قوله : " وهِيَ تَجْرِي " في هذه الجملةِ ، ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّها مستأنفةٌ ، أخبر الله تعالى عن السفينة بذلك .
والثاني : أنَّها في محلِّ نصب على الحالِ من الضَّمير المستتر في " بِسْمِ اللهِ " أي : جريانها استقرَّ بسم الله حال كونها جارية .
الثالث : أنَّها حالٌ من شيءٍ محذوفٍ تضَمَّنته جملةٌ دلَّ عليها سياقُ الكلامِ .
قال الزمخشريُّ : فإن قلت : بم اتَّصل قوله : " وهِيَ تَجْرِي بهِمْ " ؟ قلت : بمحذُوفٍ دلَّ عليه قوله : " اركبُوا فيها بسْمِ الله " كأنَّهُ قيل : فركبوا فيها يقولون : " بسم الله وهي تجري بهم " .
وقوله " بِهِمْ " يجوزُ فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلَّق ب " تَجْرِي " .
والثاني : أنَّه متعلقٌ بمحذوفٍ أي : تجري ملتبسةً بهم ، ولذلك فسَّرهُ الزمخشريُّ بقوله : " أي : تجْرِي وهُمْ فيها " .
وقوله : " كالْجِبَالِ " صفة ل " مَوْجٍ " .
قال ابن جرير ، وغيره : إنَّ الطُّوفان كان في ثالث عشر شهر آب في عادة القبطِ ، وإنَّ الماء ارتفع على أعلى جبل في الأرض خمسة عشر ذراعاً ، وهو الذي عند أهل الكتاب ، وقيل : ثمانين ذراعاً وعمَّ جميع الأرض طولاً وعرْضاً .
والمَوْجُ جمع " مَوْجة " والموج : ما ارتفع من الماءِ إذا اشتدَّ عليه الريح . وهذا يدلُّ على أنَّهُ حصل في ذلك الوقت رياح عاصفة .
فإن قيل : الجريانُ في الموج يوجب الغرقَ .
فالجوابُ : أنَّ الأمواجَ لمَّا أحاطت بالسَّفينة من جوانبها أشبهت تلك السَّفينة كأنَّها جرت في داخل الأمواج .
قوله تعالى : { ونادى نُوحٌ ابنه } الجمهور على كسْرِ تنوين " نوح " لالتقاء الساكنين .
وقرأ{[18807]} وكيع بضمِّه إتباعاً لحركةِ الإعراب ، واسترذلَ أبو حاتمٍ هذه القراءة ، وقال : " هي لغةُ سوءٍ لا تُعْرَفُ " .
وقرأ العامَّةُ : " ابنهُ " بوصل هاء الكناية بواو ، وهي اللغةُ الفصيحةُ الفاشية .
وقرأ ابنُ عباس{[18808]} بسكون الهاء . قال بعضهم : هذا مخصُوصٌ بالضَّرُورة ؛ وأنشد : [ البسيط ]
وأشْرَبُ الماء ما بِي نحوهُ عطشٌ *** إلاَّ لأنَّ عُيُونه سَيْلُ وَادِيهَا{[18809]}
وبعضهم لا يخُصُّه بها ، وقال ابن عطية : إنَّا لغةٌ لأزْد السَّراة ؛ ومنه قوله : [ الطويل ]
. . . *** ومِطْوايَ مُشْتاقَانِ لَهْ أرِقَانِ{[18810]}
وقال بعضهم : " هي لغة عُقَيْل ، وبني كلاب " .
وقرأ السدي{[18811]} : " ابْنَاهُ " بألف وهاء السكت ، قال ابنُ جنِّي : " وهو على النّداء " .
وقال أبو البقاء{[18812]} : " ابناه " على الترثِّي وليس بندبة ؛ لأنَّ النُّدبة لا تكونُ بالهمزة .
وهو كلامٌ مشكلٌ في نفسه ، وأين الهمزةُ هنا ؟ إن عنى همزة النِّداء ، فلا نُسَلِّم أنَّ المقدَّر من حروفِ النِّداءِ هو الهمزةُ ؛ لأنَّ النُّحاة نصُّوا على أنَّه لا يضمر من حروف النِّداءِ إلاَّ " يَا " لأنَّها أم الباب .
وقوله : " الترثِّي " هو قريبٌ في المعنى من الندبة .
وقد نصوا على أنَّه لا يجوزُ حذف [ حرف ] النداء من المندوب ، وهذا شبيهٌ به .
وقرأ عليٌّ - كرم الله وجهه{[18813]} - : " ابنها " إضافة إلى امرأته كأنه اعتبر قوله : " ليْسَ من أهلكَ " ، وقوله : " ابْنِي " و{ مِنْ أَهْلِي } [ هود : 45 ] لا يدل له لاحتمالِ أن يكون ذلك لأجل الحنوّ ، وهو قول الحسن ، وجماعة .
