قوله تعالى : { يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم } تزعمون أنه كان على دينكم ، وإنما دينكم اليهودية والنصرانية ، وقد حدثت اليهودية بعد نزول التوراة ، والنصرانية بعد نزول الإنجيل .
قوله تعالى : { وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده } أي بعد إبراهيم بزمان طويل ، وكان بين إبراهيم وموسى ألف سنة ، وبين موسى وعيسى ألفا سنة .
ينكر تعالى على اليهود والنصارى في محاجتهم{[5154]} في إبراهيم الخليل ، ودعوى{[5155]} كل طائفة منهم أنه كان منهم ، كما قال محمد بن إسحاق بن يسار :
حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتنازعوا عنده ، فقالت الأحبار : ما كان إبراهيم إلا يهوديا . وقالت النصارى ما كان إبراهيم إلا نصرانيا . فأنزل الله تعالى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ [ وَمَا أُنزلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإنْجِيلُ إِلا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ]{[5156]} } أي : كيف تَدّعُون ، أيها اليهود ، أنه كان يهوديا ، وقد كان زمنه قبل أن ينزل الله التوراة على موسى ، وكيف تَدّعُون ، أيها النصارى ، أنه كان نصرانيا ، وإنما حدثت النصرانية بعد زمنه بدهر . ولهذا قال : { أَفَلا تَعْقِلُونَ } .
{ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ التّورَاةُ وَالإنْجِيلُ إِلاّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : { يا أهْلَ الكِتابِ } : يا أهل التوراة والإنجيل { لِمَ تُحاجّونَ } لم تجادلون { فِي إبْرَاهِيمَ } وتخاصمون فيه ، يعني في إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليه . وكان حجاجهم فيه : ادّعاء كل فريق من أهل هذين الكتابين أنه كان منهم ، وأنه كان يدين دين أهل نحلته ، فعابهم الله عزّ وجل بادّعائهم ذلك ، ودلّ على مناقضتهم ودعواهم ، فقال : وكيف تدّعون أنه كان على ملتكم ودينكم ، ودينكم إما يهودية أو نصرانية ، واليهودي منكم يزعم أن دينه إقامة التوراة والعمل بما فيها ، والنصرانيّ منكم يزعم أن دينه إقامة الإنجيل وما فيه ، وهذان كتابان لم ينزلا إلا بعد حين من مَهْلك إبراهيم ووفاته ، فكيف يكون منكم ؟ فما وجه اختصامكم فيه وادعائكم أنه منكم ، والأمر فيه على ما قد علمتم ، وقيل : نزلت هذه الآية في اختصام اليهود والنصارى في إبراهيم ، وادّعاء كل فريق منهم أنه كان منهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، قال : ثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتنازعوا عنده ، فقالت الأحبار : ما كان إبراهيم إلا يهوديا ، وقالت النصارى : ما كان إبراهيم إلا نصرانيا . فأنزل الله عزّ وجلّ فيهم : { يا أهْلَ الكِتابِ لِمَ تُحاجّونَ فِي إبْرَاهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التّوْرَاةُ وَالإنْجِيلُ إلاّ مِنْ بَعْدِهِ أفَلا تَعْقِلُونَ } ؟ قالت النصارى : كان نصرانيا ، وقالت اليهود : كان يهوديا ، فأخبرهم الله أن التوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعده ، وبعده كانت اليهودية والنصرانية .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { يا أهْلَ الكِتابِ لِمَ تُحاجّونَ فِي إبْرَاهِيمَ } يقول : لم تحاجون في إبراهيم ، وتزعمون أنه كان يهوديا أو نصرانيا ، وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده ، فكانت اليهودية بعد التوراة ، وكانت النصرانية بعد الإنجيل أفلا تعقلون .
