قوله تعالى : { أولئك الذين آتيناهم الكتاب } ، أي : الكتب المنزلة عليهم .
قوله تعالى : { والحكم } ، يعني : العلم والفقه .
قوله تعالى : { والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء } ، يعني : أهل مكة .
قوله تعالى : { فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين } ، يعني : الأنصار ، وأهل المدينة ، قاله ابن عباس ومجاهد ، وقال قتادة : فإن يكفر بها هؤلاء الكفار فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين ، يعني : الأنبياء الثمانية عشر الذين ذكرهم هاهنا ، وقال أبو رجاء العطاري : معناه فإن يكفر بها أهل الأرض فقد وكلنا بها أهل السماء ، وهم الملائكة ، قوما ليسوا بها بكافرين .
( أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة . فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين ) . .
وهذا هو التقرير الثاني . . فقرر في الأول مصدر الهدى ، وقصره على هدى الله الذي جاءت به الرسل . وقرر في الثاني أن الرسل الذين ذكرهم والذين أشار إليهم ، هم الذين آتاهم الله الكتاب والحكمة والسلطان والنبوة -( والحكم ) يجيء بمعنى الحكمة كما يجيء بمعنى السلطان كذلك - وكلا المعنيين محتمل في الآية . فهؤلاء الرسل أنزل الله على بعضهم الكتاب كالتوراة مع موسى ، والزبور مع داود ، والإنجيل مع عيسى . وبعضهم آتاه الله الحكم كداود وسليمان - وكلهم أوتي السلطان على معنى أن ما معه من الدين هو حكم الله ، وأن الدين الذي جاءوا به يحمل سلطان الله على النفوس وعلى الأمور . فما أرسل الله الرسل إلا ليطاعوا ، وما أنزل الكتاب إلا ليحكم بين الناس بالقسط ، كما جاء في الآيات الأخرى . وكلهم أوتي الحكمة وأوتي النبوة . . وأولئك هم الذين وكلهم الله بدينه ، يحملونه إلى الناس ، ويقومون عليه ، ويؤمنون به ويحفظونه . . فإذا كفر بالكتاب والحكم والنبوة مشركو العرب : ( هؤلاء )فإن دين الله غني عنهم ؛ وهؤلاء الرهط الكرام والمؤمنون بهم هم حسب هذا الدين ! . . إنها حقيقة قديمة امتدت شجرتها ، وموكب موصول تماسكت حلقاته ؛ ودعوة واحدة حملها رسول بعد رسول ؛ وآمن بها ويؤمن من يقسم الله له الهداية ؛ بما يعلمه من استحقاقه للهداية ! . . وهو تقرير يسكب الطمأنينة في قلب المؤمن ، وفي قلوب العصبة المسلمة - أيا كان عددها - إن هذه العصبة ليست وحدها . ليست مقطوعة من شجرة ! إنها فرع منبثق من شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، وحلقة في موكب جليل موصول ، موصولة أسبابه بالله وهداه . . إن المؤمن الفرد ، في أي أرض وفي أي جيل ، قوي قوي ، وكبير كبير ، إنه من تلك الشجرة المتينة السامقة الضاربة الجذور في أعماق الفطرة البشرية وفي أعماق التاريخ الأنساني ، وعضو من ذلك الموكب الكريم الموصول بالله وهداه منذ أقدم العصور .
و { أولئك } إشارة إلى من تقدم ذكره و { الكتاب } يراد به المصحف والتوراة والإنجيل والزبور ، و { الحكم } يراد به اللب والفطنة والفقه في دين الله ، و { هؤلاء } إشارة إلى كفار قريش المعادين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى كل كفار في ذلك العصر ، قاله قتادة وابن عباس والسدي وغيرهم ، و { قوماً } يراد به مؤمنوا أهل المدينة ، قاله ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي وغيرهم ، فالآية على هذا التأويل وإن كان القصد في نزولها هذين الصنفين فهي تعم الكفرة والمؤمنين إلى يوم القيامة ، وقال قتادة أيضاً والحسن بن أبي الحسن المراد ب «القوم » من تقدم ذكره من الأنبياء والمؤمنين ، وقال أبو رجاء : المراد الملائكة ، والباء في { به } متعلقة بقوله : { بكافرين } والباء في قوله { بكافرين } زائدة للتأكيد .
