ما بِي نحوهُ عطشٌ *** إلاَّ لأنَّ عُيُونه سَيْلُ وَادِيهَا{[18809]}

وبعضهم لا يخُصُّه بها ، وقال ابن عطية : إنَّا لغةٌ لأزْد السَّراة ؛ ومنه قوله : [ الطويل ]

. . . *** ومِطْوايَ مُشْتاقَانِ لَهْ أرِقَانِ{[18810]}

وقال بعضهم : " هي لغة عُقَيْل ، وبني كلاب " .

وقرأ السدي{[18811]} : " ابْنَاهُ " بألف وهاء السكت ، قال ابنُ جنِّي : " وهو على النّداء " .

وقال أبو البقاء{[18812]} : " ابناه " على الترثِّي وليس بندبة ؛ لأنَّ النُّدبة لا تكونُ بالهمزة .

وهو كلامٌ مشكلٌ في نفسه ، وأين الهمزةُ هنا ؟ إن عنى همزة النِّداء ، فلا نُسَلِّم أنَّ المقدَّر من حروفِ النِّداءِ هو الهمزةُ ؛ لأنَّ النُّحاة نصُّوا على أنَّه لا يضمر من حروف النِّداءِ إلاَّ " يَا " لأنَّها أم الباب .

وقوله : " الترثِّي " هو قريبٌ في المعنى من الندبة .

وقد نصوا على أنَّه لا يجوزُ حذف [ حرف ] النداء من المندوب ، وهذا شبيهٌ به .

وقرأ عليٌّ - كرم الله وجهه{[18813]} - : " ابنها " إضافة إلى امرأته كأنه اعتبر قوله : " ليْسَ من أهلكَ " ، وقوله : " ابْنِي " و{ مِنْ أَهْلِي } [ هود : 45 ] لا يدل له لاحتمالِ أن يكون ذلك لأجل الحنوّ ، وهو قول الحسن ، وجماعة .

وقرأ محمد بن عليّ{[18814]} ، وعروة بن الزبير : " ابْنَهَ " بهاء مفتوحة دون ألف ، وهي كالقراءةِ قبلها ، إلاَّ أنه حذف ألف " ها " مجتزئاً عنها بالفتحةِ ، كما تحذف الياءُ مُجْتَزأ عنها بالكسرة ، قال ابن عطيَّة : " هي لغةٌ " ؛ وأنشد : [ البسيط ]

إمَّا تقُودُ بِهَا شَاةً فتأكُلُهَا *** أو أن تَبِيعَه في بَعْضِ الأرَاكِيبِ{[18815]}

يريد : تَبِيعهَا " فاجتزأ بالفتحةِ عن الألفِ ، كما اجتزأ الآخر عنها في قوله : - وأنشده ابن الأعرابي على ذلك - : [ الوافر ]

فَلَسْتُ براجعٍ ما فَاتَ مِنِّي *** بِلَهْفَ ، ولا بِلَيْتَ ، ولا لَوَ انِّي{[18816]}

يريد : " يَا لَهْفَا " فحذف ، وهذا يخصُّه بعضهم بالضرورة ، ويمنع في السَّعة : " يا غُلامَ " في : يا غُلامَا .

وسيأتي في نحو { ياأبت } [ يوسف : 4 ] بالفتح : هل ثمَّ ألفٌ محذوفة أم لا ؟ وتقدَّم خلاف في نحو : يا ابن أمَّ ، ويا ابن عمَّ : هل ثمَّ ألفٌ محذوفة مجتزأٌ عنها بالفتحةِ أم لا ؟ فهذا أيضاً كذلك ، ولكن الظَّاهر عدم اقتياسه ، وقد خطَّأ النَّحَّاسُ أبا حاتم في حذف هذه الألف ، وفيه نظر .

قوله : { وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ } جملةٌ في موضع نصب على الحالِ ، وصاحبها هو " ابْنَهُ " والحالُ تأتي من المنادى لأنَّه مفعولٌ به .

والمَعْزِل - بكسر الزاي - اسم مكن العزلة ، وكذلك اسم الزمان أيضاً ، وبالفتح هو المصدر . قال أبو البقاء{[18817]} : " ولمْ أعلم أحداً قرأ بالفتح " .

قال شهابُ الدِّين{[18818]} : لأنَّ المصدر ليس حاوياً له ولا ظرفه ؛ فكيف يقرأ به إلاَّ مجازٍ بعيد ؟ .