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في دعوى اليهود إبراهيم أنه منهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم دعا يهود أهل المدينة إلى كلمة السواء ، وهم الذين حاجوا في إبراهيم ، وزعموا أنه مات يهوديا . فأكذبهم الله عزّ وجلّ ، ونفاهم منه ، فقال : { يا أهْلَ الكِتابِ لِمَ تُحاجّونَ فِي إبْرَاهِيمَ وَما أُنْزِلَتْ التّوْرَاةُ وَالإنْجِيلُ إلاّ مِنْ بَعْدِهِ أفَلا تَعْقِلُونَ } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ : { يا أهْلَ الكِتابِ لِمَ تُحاجّونَ فِي إبْراهِيمَ } قال : اليهود والنصارى برأه الله عزّ وجلّ منهم حين ادّعَتْ كل أمة أنه منهم ، وألحق به المؤمنين من كان من أهل الحنيفية .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
وأما قوله : { أفَلا تَعْقِلُونَ } فإنه يعني : أفلا تعقلون : تفقهون خطأ قيلكم إن إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا ، وقد علمتم أن اليهودية والنصرانية حدثت من بعد مهلكه بحين ؟ .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{يا أهْلَ الكِتابِ}: يا أهل التوراة والإنجيل، {لِمَ تُحاجّونَ}: لم تجادلون، {فِي إبْرَاهِيمَ} وتخاصمون فيه، يعني في إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليه. وكان حجاجهم فيه ادّعاء كل فريق من أهل هذين الكتابين أنه كان منهم، وأنه كان يدين دين أهل نحلته، فعابهم الله عزّ وجل بادّعائهم ذلك، ودلّ على مناقضتهم ودعواهم، فقال: وكيف تدّعون أنه كان على ملتكم ودينكم، ودينكم إما يهودية أو نصرانية، واليهودي منكم يزعم أن دينه إقامة التوراة والعمل بما فيها، والنصرانيّ منكم يزعم أن دينه إقامة الإنجيل وما فيه، وهذان كتابان لم ينزلا إلا بعد حين من مَهْلك إبراهيم ووفاته، فكيف يكون منكم؟ فما وجه اختصامكم فيه وادعائكم أنه منكم، والأمر فيه على ما قد علمتم، وقيل: نزلت هذه الآية في اختصام اليهود والنصارى في إبراهيم، وادّعاء كل فريق منهم أنه كان منهم.
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في دعوى اليهود إبراهيم أنه منهم.
{أفَلا تَعْقِلُونَ}: تفقهون خطأ قيلكم: إن إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا، وقد علمتم أن اليهودية والنصرانية حدثت من بعد مهلكه بحين.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ويحتمل {وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده} أي إن التوراة والإنجيل إنما نزلا من بعد موته، وكان فيهما أنه كان حنيفا مسلما {أفلا تعقلون} أنه {كان حنيفا مسلما}؟...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"أفلا تعقلون": أفلا تعقلون فساد هذه الدعوى، إذ العقل يمنع من الإقامة على دعوى بغير حجة، فكيف بما قد علم وظهر فساده بالمناقضة. وفي ذلك دلالة على أن العاقل لا يعذر في الإقامة على الدعوى من غير حجة، لما فيه من البيان عن الفساد والانتقاض. ولأن العقل طريق العلم، فكيف يضل عن الرشد من قد جعل الله إليه السبيل!...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وهذه الآية مبينة فساد هذه الدعاوى، التي لا تشبه لقيام الدليل القاطع على فسادها، لأنهم ادعوا لإبراهيم الخليل نِحلاً لم تحدث في الأرض، ولا وجدت إلا بعد موته بمدة طويلة، ولما كان الدليل عقلياً قال الله تعالى لهم موبخاً {أفلا تعقلون}؟...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