وقرأ محمد بن عليّ{[18814]} ، وعروة بن الزبير : " ابْنَهَ " بهاء مفتوحة دون ألف ، وهي كالقراءةِ قبلها ، إلاَّ أنه حذف ألف " ها " مجتزئاً عنها بالفتحةِ ، كما تحذف الياءُ مُجْتَزأ عنها بالكسرة ، قال ابن عطيَّة : " هي لغةٌ " ؛ وأنشد : [ البسيط ]
إمَّا تقُودُ بِهَا شَاةً فتأكُلُهَا *** أو أن تَبِيعَه في بَعْضِ الأرَاكِيبِ{[18815]}
يريد : تَبِيعهَا " فاجتزأ بالفتحةِ عن الألفِ ، كما اجتزأ الآخر عنها في قوله : - وأنشده ابن الأعرابي على ذلك - : [ الوافر ]
فَلَسْتُ براجعٍ ما فَاتَ مِنِّي *** بِلَهْفَ ، ولا بِلَيْتَ ، ولا لَوَ انِّي{[18816]}
يريد : " يَا لَهْفَا " فحذف ، وهذا يخصُّه بعضهم بالضرورة ، ويمنع في السَّعة : " يا غُلامَ " في : يا غُلامَا .
وسيأتي في نحو { ياأبت } [ يوسف : 4 ] بالفتح : هل ثمَّ ألفٌ محذوفة أم لا ؟ وتقدَّم خلاف في نحو : يا ابن أمَّ ، ويا ابن عمَّ : هل ثمَّ ألفٌ محذوفة مجتزأٌ عنها بالفتحةِ أم لا ؟ فهذا أيضاً كذلك ، ولكن الظَّاهر عدم اقتياسه ، وقد خطَّأ النَّحَّاسُ أبا حاتم في حذف هذه الألف ، وفيه نظر .
قوله : { وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ } جملةٌ في موضع نصب على الحالِ ، وصاحبها هو " ابْنَهُ " والحالُ تأتي من المنادى لأنَّه مفعولٌ به .
والمَعْزِل - بكسر الزاي - اسم مكن العزلة ، وكذلك اسم الزمان أيضاً ، وبالفتح هو المصدر . قال أبو البقاء{[18817]} : " ولمْ أعلم أحداً قرأ بالفتح " .
قال شهابُ الدِّين{[18818]} : لأنَّ المصدر ليس حاوياً له ولا ظرفه ؛ فكيف يقرأ به إلاَّ مجازٍ بعيد ؟ .
وأصله : من العَزْل ، وهو التَّنحية ، والإبعاد تقول : كنت بمعزلٍ عن كذا ، أي : بموضع قد عُزِل منه ، قيل : كان بمعزلٍ عن السفينة ، لأنه كان يظنُّ أنَّ الجبل يمنعه من الغرق .
وقيل : كان بمعزل عن أبيه وإخوته وقومه ، وقيل : كان في معزل من الكفار كأنَّه انفرد عنهم فظنَّ نوحٌ أنَّ ذلك محبة لمفارقتهم .
اختلفوا في أنه هل كان ابناً له ؟ فقيل : كان ابنه حقيقة لنصِّ القرآن ، وصرفُ هذا اللفظ إلى أنَّهُ رباه ، فأطلق عليه اسم الابن لهذا السَّبب ، صرف للكلام عن حقيقته إلى مجازه من غير ضرورة ، والمخالفُ لهذا الظَّاهر إنَّما خالفهُ استبعاداً لأن يكون ولد الرسول كافراً ، وهذا ليس ببعيد ؛ فإنَّه قد ثبت بنصِّ القرآن أنَّ والد الرسول - عليه الصلاة والسلام - كان كافراً ، فكذلك ههنا .
فإن قيل : لمَّا دَعَا وقال : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] فكيف نادى ابنه مع كفره ؟ .
الأول : أنَّهُ كان ينافقُ أباه ؛ فظنَّ نوحٌ أنَّهُ مؤمنٌ ؛ فلذلك ناداه ، ولولا ذلك لما أحب نجاته .
الثاني : أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يعلمُ أنه كافرٌ لكن ظنَّ أنه لمَّا شاهد الغرق ، والأهوال العظيمة فإنَّهُ يقبل الإيمان ، فكان قوله : { يا بني اركب مَّعَنَا } كالدَّلائلِ على أنَّهُ طالبٌ منه الإيمان ، وتأكد هذا بقوله : { وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين } أي : تابعهم في الكفر ، واركب مع المؤمنين .
الثالث : أنَّ شفقة الأبوة لعلَّها حملته على ذلك النداء ، والذي تقدَّم من قوله : { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول } [ هود : 40 ] كان كالمجمل ، فلعلَّه جوَّز ألاَّ يكون هو داخلاً فيه .
