قوله عز وجل : { وقالوا لن نؤمن لك } لن نصدقك ، { حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً } ، قرأ أهل الكوفة و يعقوب ، تفجر بفتح التاء وضم الجيم مخففاً ، لأن الينبوع واحد ، وقرأ الباقون بالتشديد من التفجير ، واتفقوا على تشديد قوله : { فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً } ، لأن الأنهار جمع ، والتشديد يدل على التكثير ، ولقوله ( تفجيراً ) من بعد . وروي عكرمة عن ابن عباس : أن عتبة وشيبة ابني ربيعة ، وأبا سفيان بن حرب ، والنضر بن الحارث ، وأبا البختري بن هشام ، والأسود بن عبد المطلب ، وزمعة بن الأسود ، والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام ، وعبد الله بن أبي أمية ، وأمية بن خلف ، والعاص بن وائل ، ونبيهاً ومنبهاً ابني الحجاج ، اجتمعوا ومن اجتمع معهم بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة ، فقال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه ، فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك ، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعاً ، وهو يظن أنه بدا لهم في أمره بدء ، وكان عليهم حريصاً ، يحب رشدهم حتى جلس إليهم ، فقالوا : يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر فيك وإنا والله لا نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك ، لقد شتمت الآباء ، وعبت الدين ، وسفهت الأحلام ، وشتمت الآلهة ، وفرقت الجماعة فما بقي أمر قبيح إلا وقد جئته فيما بينك وبيننا ، فإن كنت جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جعلنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً ، وإن كنت تطلب الشرف سودناك علينا ، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا ، وإن كان هذا الأمر الذي بك رئي تراه قد غلب عليك ، لا تستطيع رده ، بذلنا لك أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه ، أو نعذر فيك ، وكانوا يسمون التابع من الجن : الرئي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بي ما تقولون ، ما جئتكم بما جئتكم به لطلب أموالكم ولا الشرف عليكم ، ولا الملك عليكم ، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً ، وأنزل علي كتاباً ، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً ، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ، فإن تقبلوا مني فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم . فقالوا : يا محمد إن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد أضيق منا بلاداً ولا أشد منا عيشاً ، فسل لنا ربك الذي بعثك فليسير عنا هذه الجبال ، فقد ضيقت علينا ، ويبسط لنا بلادنا ويفجر فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق ، وليبعث لنا من مضى من آبائنا ، وليكن منهم قصي بن كلاب ، فإنه كان شيخاً صدوقاً ، فنسألهم عما تقول : أحق هو أم باطل ؟ فإن صدقوك صدقناك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بهذا بعثت ، فقد بلغتكم ما أرسلت به ، فإن تقبلوه مني فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه أصبر لأمر الله . قالوا : فإن لم تفعل هذا فسل ربك أن يبعث لنا ملكاً يصدقك ، واسأله أن يجعل لك جناناً وقصوراً وكنوزاً من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك ، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه . فقال : ما بعثت بهذا ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً . قالوا : فأسقط السماء كما زعمت ، إن ربك لو شاء فعل . فقال : ذلك إلى الله إن شاء فعل ذلك بكم فعله . وقال قائل منهم : لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلاً . فلما قالوا ذلك ، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام معه عبد الله بن أبي أمية ، وهو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب ، فقال : يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا عليك فلم تقبله منهم ، ثم سألوك لأنفسهم أموراً يعرفون بها منزلتك من الله تعالى فلم تفعل ، ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب ، فلم تفعل ، فوالله لا أؤمن لك أبداً حتى تتخذ إلى السماء سلماً ترقى فيها وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي بنسخة منشورة معك ونفر من الملائكة يشهدون لك بما تقول ، وايم الله لو فعلت ذلك لظننت أن لا أصدقك ، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزيناً لما رأى من مباعدتهم ، فأنزل الله تعالى : { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض } يعني : أرض مكة ينبوعاً ، أي : عيوناً .
عطف جملة { وقالوا } على جملة { فأبى أكثر الناس إلا كفورا } [ الإسراء : 89 ] ، أي كفروا بالقرآن وطالبوا بمعجزات أخرى .
وضمير الجمع عائد إلى أكثر الناس الذين أبوا إلا كفوراً ، باعتبار صدور هذا القول بينهم وهم راضون به ومتمالئون عليه متى علموه ، فلا يلزم أن يكون كل واحد منهم قال هذا القول كله بل يكون بعضهم قائلاً جميعه أو بعضهم قائلاً بعضه .