وأصله : من العَزْل ، وهو التَّنحية ، والإبعاد تقول : كنت بمعزلٍ عن كذا ، أي : بموضع قد عُزِل منه ، قيل : كان بمعزلٍ عن السفينة ، لأنه كان يظنُّ أنَّ الجبل يمنعه من الغرق .

وقيل : كان بمعزل عن أبيه وإخوته وقومه ، وقيل : كان في معزل من الكفار كأنَّه انفرد عنهم فظنَّ نوحٌ أنَّ ذلك محبة لمفارقتهم .

فصل

اختلفوا في أنه هل كان ابناً له ؟ فقيل : كان ابنه حقيقة لنصِّ القرآن ، وصرفُ هذا اللفظ إلى أنَّهُ رباه ، فأطلق عليه اسم الابن لهذا السَّبب ، صرف للكلام عن حقيقته إلى مجازه من غير ضرورة ، والمخالفُ لهذا الظَّاهر إنَّما خالفهُ استبعاداً لأن يكون ولد الرسول كافراً ، وهذا ليس ببعيد ؛ فإنَّه قد ثبت بنصِّ القرآن أنَّ والد الرسول - عليه الصلاة والسلام - كان كافراً ، فكذلك ههنا .

فإن قيل : لمَّا دَعَا وقال : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] فكيف نادى ابنه مع كفره ؟ .

فالجواب من وجوه :

الأول : أنَّهُ كان ينافقُ أباه ؛ فظنَّ نوحٌ أنَّهُ مؤمنٌ ؛ فلذلك ناداه ، ولولا ذلك لما أحب نجاته .

الثاني : أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يعلمُ أنه كافرٌ لكن ظنَّ أنه لمَّا شاهد الغرق ، والأهوال العظيمة فإنَّهُ يقبل الإيمان ، فكان قوله : { يا بني اركب مَّعَنَا } كالدَّلائلِ على أنَّهُ طالبٌ منه الإيمان ، وتأكد هذا بقوله : { وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين } أي : تابعهم في الكفر ، واركب مع المؤمنين .

الثالث : أنَّ شفقة الأبوة لعلَّها حملته على ذلك النداء ، والذي تقدَّم من قوله : { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول } [ هود : 40 ] كان كالمجمل ، فلعلَّه جوَّز ألاَّ يكون هو داخلاً فيه .

وقيل : كان ابن امرأته ، ويدلُّ عليه ما تقدَّم من القراءة .

وقال قتادة : سألت الحسن عنه فقال : والله ما كان ابنه فقلت : إنَّ الله - تعالى - حكى عنه أنه قال : { إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي } [ هود : 45 ] وأنت تقولُ : ما كان ابناً له ، فقال : لَمْ يقل : إنَّ ابني منِّي ، وإنَّما قال : من أهلي ، وهذا يدلُّ على قولي{[18819]} .

وقيل : ولد على فراشه ، قالوا : لقوله تعالى في امرأة نوح ، وامرأة لوط { فَخَانَتَاهُمَا } [ التحريم : 10 ] .

قال ابن الخطيب{[18820]} : وهذا قول خبيثٌ يجب صون منصب الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - عن هذه الفضيحةِ لا سيما هو على خلاف نصِّ القرآن .

وأمَّا قوله تعالى : { فَخَانَتَاهُمَا } [ التحريم : 10 ] فليس فيه أنَّ تلك الخيانة كانت بالسَّبب الذي ذكروه .

قيل لابن عباس - رضي الله عنه - : كيف كانت تلك الخيانةُ ، فقال : كانت امرأة نوح تقول : زَوْجي مجنونٌ ، وامرأة لوط تدلُّ الناس على ضيفه ، إذا نزلُوا به{[18821]} ، ويدلُّ على فسادِ هذا القول قوله تعالى : { الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون لِلْخَبِيثَاتِ } [ النور : 26 ] وقوله : { والزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين } [ النور : 3 ] .