وقيل : كان ابن امرأته ، ويدلُّ عليه ما تقدَّم من القراءة .
وقال قتادة : سألت الحسن عنه فقال : والله ما كان ابنه فقلت : إنَّ الله - تعالى - حكى عنه أنه قال : { إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي } [ هود : 45 ] وأنت تقولُ : ما كان ابناً له ، فقال : لَمْ يقل : إنَّ ابني منِّي ، وإنَّما قال : من أهلي ، وهذا يدلُّ على قولي{[18819]} .
وقيل : ولد على فراشه ، قالوا : لقوله تعالى في امرأة نوح ، وامرأة لوط { فَخَانَتَاهُمَا } [ التحريم : 10 ] .
قال ابن الخطيب{[18820]} : وهذا قول خبيثٌ يجب صون منصب الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - عن هذه الفضيحةِ لا سيما هو على خلاف نصِّ القرآن .
وأمَّا قوله تعالى : { فَخَانَتَاهُمَا } [ التحريم : 10 ] فليس فيه أنَّ تلك الخيانة كانت بالسَّبب الذي ذكروه .
قيل لابن عباس - رضي الله عنه - : كيف كانت تلك الخيانةُ ، فقال : كانت امرأة نوح تقول : زَوْجي مجنونٌ ، وامرأة لوط تدلُّ الناس على ضيفه ، إذا نزلُوا به{[18821]} ، ويدلُّ على فسادِ هذا القول قوله تعالى : { الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون لِلْخَبِيثَاتِ } [ النور : 26 ] وقوله : { والزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين } [ النور : 3 ] .
قوله : { يا بني اركب مَّعَنَا } قرأ البزيُّ ، وقالون{[18822]} ، وخلاَّد بإظهار باء " ارْكَب " قبل ميم " مَنَعَنَا " والباقون بإدغامها في الميم ، وقرأ عاصم هنا{[18823]} " يَا بُنَيَّ " بفتح الياء . وأمَّا في غير هذه السُّورة فإنَّ حفصاً عنه فعل ذلك . والباقون : بسكر الياء في جميع القرآن إلا ابن كثير ؛ فإنَّهُ في الأول من لقمان ، وهو قوله : { يا بني لاَ تُشْرِكْ بالله } [ لقمان : 13 ] فإنَّه سكَّنهُ وصْلاً ووقْفاً ، وفي الثاني كغيره أنَّهُ يكسر ياءه ، وحفص على أصله من فتحه . وفي الثالث وهو قوله : { يا بني أَقِمِ الصلاة } [ لقمان : 17 ] اختلف عنه فروى البزي كحفصٍ ، وروى عنه قنبل السُّكون كالأول . هذا ضبط القراءة .
وأمَّا تخريجها فمن فتح فقيل : أصلها : " يَا بُنَيَّا " بالألف فحذفت الألفُ تخفيفاً ، اجترأ عنها بالفتحةِ كما تقدَّم . وقيل : بل حذفت لالتقاءِ الساكنين ؛ لأنَّهما وقع بعدها راءُ " ارْكَبْ " وهذا تعليلٌ فاسدٌ جدّاً ، بدليل سقوطها في سورة لقمان في ثلاثة مواضع حيث لا ساكنان . وكأنَّ هذا المُعلَّل لم يعلمْ بقراءةِ عاصم في غير هذه السورة ، ولا بقراءة البزِّي في " لقمان " ، وقد نقل ذلك أبو البقاءِ ولمْ ينكرهُ . وكذلك قال الزمخشريُّ أيضاً .
وأمَّا من كسر فحذفت الياءُ أيضاً : إمَّا تخفيفاً وهو الصحيحُ ، وإما لالتقاء الساكنين ، وقد تقدَّم فسادهُ . وأمَّا من سكَّن فلما رأى من الثِّقَلِ مع مطلق الحركةِ ، ولا شكَّ أنَّ السُّكونَ من أخفِّ الحركاتِ ، ولا يقالُ : فلمَ وافق ابنُ كثير غير حفص في ثاني لقمان ، ووافق حفصاً في الأخيرة في رواية البزي عنه ، وسكَّن الأول ؟ لأنَّ ذلك جمع بين اللغات ، والمفرَّق آتٍ بمحالٍ .
وأصلُ هذه اللفظة بثلاث ياءات : الأولى للتَّصغير ، والثانيةُ لامُ الكلمة ، وهل هي ياءٌ بطريق الأصالةِ أو مبدلةٌ من واوٍ ؟ خلافٌ تقدَّم تحقيقُه أول الكتاب في لام " ابن " ما هي ؟ والثالثة ياءُ المتكلِّم مضافٌ إليها ، وهي التي طرأ عليها القلبُ ألفاً ثم الحذفُ ، أو الحذفُ وهي ياءٌ بحالها .