كان إبراهيم سأل الله أن يجعل له {لسان صدق في الآخرين} فاستجاب الله دعاءه حتى ادعته كل فرقة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما علم أهل الكتاب ما جبل عليه العرب من محبة أبيهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأن محمداً صلى الله عليه وسلم أتى بدينه كما تقدم في قوله سبحانه وتعالى {بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين} [البقرة: 135] اجتمع ملأ من قرابتهم بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، وضلل كل منهم الآخر وادعى كل منهم قصداً لاجتذاب المسلمين إلى ضلالهم بكيدهم ومحالهم اتباع إبراهيم عليه الصلاة والسلام بأنه صلى الله عليه وسلم كان على دينهم، ولم يكن لذلك ذكر في كتابهم، مع أن العقل يرده بأدنى التفات، لأن دين كل منهم إنما قرر بكتابهم، وكتابهم إنما نزل على نبيهم، ونبيهم إنما كان بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام بدهور متطاولة، واليهود ينسبون إلى يهوذا بن يعقوب عليه السلام، والنصارى ينسبون إلى الناصرة مخرج عيسى عليه الصلاة والسلام في جبل الجليل، ولا يعقل أن يكون المتقدم على دين ما حدث إلا بعده وعلى نسبة متأخرة عنه، وكان دينه صلى الله عليه وسلم إنما هو الإسلام، وهو الحنيفية السمحة، فقال سبحانه وتعالى مبكتاً لهم: {يا أهل الكتاب} كالمعلل لتبكيتهم، لأن الزلة من العالم أشنع {لم تحآجون في إبراهيم} فيدعيه كل من فريقكم {و} الحال أنه {ما أنزلت التوراة والإنجيل} المقرر كل منهما لأصل دين متجدد منكم {إلا} ولما كان إنزال كتاب كل منهم غير مستغرق للزمان الآتي بعده أدخل الجار فقال: {من بعده} وأعظم ما يتمسك به كل فرقة منهما السبت والأحد، ولم يكن ما يدعونه فيهما في شريعة إبراهيم عليه السلام، لا يقدرون على إنكار ذلك، ولا يأتي مثل ذلك في دعوى أنه مسلم لأن الإسلام الذي هو الإذعان للدليل معنى قديم موجود من حين خلق الله العقل، والدليل أنه لا يقدر أحد أن يدعي أنه ما حدث إلا بعد إبراهيم عليه السلام كما قيل في الدينين المذكورين.
ولما كان الدليل العقلي واضحاً في ذلك ختم الآية بقوله منكراً عليهم {أفلا تعقلون} أي هب أنكم لبستم وادعيتم أن ذلك في كتابكم زوراً وبهتاناً، وظننتم أن ذلك يخفى على من لا إلمام له بكتابكم، فكيف غفلتم عن البرهان العقلي!
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
جاءت هذه الآية والآيتان بعدها في سياق دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام، وبيان أنه دين جميع أنبيائهم الذين يدينون بإجلالهم، وكان إبراهيم عليه والصلاة والسلام وعلى آله موضع إجلال الفريقين منه لما في كتبهم من الثناء عليه في العهد العتيق والعهد الجديد، كما كانت قريش تجله وتدعي أنها على دينه، فأراد تعالى أن يبين لهم جميعا أن هذا النبي الكريم يدعوهم هو إليه على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم، فبدأ بالاحتجاج على أهل الكتاب بقوله: {وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده}: أي فإذا كان الدين الحق لا يعدو التوراة كما تقولون أيها اليهود، أو لا يتجاوز الإنجيل كما تقولون أيها النصارى، فكيف كان إبراهيم على الحق واستوجب ثناءكم وثناء من قبلكم.
{أفلا تعقلون} أن المتقدم على الشيء لا يمكن أن يكون تابعا له.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
لما ادعى اليهود أن إبراهيم كان يهوديا، والنصارى أنه نصراني، وجادلوا على ذلك، رد تعالى محاجتهم ومجادلتهم من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن جدالهم في إبراهيم جدال في أمر ليس لهم به علم، فلا يمكن لهم ولا يسمح لهم أن يحتجوا ويجادلوا في أمر هم أجانب عنه وهم جادلوا في أحكام التوراة والإنجيل سواء أخطأوا أم أصابوا فليس معهم المحاجة في شأن إبراهيم.
