الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَهِيَ تَجۡرِي بِهِمۡ فِي مَوۡجٖ كَٱلۡجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبۡنَهُۥ وَكَانَ فِي مَعۡزِلٖ يَٰبُنَيَّ ٱرۡكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (42)

قوله تعالى : " وهي تجري بهم في موج كالجبال " الموج جمع موجة ، وهي ما ارتفع من جملة الماء الكثير عند اشتداد الريح . والكاف للتشبيه ، وهي في موضع خفض نعت للموج . وجاء في التفسير أن الماء جاوز كل شيء بخمسة عشر ذراعا . " ونادى نوح ابنه " قيل : كان كافرا واسمه كنعان . وقيل : يام . ويجوز على قول سيبويه : " ونادى نوح ابنهُ " بحذف الواو من " ابنه " في اللفظ ، وأنشد{[8695]} :

له زَجَلٌ كأنه صوتُ حَادٍ

فأما " ونادى نوح ابْنَهَ{[8696]} وَكان " فقراءة شاذة ، وهي مروية عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وعروة بن الزبير . وزعم أبو حاتم أنها تجوز على أنه يريد " ابنها " فحذف الألف كما تقول : " ابنه " ، فتحذف الواو . وقال النحاس : وهذا الذي قال أبو حاتم لا يجوز على مذهب سيبويه ؛ لأن الألف خفيفة فلا يجوز حذفها ، والواو ثقيلة يجوز حذفها " وكان في معزل " أي من دين أبيه . وقيل : عن السفينة . وقيل : إن نوحا لم يعلم أن ابنه كان كافرا ، وأنه ظن أنه مؤمن ؛ ولذلك قال له : " ولا تكن مع الكافرين " وسيأتي . وكان هذا النداء من قبل أن يستيقن القوم الغرق ، وقبل رؤية اليأس ، بل كان في أول ما فار التنور ، وظهرت العلامة لنوح . وقرأ عاصم : " يا بني اركب معنا " بفتح الياء ، والباقون بكسرها . وأصل " يا بني " أن تكون بثلاث ياءات : ياء التصغير ، وياء الفعل ، وياء الإضافة ، فأدغمت ياء التصغير في لام الفعل ، وكسرت لام الفعل من أجل ياء الإضافة ، وحذفت ياء الإضافة لوقوعها موقع التنوين ، أو لسكونها وسكون الراء في هذا الموضع ، هذا أصل قراءة من كسر الياء ، وهو أيضا أصل قراءة من فتح ؛ لأنه قلب ياء الإضافة ألفا لخفة الألف ، ثم حذف الألف لكونها عوضا من حرف يحذف ، أو لسكونها وسكون الراء . قال النحاس : أما قراءة عاصم فمشكلة ، قال أبو حاتم : يريد يا بنياه ثم يحذف ، قال النحاس : رأيت علي بن سليمان يذهب إلى أن هذا لا يجوز ؛ لأن الألف خفيفة . قال أبو جعفر النحاس : ما علمت أن أحدا من النحويين جوز الكلام في هذا إلا أبا إسحاق ، فإنه زعم أن الفتح من جهتين ، والكسر من جهتين ؛ فالفتح على أنه يبدل من الياء ألفا ، قال الله عز وجل إخبارا : " يا ويلتا{[8697]} " [ هود : 72 ] وكما قال الشاعر :

فيا عجباً من رَحْلِهَا المُتَحَمِّلِ

فيريد يا بنيَّا ، ثم تحذف الألف ، لالتقاء الساكنين ، كما تقول : جاءني عبدا الله في التثنية . والجهة الأخرى أن تحذف الألف ؛ لأن النداء موضع حذف . والكسر على أن تحذف الياء للنداء . والجهة الأخرى على أن تحذفها لالتقاء الساكنين .


[8695]:البيت للشماخ، والشاهد في (كأنه) حذف الواو ضرورة، وتمامه: إذا طلب الوسيقة أو زمير يصف حمار وحش هائجا يطلب وسيقته، وهي أنثاه التي يضمها ويجمعها، من وسقت الشيء أي جمعته. (شواهد سيبويه).
[8696]:كذا في الشواذ، ويدل عليه ما يأتي عن أبي حاتم، وأما رسم ابنه بالواو فليس بشاذ.
[8697]:راجع ص 69 من هذا الجزء.