ولما اشتمل قولهم على ضمائر الخطاب تعين أن بعضهم خاطب به النبي مباشرة إما في مقام واحد وإما في مقامات . وقد ذكر ابن إسحاق : أن عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبا سفيان بن حرب ، والأسود بن المطلب ، وزمعة بن الأسود ، والوليد بن المغيرة ، وأبا جهل بن هشام ، وعبد الله بن أبي أمية ، وأمية بن خلف ، وناساً معهم اجتمعوا بعد غروب الشمس عند الكعبة وبعثوا إلى النبي أن يأتيهم . فأسرع إليهم حرصاً على هداهم ، فعاتبوه على تسفيه أحلامهم والطعن في دينهم . وعرضوا عليه ما يشاء من مال أو تسويد . وأجابهم بأنه رسول من الله إليهم لا يبتغي غير نصحهم ، فلما رأوا منه الثبات انتقلوا إلى طلب بعض ما حكاه الله عنهم في هذه الآية .
وروي أن الذي سأل ما حكي بقوله تعالى : { أو ترقى في السماء } إلى آخره ، هو عبد الله بن أبي أمية المخزومي .
وحكى الله امتناعهم عن الإيمان بحرف ( لن ) لمفيد للتأييد لأنهم كذلك قالوه .
والمراد بالأرض : أرض مكة ، فالتعريف للعهد . ووجه تخصيصها أن أرضها قليلة المياه بعيدة عن الجنات .
والتفجير : مصدر فجر بالتشديد مبالغة في الفَجْر ، وهو الشق باتساع . ومنه سمي فجر الصباح فجراً لأن الضوء يشق الظلمة شقاً طويلاً عريضاً ، فالتفجير أشد من مطلق الفجر وهو تشقيق شديد باعتبار اتساعه . ولذلك ناسب الينبوع هنا والنهر في قوله تعالى : { وفجرنا خلالها نهراً } [ الكهف : 33 ] وقوله : { فتفجر الأنهار } .
وقرأه الجمهور بضم التاء وتشديد الجيم على أنه مضارع ( فجر ) المضاعف . وقرأه عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف بفتح التاء وسكون الفاء وضم الجيم مخففة على أنه مضارع فجر كنصَر ، فلا التفات فيها للمبالغة لأن الينبوع يدل على المقصود أو يعبر عن مختلف أقوالهم الدالة على التصميم في الامتناع .
ومعنى { لن نؤمن لك } لن نصدقك أنك رسول الله إلينا .
والإيمان : التصديق . يقال : آمنه ، أي صدقه . وكثر أن يعدى إلى المفعول باللام ، قال تعالى : { وما أنت بمؤمن لنا } [ يوسف : 17 ] وقال { فآمن له لوط } [ العنكبوت : 26 ] . وهذه اللام من قبيل ما سماه في « مغني اللبيب » لام التنبيين . وغفل عن التمثيل لها بهذه الآية ونحوها ، فإن مجرور اللام بعد فعل { نؤمن } مفعول لا التباس له بالفاعل وإنما تذكر اللام لزيادة البيان والتوكيد .
وقد يقال : إنها لدفع التباس مفعول فعل « آمن » بمعنى صدق بمفعول فعل ( آمن ) إذا جعله أميناً . وتقدم قوله تعالى ؛ { فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه } في سورة [ يونس : 83 ] .
والينبوع : اسم للعين الكثيرة النبع التي لا ينضب ماؤها . وصيغة يفعول صيغة مبالغة غير قياسية ، والينبوع مشتقة من مادة النبع ؛ غير أن الأسماء الواردة على هذه الصيغة مختلفة ، فبعضها ظاهر اشتقاقه كالينبوع والينبوت ، وبعضها خفي كاليعبوب للفرس الكثير الجري . وقيل : اشتق من العَب المجازي . ومنه أسماء معربة جاء تعريبها على وزن يفعول مثل ؛ يَكْسوم اسم قائد حبشي ، ويرموك اسم نهر . وقد استقرى الحسن الصاغاني ما جاء من الكلمات في العربية على وزن يفعول في مختصر له مرتب على حروف المعجم . وقال السيوطي في « المزهر » : إن ابن دريد عقد له في « الجمهرة » باباً .