الوجه الثاني: أن اليهود ينتسبون إلى أحكام التوراة، والنصارى ينتسبون إلى أحكام الإنجيل، والتوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعد إبراهيم، فكيف ينسبون إبراهيم إليهم وهو قبلهم متقدم عليهم، فهل هذا يعقل؟! فلهذا قال {أفلا تعقلون} أي: فلو عقلتم ما تقولون لم تقولوا ذلك. الوجه الثالث: أن الله تعالى برأ خليله من اليهود والنصارى والمشركين، وجعله حنيفا مسلما، وجعل أولى الناس به من آمن به من أمته، وهذا النبي وهو محمد صلى الله على وسلم ومن آمن معه، فهم الذين اتبعوه وهم أولى به من غيرهم، والله تعالى وليهم وناصرهم ومؤيدهم، وأما من نبذ ملته وراء ظهره كاليهود والنصارى والمشركين، فليسوا من إبراهيم وليس منهم، ولا ينفعهم مجرد الانتساب الخالي من الصواب. وقد اشتملت هذه الآيات على النهي عن المحاجة والمجادلة بغير علم، وأن من تكلم بذلك فهو متكلم في أمر لا يمكن منه ولا يسمح له فيه، وفيها أيضا حث على علم التاريخ، وأنه طريق لرد كثير من الأقوال الباطلة والدعاوى التي تخالف ما علم من التاريخ.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذا الشوط من السورة ما يزال يجري مع الخط الأول الأساسي العريض فيها.. خط المعركة بين أهل الكتاب والجماعة المسلمة.. معركة العقيدة، وما يبذل أعداء هذا الدين من جهد ومن حيلة ومن مكيدة ومن خداع، ومن كذب، ومن تدبير، للبس الحق بالباطل، وبث الريب والشكوك، وتبييت الشر والضر لهذه الأمة بلا وناة ولا انقطاع.. ثم.. مواجهة القرآن لهذا كله، بتبصير المؤمنين بحقيقة ما هم عليه من الحق؛ وحقيقة ما عليه أعداؤهم من الباطل؛ وحقيقة ما يبيته لهم هؤلاء الأعداء.. وأخيرا بتشريح هؤلاء الأعداء.. طباعهم وأخلاقهم وأعمالهم ونياتهم.. على مشهد من الجماعة المسلمة، لتعريفها حقيقة أعدائها، وفضح ما يضفونه على أنفسهم من مظاهر العلم والمعرفة، وتبديد ثقة المخدوعين من المسلمين فيهم، وتنفيرهم من حالهم، وإسقاط دسائسهم بتركها مكشوفة عوراء، لا تخدع أحدا ولا تنطلي على أحد! ويبدأ هذا الشوط بمواجهة أهل الكتاب -اليهود والنصارى- بسخف موقفهم وهم يحاجون في إبراهيم -عليه السلام- فيزعم اليهود أنه كان يهوديا، ويزعم النصارى أنه كان نصرانيا. على حين أن إبراهيم سابق لليهودية والنصرانية، سابق للتوراة والإنجيل. والحجاج فيه على هذا النحو مراء لا يستند إلى دليل.. ويقرر حقيقة ما كان عليه إبراهيم.. لقد كان على الإسلام.. دين الله القويم. وأولياؤه هم الذين يسيرون على نهجه. والله ولي المؤمنين أجمعين.. ومن ثم تسقط ادعاءات هؤلاء وهؤلاء؛ ويتبين خط الإسلام الواصل بين رسل الله والمؤمنين بهم على توالي القرون: (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه، وهذا النبي، والذين آمنوا. والله ولي المؤمنين)..
يلي ذلك في السياق كشف الهدف الأصيل الكامن وراء مماراة أهل الكتاب في إبراهيم وغير إبراهيم -مما سبق في السورة ومما سيجيء- فهو الرغبة الملحة في إضلال المسلمين عن دينهم، وتشكيكهم في عقيدتهم.. ومن ثم يتجه بالتقريع إلى المضللين: (يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون؟ يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون؟).. ثم يطلع الجماعة المسلمة على لون من تبييت أعدائهم وتدبيرهم، لزعزعة ثقتهم في عقيدتهم ودينهم، بطريقة خبيثة ماكرة لئيمة. ذلك أن يعلنوا إيمانهم بالإسلام أول النهار، ثم يكفروا بالإسلام آخره.. كي يلقوا في روع غير المتثبتين في الصف المسلم -ومثلهم موجود دائما في كل صف- أنه لأمر ارتد أهل الكتاب، الخبيرون بالكتب والرسل والديانات: (وقالت طائفة من أهل الكتاب:آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون).. وهو كيد خبيث لئيم! ثم يكشف عن طبيعة أهل الكتاب وأخلاقهم ونظرتهم للعهود والمواثيق -على أمانة في بعضهم لا ينكرها عليهم- فأما البعض الآخر فلا أمانة له ولا عهد ولا ذمة؛ وهم يفلسفون جشعهم وخيانتهم ويدعون لها سندا من دينهم، ودينهم من هذا الخلق بريء: (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك. ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما. ذلك بأنهم قالوا:ليس علينا في الأميين سبيل. ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون)..