استئناف ابتدائي للتّنويه بهم ، فهي فذلكة ثانية ، لأنّ الفذلكة الأولى راجعة إلى ما في الجمل السابقة من الهدى وهذه راجعة إلى ما فيها من المهديّين .
واسم الإشارة لزيادة الاعتناء بتمييزهم وإخطار سيرتهم في الأذهان . والمشار إليهم هم المعيَّنون بأسمائهم والمذكورون إجمالاً في قوله : { ومن آبائهم وذرّيّاتهم وإخوانهم } [ الأنعام : 87 ] . و { الّذين آتيناهم الكتاب } خبر عن اسم الإشارة .
والمراد بالكتاب الجنس : أي الكتب . وإيتاء الكتاب يكون بإنزال ما يكتب ، كما أنزل على الرسل وبعضضِ الأنبياء ، وما أنزل عليهم يعتبر كتاباً ، لأنّ شأنه أن يكتب سواء كتب أم لم يكتب . وقد نصّ القرآن على أنّ إبراهيم كانت له صُحُف بقوله : { صحف إبراهيم وموسى } [ الأعلى : 19 ] وكان لعيسى كلامه الذي كتب في الإنجيل . ولداوود الكلام الصادر منه تبليغاً عن الله تعالى ، وكان نبيئاً ولم يكن رسولاً ، ولسليمان الأمثال ، والجامعة ، والنشيد المنسوب في ثلاثتها أحكامٌ أمر الله بها . ويقال : إنّ إدريس كتب الحكمة في صحف وهو الّذي يُسمّيه الإسرائليون ( أخنوخ ) ويدعوه القبط ( توت ) ويدعوه الحكماء ( هُرْمس ) . ويكون إيتاء الكتاب بإيتاء الّنبيء فهْم ونبيِينَ الكتب المنزّلة قبله ، كما أوتي أنبياء بني إسرائيل من بعد موسى أمثال يحيى فقد قال تعالى له { يا يحيى خذ الكتاب بقوّة } [ مريم : 12 ] .
والحُكم هو الحكمة ، أي العلم بطرق الخير ودفع الشرّ . قال تعالى في شأن يحيى { وآتيناه الحكم صبياً } [ مريم : 12 ] ، ولم يكن يحيى حاكماً أي قاضياً ، وقد يفسّر الحكم بالقضاء بالحقّ كما في قوله تعالى في شأن داوود وسليمان { وكلاً آتينا حُكماً وعلماً } [ الأنبياء : 79 ] .
وإيتاء هذه الثلاث على التّوزيع ، فمنهم من أوتي جميعها وهم الرسل منهم والأنبياء الّذين حكموا بين النّاس مثل داوود وسليمان ، ومنهم من أوتي بعضَها وهم الأنبياء غير الرّسل والصّالحون منهم غير الأنبياء ، وهذا باعتبار شمول اسم الإشارة لآبائهم وذرّيّاتهم وإخوانهم .
والفاء في قوله : { فإن يكفر } عاطفة جملة الشّرط على جملة { أولئك الّذين آتيناهم الكتاب } عقّبت بجملة الشّرط وفرّعت عليها لأنّ الغرض من الجمل السابقة من قوله { وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر } [ الأنعام : 74 ] هو تشويه أمر الشرك بالاستدلال على فساده بنبذ أهل الفضل والخير إيّاه ، فكان للفاء العاطفة عقب ذلك موقع بديع من أحكام نظم الكلام .
