ويرد الرسل . . لا ينكرون بشريتهم بل يقررونها ، ولكنهم يوجهون الأنظار إلى منة الله في اختيار رسل من البشر ، وفي منحهم ما يؤهلهم لحمل الأمانة الكبرى :
( قالت لهم رسلهم : إن نحن إلا بشر مثلكم . ولكن الله يمن على من يشاء من عباده ) . .
ويذكر السياق لفظ ( يمن ) تنسيقا للحوار مع جو السورة . جو الحديث عن نعم الله . ومنها هذه المنة على من يشاء من عباده . وهي منة ضخمة لا على أشخاص الرسل وحدهم . ولكن كذلك على البشرية التي تشرف بانتخاب أفراد منها لهذه المهمة العظمى . مهمة الاتصال والتلقي من الملأ الأعلى . وهي منة على البشرية بتذكير الفطرة التي ران عليها الركام لتخرج من الظلمات إلى النور ؛ ولتتحرك فيها أجهزة الاستقبال والتلقي فتخرج من الموت الراكد إلى الحياة المتفتحة . . ثم هي المنة الكبرى على البشرية بإخراج الناس من الدينونة للعباد إلى الدينونة لله وحده بلا شريك ؛ واستنقاذ كرامتهم وطاقتهم من الذل والتبدد في الدينونة للعبيد . . الذل الذي يحني هامة إنسان لعبد مثله ! والتبدد الذي يسخر طاقة إنسان لتأليه عبد مثله !
فأما حكاية الإتيان بسلطان مبين ، وقوة خارقة ، فالرسل يبينون لقومهم أنها من شأن الله . ليفرقوا في مداركهم المبهمة المظلمة بين ذات الله الإلهية ، وذواتهم هم البشرية ، وليمحصوا صورة التوحيد المطلق الذي لا يلتبس بمشابهة في ذات ولا صفة ، وهي المتاهة التي تاهت فيها الوثنيات كما تاهت فيها التصورات الكنسية في المسيحية عندما تلبست بالوثنيات الإغريقية والرومانية والمصرية والهندية . وكانت نقطة البدء في المتاهة هي نسبة الخوارق إلى عيسى - عليه السلام - بذاته واللبس بين ألوهية الله وعبودية عيسى عليه السلام !
( وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله ) . .
( وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) . .
يطلقها الرسل حقيقة دائمة . فعلى الله وحده يتوكل المؤمن ، لا يتلفت قلبه إلى سواه ، ولا يرجو عونا إلا منه ، ولا يرتكن إلا إلى حماه .
قول الرسل { إن نحن إلا بشر مثلكم } جواب بطريق القول بالموجَب في علم آداب البحث ، وهو تسليم الدليل مع بقاء النزاع ببيان محل الاستدلال غيرُ تام الإنتاج ، وفيه إطماع في الموافقة . ثم كرّ على استدلالهم المقصود بالإبطال بتبيين خطئهم .
ونظيره قوله تعالى : { يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون } [ سورة المنافقون : 8 ] .
وهذا النوع من القوادح في علم الجدل شديد الوقع على المناظر ، فليس قول الرسل { إن نحن إلا بشر مثلكم } تقريراً للدليل ولكنه تمهيد لبيان غلط المستدل في الاستنتاج من دليله . ومحل البيان هوالاستدراك في قوله : { ولكن الله يَمنّ على من يشاء من عباده } [ سورة إبراهيم : 11 ] . والمعنى : أن المماثلة في البشرية لا تقتضي المماثلة في زائد عليها فالبشر كلهم عباد الله والله يمُنّ على من يشاء من عباده بنِعَم لم يعطها غيرهم .
فالاستدراك رفع لما توهموه من كون المماثلة في البشرية مقتضى الاستواء في كل خصلة .
وأورد الشيخ محمّد بن عرفة في « التفسير » وجهاً للتفرقة بين هذه الآية إذ زيد فيها كلمة { لهم } في قوله : { قالت لهم رسلهم } [ سورة إبراهيم : 10 ] وبين الآية التي قبلها إذ قال فيها قالت رسلهم } بوجهين :
أحدهما : أن هذه المقالة خاصة بالمكذّبين من قومهم يقولونها لغيرهم إذ هو جواب عن كلام صدر منهم والمقالة الأولى يقولونها لهم ولغيرهم ، أي للمصدقين والمكذبين .