وفي هذا الموضع يبين طبيعة نظرة الإسلام الأخلاقية ومبعثها وارتباطها بتقوى الله: (بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين. إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا، أولئك لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم).. ويمضي يعرض نموذجا آخر من التواء أهل الكتاب وكذبهم الرخيص في أمر الدين، ابتغاء مكاسب الأرض وهي كلها ثمن قليل: (وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب، لتحسبوه من الكتاب، وما هو من الكتاب. ويقولون:هو من عند الله. وما هو من عند الله. ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون).. ومن هذا الذي يلوون ألسنتهم فيه ما يدعونه من الوهية للمسيح وللروح القدس.. وينفي الله -سبحانه- أن يكون المسيح -عليه السلام- قد جاءهم بهذا في الكتاب أو أمرهم به: (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة، ثم يقول للناس:كونوا عبادا لي من دون الله. ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون. ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا. أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون)..
وبهذه المناسبة يذكر حقيقة الصلة بين موكب الرسل المتتابعة.. وهي عهد الله عليهم أن يسلم السابق منهم للاحق وينصره: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين:لما آتيتكم من كتاب وحكمة، ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه. قال:أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري؟ قالوا:أقررنا. قال:فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين).. ومن ثم يتعين على أهل الكتاب أن يؤمنوا بالرسول الأخير وينصروه. ولكنهم لا يوفون بعهد الله معهم ومع رسلهم الأولين. وفي ظل هذا العهد الساري يقرر أن الذي يبتغي دينا غير دين الله.. الإسلام.. يخرج في الحقيقة على نظام الكون كله كما إراده الله: (أفغير دين الله يبغون، وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها؟ وإليه يرجعون؟).. فيبدو هؤلاء الذين يخرجون عن إسلام أمرهم لله كله، والطاعة والاتباع لمنهج الله في خضوع واستسلام.. يبدو هؤلاء شذاذا خارجين على نظام الوجود الكبير! هنا يوجه الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه إلى إعلان الإيمان بدين الله الواحد، ممثلا في كل ما جاء به الرسل أجمعين. وأن الله لا يقبل من البشر جميعا إلا هذا الدين (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين)..
فأما الذين لا يؤمنون بهذا الدين فلا مطمع لهم في هداية الله. ولا في النجاة من عقابه. إلا أن يتوبوا. وأما الذين يموتون وهم كفار فلن ينفعهم أن يكونوا قد بذلوا ما بذلوا، ولن ينجيهم أن يفتدوا بملء الأرض ذهبا! وبمناسبة البذل والفداء يحبب للمسلمين أن ينفقوا مما يحبون من مال في هذه الدنيا، ليجدوه عند الله مدخرا يوم القيامة: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون. وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم).. وهكذا يستعرض هذا الشوط الواحد هذا الحشد من الحقائق والتوجيهات. وهو شوط في المعركة الضخمة التي تعرضها السورة، دائرة بين الجماعة المسلمة وأعداء هذا الدين. من رواء القرون. وهي ذاتها المعركة الدائرة اليوم، لا تختلف فيها الأهداف والغايات، وإن اختلفت أشكال الوسائل والأدوات.. وهي هي في خطها الطويل المديد..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف ابتدائي للانتقال من دعائهم لكلمة الحق الجامعة لحق الدين، إلى الإنكار عليهم محاجتهم الباطلة للمسلمين في دين إبراهيم، وزعم كلّ فريق منهم أنهم على دينه توصّلاً إلى أنّ الذي خالف دينهم لا يكون على دين إبراهيم كما يدّعي النبي محمد صلى الله عليه وسلم فالمحاجة فرع عن المخالفة في الدعوى. وهذه المحاجة على طريق قياس المساواة في النفي،... فيجوز أن تكون هذه الجملة من مقول القول المأمور به الرسولُ في قوله تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا} أي قل لهم: يا أهل الكتاب لِمَ تحاجون. ويجوز أن يكون الاستئناف من كلام الله تعالى عَقِبَ أمرِه الرسولَ بأن يقول {تعالَوا} فيكون توجيه خطاب إلى أهل الكتاب مباشرة،... وأحسب أنّ ادّعاءهم أنهم على ملة إبراهيم إنما انتحلوه لبثّ كل من الفريقين الدعوةَ إلى دينه بين العرب، ولا سيما النصرانية، فإنّ دعاتها كانوا يحاولون انتشارها بين العرب فلا يجدون شيئاً يروج عندهم سِوى أن يقولوا: إنها ملة إبراهيم، ومن أجل ذلك اتُّبعت في بعض قبائل العرب...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وهذا أسلوبٌ آخر في حوار القرآن مع أهل الكتاب، يستهدف كشف الزيف الذي كانوا يُمارسونه في تضليل النّاس باستغلال الصفة الروحية الكبيرة والموقع القدسيّ العظيم لبعض الشخصيات النبوية، فيسبغون عليه انتماءهم الديني ليوحوا للبسطاء بقداسة مواقعهم، وسلامة طروحاتهم الفكرية والعملية، من أجل كسب هؤلاء البسطاء إلى صفوفهم وتحويلهم عن السير في خطِّ الإسلام...