قوله : { يا بني اركب مَّعَنَا } قرأ البزيُّ ، وقالون{[18822]} ، وخلاَّد بإظهار باء " ارْكَب " قبل ميم " مَنَعَنَا " والباقون بإدغامها في الميم ، وقرأ عاصم هنا{[18823]} " يَا بُنَيَّ " بفتح الياء . وأمَّا في غير هذه السُّورة فإنَّ حفصاً عنه فعل ذلك . والباقون : بسكر الياء في جميع القرآن إلا ابن كثير ؛ فإنَّهُ في الأول من لقمان ، وهو قوله : { يا بني لاَ تُشْرِكْ بالله } [ لقمان : 13 ] فإنَّه سكَّنهُ وصْلاً ووقْفاً ، وفي الثاني كغيره أنَّهُ يكسر ياءه ، وحفص على أصله من فتحه . وفي الثالث وهو قوله : { يا بني أَقِمِ الصلاة } [ لقمان : 17 ] اختلف عنه فروى البزي كحفصٍ ، وروى عنه قنبل السُّكون كالأول . هذا ضبط القراءة .

وأمَّا تخريجها فمن فتح فقيل : أصلها : " يَا بُنَيَّا " بالألف فحذفت الألفُ تخفيفاً ، اجترأ عنها بالفتحةِ كما تقدَّم . وقيل : بل حذفت لالتقاءِ الساكنين ؛ لأنَّهما وقع بعدها راءُ " ارْكَبْ " وهذا تعليلٌ فاسدٌ جدّاً ، بدليل سقوطها في سورة لقمان في ثلاثة مواضع حيث لا ساكنان . وكأنَّ هذا المُعلَّل لم يعلمْ بقراءةِ عاصم في غير هذه السورة ، ولا بقراءة البزِّي في " لقمان " ، وقد نقل ذلك أبو البقاءِ ولمْ ينكرهُ . وكذلك قال الزمخشريُّ أيضاً .

وأمَّا من كسر فحذفت الياءُ أيضاً : إمَّا تخفيفاً وهو الصحيحُ ، وإما لالتقاء الساكنين ، وقد تقدَّم فسادهُ . وأمَّا من سكَّن فلما رأى من الثِّقَلِ مع مطلق الحركةِ ، ولا شكَّ أنَّ السُّكونَ من أخفِّ الحركاتِ ، ولا يقالُ : فلمَ وافق ابنُ كثير غير حفص في ثاني لقمان ، ووافق حفصاً في الأخيرة في رواية البزي عنه ، وسكَّن الأول ؟ لأنَّ ذلك جمع بين اللغات ، والمفرَّق آتٍ بمحالٍ .

وأصلُ هذه اللفظة بثلاث ياءات : الأولى للتَّصغير ، والثانيةُ لامُ الكلمة ، وهل هي ياءٌ بطريق الأصالةِ أو مبدلةٌ من واوٍ ؟ خلافٌ تقدَّم تحقيقُه أول الكتاب في لام " ابن " ما هي ؟ والثالثة ياءُ المتكلِّم مضافٌ إليها ، وهي التي طرأ عليها القلبُ ألفاً ثم الحذفُ ، أو الحذفُ وهي ياءٌ بحالها .


[18807]:ينظر: المحرر الوجيز 3/174 والبحر المحيط 5/226 والدر المصون 4/100.
[18808]:ينظر: المحرر الوجيز 3/173 والبحر المحيط 5/226 والدر المصون 4/100.
[18809]:تقدم.
[18810]:تقدم.
[18811]:ينظر: الكشاف 2/396، والمحرر الوجيز 3/173، والبحر المحيط 5/226، والدر المصون 4/100.
[18812]:ينظر: الإملاء 2/39.
[18813]:ينظر: الكشاف 2/396، والدر المصون 4/100.
[18814]:ينظر: الكشاف 2/396، المحرر الوجيز 3/173، البحر المحيط 5/227، الدر المصون 4/100.
[18815]:ينظر: البيت في خزانة الأدب 5/2732 ورصف المباني ص 15 وسر صناعة الإعراب ص 127 وشرح شواهد الشافية ص 240 واللسان (ركب) وروح المعاني 12/58 والبحر المحيط 5/226 والدر المصون 4/100.
[18816]:تقدم.
[18817]:ينظر: الإملاء لأبي البقاء 2/39.
[18818]:ينظر: الدر المصون 4/101.
[18819]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (9/32).
[18820]:ينظر: تفسير الفخر الرازي 17/185.
[18821]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/377) وعزاه إلى عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وصححه من طرق عن ابن عباس وسيأتي تخريجه في موضعه.
[18822]:ينظر: الدر المصون 4/101.
[18823]:ينظر: الحجة 4/333 وإعراب القراءات السبع 1/282 وحجة القراءات 340 والإتحاف 2/126 والمحرر الوجيز 3/174 والبحر المحيط 5/227 والدر المصون 4/101.