وثانيهما : أن وجود الله أمر نظري ، فكان كلام الرسل في شأنه خطاباً لعموم قومهم ، وأما بعْثة الرسل فهي أمر ضروري ظاهر لا يحتاج إلى نظر ، فكأنه قال : ما قَالوا هذا إلا للمكذبين لغباوتهم وجهلهم لا لغيرهم .
وأجاب الأبي أن { أفي الله شك } خطاب لمن عاند في أمر ضروري ، فكأنّ المجيب عن ذلك يجيب به من حيث الجملة ولا يُقبل بالجواب على المخاطب لمعاندته فيجيب وهو مُعْرض عنه بخلاف قولهم : { إن نحن إلا بشر مثلكم } فإنه تقرير لمقالتهم فهم يُقبلون عليهم بالجواب لأنهم لم يبطلوا كلامهم بالإطلاق بل يقررونه ويزيدون فيه اهـ .
والحاصل أن زيادة { لهم } تؤذن بالدلالة على توجه الرسل إلى قومهم بالجواب لما في الجواب عن كلامهم من الدقة المحتاجة إلى الاهتمام بالجواب بالإقبال عليهم إذ اللامُ الداخلة بعد فعل القول في نحو : أقول لك ، لام تعليل ، أي أقول قولي لأجلك .
ثم عطفوا على ذلك تبيين أن ما سأله القوم من الإتيان بسلطان مبين ليس ذلك إليهم ولكنه بمشيئة الله وليس الله بمكرَه على إجابة من يتحداه .
وجملة { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } أمر لمَن آمن من قومهم بالتوكل على الله ، وقصدوا به أنفسهم قصداً أوليّاً لأنهم أول المؤمنين بقرينة قولهم : { وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا } إلى آخره .
ولما كان حصول إذن الله تعالى بتأييد الرسل بالحجة المسؤولة غيرَ معلوم الميقات ولا متعيّنَ الوقوع وكانت مدة ترقب ذلك مظنة لتكذيب الذين كفروا رسلَهم تكذيباً قاطعاً وتَوَقَعَ الرسلُ أذاه قومهم إياهم شأن القاطع بكذب من زَعم أنه مرسل من الله ، ولأنهم قد بدأوهم بالأذى كما دل عليه قولهم : { وَلنصبرنّ على ما آذيتمونا } . أظهر الرسل لقومهم أنهم غير غافلين عن ذلك وأنهم يتلقون ما عسى أن يواجهَهُم به المكذّبون من أذى بتوكّلهم على الله هم ومن آمن معهم ؛ فابتدأوا بأن أمروا المؤمنين بالتوكل تذكيراً لهم لئلا يتعرّض إيمانهم إلى زعزعة الشك حرصاً على ثبات المؤمنين ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه : « أفي شك أنت يابنَ الخطّاب » . وفي ذلك الأمر إيذان بأنهم لا يعبأون بما يضمره لهم الكافرون من الأذى ، كقول السحرة لفرعون حين آمنوا { لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون } [ سورة الشعراء : 50 ] .
وتقديم المجرور في قوله : وعلى الله فليتوكل المؤمنون } مؤذن بالحصر وأنهم لا يرجون نصراً من غير الله تعالى لضعفهم وقلة ناصرهم . وفيه إيماء إلى أنهم واثقون بنصر الله .
والجملة معطوفة بالواو عطف الإنشاء على الخبر .
والفاء في قوله : { فليتوكل المؤمنون } رابطة لجملة ( ليتوكل المؤمنون ) بما أفادهُ تقديم المجرور من معنى الشرط الذي يدل عليه المقام . والتقدير : إن عجبتم من قلة اكتراثنا بتكذيبكم أيها الكافرون ، وإن خشيتم هؤلاء المُكذّبين أيها المؤمنون فليتوكل المؤمنون على الله فإنهم لن يضيرهم عدوّهم . وهذا كقوله تعالى : { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } كما تقدم في سورة العقود ( 23 ) .
والتوكّل : الاعتماد وتفويض التدبير إلى الغير ثقة بأنه أعلم بما يصلح ، فالتوكل على الله تحقق أنه أعلم بما ينفع أولياءَه من خير الدنيا والآخرة . وقد تقدم الكلام على التوكّل عند قوله تعالى : { فإذا عزمت فتوكل على الله } في سورة آل عمران ( 59 ) .