ولم تكن القضية لدى الطرفين مطروحة للمناقشة حتّى يفيض النّاس فيها بالحوار والنزاع، بل كانت مطروحة للإيمان الأعمى الذي يقبل كلّ شيء من دون معارضة، انطلاقاً من الفكرة القائلة بأنَّ الإيمان فوق العقل. وجاء القرآن ليفضح اللعبة ويضع النقاط على الحروف، فطرح القضية للمناقشة في جانبها التاريخي الزمني، ودعاهم إلى استنطاق عقولهم في ذلك،...
[أفلا تعقِلُونَ] ذلك، لتتحرّكوا في دائرة تقديم الحجّة من منطق العقل الذي يضع الأشياء في مواضعها الطبيعية من الزمان والمكان عندما يدخل في المقارنة بين الأشخاص والأشياء؟! وهذه إشارة إلى أنَّ القرآن الكريم يقدّم العقل كأساس في مجال الجدال بين النّاس والاحتجاج للعقائد والأفكار، فلا ينطلق الموضوع الذي يقع محلاً للنزاع من حالة عاطفية أو مزاجية أو استعراضية بقصد التأثير على الجوّ النفسي بعيداً عن المحاكمة العقلية...
الآية في حركة الواقع: ونلتقي في خطّ هذا الأسلوب بالكلمات التي تُثار أمام البسطاء من خلال ما يطرحه الكفر والانحراف من مبادئ، كالشيوعية والاشتراكية والديمقراطية وغيرها من المبادئ الفلسفية والاقتصادية والسياسية، فيُحاولون الإيحاء للمسلمين البسطاء بالتقاء الإسلام بها وانتمائه إليها في مفاهيمه وتشريعاته، من أجل أن يضلّلوهم ويسدّوا عليهم طريق الاعتراض والمناقشة. وقد يضيفون إلى ذلك الحديث عن انتماء الإمام عليّ (ع) وأبي ذر الغفاري إلى الاشتراكية، لأنَّهما كانا ينطلقان في كلماتهما من موقع المواجهة للواقع الاقتصادي الاستغلالي الفاسد، مما يُحاول البعض تفسيره بما توحي به هذه المبادئ من شعارات وأفكار. ولكن القضية لا بُدَّ من أن تُعالج بما عالج به القرآن الكريم قصة مزاعم أهل الكتاب في قضية إبراهيم (ع)، بالتأكيد على الفرق الكبير في الفاصل الزمني بين الإسلام وشخصياته، وبين مبتدعي هذه المبادئ، ثُمَّ بمحاولة إيضاح المفاهيم الإسلامية والاقتصادية والاجتماعية بالمقارنة مع مبادئ الكفر والانحراف المتمثّلة في تلك المبادئ، والإعلان لهم بأنَّ عليّاً وأبا ذر لم يطرحا في معارضتهما للواقع الفاسد إلاَّ المنهج الإسلامي الذي يُعالج المشكلة الواقعية بالحلّ الإسلامي لا بغيره. وهكذا نجد في هذه الآية الكريمة خطّاً إسلامياً ممتداً في حياتنا الرسالية في مجال الدعوة والعمل، وحركة الوعي المنفتح على الواقع والإنسان...