اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ ٱلتَّوۡرَىٰةُ وَٱلۡإِنجِيلُ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِهِۦٓۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (65)

قوله : { لِمَ تُحَآجُّونَ } هي " ما " الاستفهامية ، دخل عليها حرف الجر ، فحُذِفَت ألفُها وتقدم ذلك في البقرة ، واللام متعلقة بما بعدها ، وتقديمها على عاملها واجب ؛ لجرها ما له صَدْرُ الكلام .

قوله : { فِي إِبْرَاهِيمَ } لا بد من مضافٍ محذوفٍ ، أي : في دين إبراهيم وشريعته ؛ لأن الذوات لا مجادلة فيها .

قوله : { وَمَآ أُنزِلَتِ التَّورَاةُ } الظاهر أن الواو للحال ، كهي في قوله : { لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } [ آل عمران : 70 ] .

أي كيف تحاجون في شريعته والحال أن التوراة والإنجيل متأخران عنه ؟

وجوزوا أن تكون عاطفة ، وليس بالبيِّن ، وهذا الاستفهام للإنكار والتعجُّب ، وقوله : { إِلاَّ مِن بَعْدِهِ } متعلق ب " أنزلت " ، وهو استثناء مفرَّغ .

فصل

اعلم أن اليهود كانوا يقولون : إن إبراهيم كان على ديننا ، والنصارى كانوا يقولون : إن إبراهيم كان على ديننا ، فقيل لهم : كيف تقولون ذلك والتوراة والإنجيل إنما نَزَلاَ من بعده بزمان طويلٍ ؟ كان بين إبراهيم وبين موسى ألف سنةٍ ، وبين موسى وعيسى ألف سنةٍ ، فكيف يُعْقَل أنْ يكون يهوديًّا أو نصرانياً ؟

فإن قيل : فهذا - أيضاً - لازم عليكم ؛ لأنكم تقولون : إن إبراهيم على دين الإسلام ، والإسلام إنما نزل بعده بزمان طويلٍ ، فإن قلتم : المراد أن إبراهيم كان في أصول الدين على مذهب المسلمين الآن ، فنقول لهم : لِمَ لا يجوز - أيضاً - أن يقول اليهود : إن إبراهيم كان يهوديًّا بمعنى أنه كان على الدين الذي عليه اليهود ، وتقول النصارى : إن إبراهيم كان نصرانياً بمعنى أنه كان على الدين الذي عليه النصارى ؟ فكون التوراة والإنجيل نازلين بعد إبراهيم لا ينافي كونه يهودياً أو نصرانياً ، كما أن كون القرآن نازلاً بعده لا ينافي كونه مسلماً .

فالجواب : أن القرآن أخبر أن إبراهيم كان حنيفاً مسلماً ، وليس في التوراة والإنجيل أن إبراهيم كان يهودياً ، أو نصرانياً ، فظهر الفرق .

ثم نقول : أما كون النصارى ليسوا على ملة إبراهيمَ فظاهر ؛ لأن المسيح ما كان موجوداً في زمان إبراهيمَ فما كانت عبادته مشروعة في زمان إبراهيم - لا محالة - فكان الاشتغال بعبادة المسيح مخالفة لإبراهيم - لا محالة - وأما كون اليهود ليسوا على ملة إبراهيم ، فلا شك أنه كان لله - تعالى - تكاليف على الخلق قبل مجيء موسى عليه السلام وكان قبله أنبياء ، وكانت لهم شرائعُ معيَّنة ، فلما جاء موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم ، فإما أن يقال : إنّ موسَى جاء بتقرير تلك الشرائع ، أو بغيرها ، فإن جاء بتقريرها لم يكن موسَى صاحب الشريعةِ ، بل كان كالفقيه المقرِّر لشرعِ مَنْ قبله ، واليهود لا يرضَوْن بذلك .

وإذا كان جاء بشرع سوى شرع مَنْ تقدمه فقد قال بالنسخ ، فثبت أنه لا بد وأن يكون دين كُلِّ الأنبياء جواز القول بالنسخ ، وأن النسخ حق - واليهود يُنْكرون ذلك ، فثبت أن اليهود ليسوا على ملة إبراهيم ، فظهر بُطْلانُ قولِ اليهود .