وضمير { بها } عائد إلى المذكورات : الكتاب والحكم والنّبوءة . والإشارة في قوله : { هؤلاء } إلى المشركين من أهل مكّة ، وهي إشارة إلى حاضر في أذهان السّامعين ، كما ورد في حديث سؤال القبر " فيقال له ما علمك بهذا الرجل " ( يعني النّبيء صلى الله عليه وسلم . وفي « البخاري » قال الأحنف بن قيس : ذهبتُ لأنصر هذا الرجل ( يعني عليّ بن أبي طالب ) .
وقد تقصيت مواقع آي القرآن فوجدته يعبّر عن مشركي قريش كثيراً بكلمة ( هؤلاء ) ، كقوله : { بل متّعت هؤلاء وآباءهم } [ الزخرف : 29 ] ولم أر من نبّه عليه من قبل .
وكُفر المشركين بنبوءة أولئك الأنبياء تابع لكفرهم بمحمّد صلى الله عليه وسلم ولذلك حكى الله عنهم بعْدُ أنّهم { قالوا ما أنزل الله على بشر مِن شيء } [ الأنعام : 91 ] .
ومعنى : { وكَّلْنا بها } وفّقْنا للإيمان بها ومراعاتها والقياممِ بحقّها . فالتّوكيل هنا استعارة ، لأنّ حقيقة التّوكيل إسناد صاحب الشيء تدبيرَ شيئه إلى من يتولّى تدبيره ويكفيه كلفةَ حفظه ورعاية ما به بقاؤُه وصلاحُه ونماؤُه . يقال : وكَّلته على الشيء ووكَّلته بالشيء فيتعدّى بعلى وبالباء . وقد استعير في هذه الآية للتّوفيق إلى الإيمان بالنّبوءة والكتاب والحكم والنّظر في ما تدعو إليه ورعايته تشبيهاً لتلك الرّعاية برعاية الوكيل ، وتشبيهاً للتّوفيق إليها بإسناد النّظر إلى الوكيل ، لأنّ الوكالة تقتضي وُجود الشيء الموكّل بيد الوكيل مع حفظه ورعايته ، فكانت استعارةُ { وكَّلنا } لهذا المعنى إيجازاً بديعاً يقابل ما يتضمّنه معنى الكفر بها من إنكارها الّذي فيه إضاعة حدودها .
والقوم هم المؤمنون الّذين آمنوا برسالة محمّد صلى الله عليه وسلم والقرآن وبمَن قبله من الرّسل وما جاءهم من الكتب والحكم والنّبوءة . والمقصود الأوّل منهم المؤمنون الّذين كانوا بمكّة ومن آمن من الأنصار بالمدينة إذ كانت هذه السّورة قد نزلت قُبيل الهجرة . وقد فسّر في « الكشاف » القوم بالأنبياء المتقدّم ذكرُهم وادّعى أنّ نظم الآية حمله عليه ، وهو تكلّف لا حامل إليه .
ووصفُ القوم بأنّهم { ليسوا بها بكافرين } للدّلالة على أنّهم سارعوا إلى الإيمان بها بمجرّد دعوتهم إلى ذلك فلذلك جيء في وصفهم بالجملة الإسميّة المؤلّفة من اسم ( ليس ) وخبرها لأنّ ليس بمنزلة حرف نفي إذ هي فعل غير متصرّف فجملتها تدلّ على دوام نفي الكفر عنهم ، وأدخلت الباء في خبر ( ليس ) لتأكيد ذلك النّفي فصار دوامَ نفي مؤكّداً .
والمعنى إنْ يكفر المشركون بنبوءتك ونبوءةِ مَن قبلك فلا يضرّك كفرهم لأنَّا قد وفّقنا قوماً مؤمنين للإيمان بك وبهم ، فهذا تسلية للرّسول صلى الله عليه وسلم على إعراض بعض قومه عن دعوته .
وتقديم المجرور على عامله في قوله { ليسوا بها بكافرين } لرعاية الفاصلة مع الاهتمام بمعاد الضمير : الكتاب والحكم والنّبوءة .