قوله تعالى : { يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم } ، أي : يأتكم . قيل : أراد جميع الرسل . وقال مقاتل : أراد بقوله : { يا بني آدم } مشركي العرب ، وبالرسل محمداً صلى الله عليه وسلم وحده .
قوله تعالى : { يقصون عليكم آياتي } ، قال ابن عباس : فرائضي وأحكامي .
قوله تعالى : { فمن اتقى وأصلح } ، أي : اتقى الشرك ، وأصلح عمله ، وقيل : أخلص ما بينه وبين ربه .
الآن بعد تلك الوقفة الطويلة للتعقيب على قصة النشأة الأولى ؛ ومواجهة واقع الجاهلية العربية - وواقع الجاهلية البشرية كلها من ورائها - في شأن ستر الجسم باللباس وستر الروح بالتقوى ؛ وعلاقة القضية كلها بقضية العقيدة الكبرى . .
الآن يبدأ نداء جديد لبني آدم . . نداء بشأن القضية الكلية التي ربطت بها قضية اللباس في الوقفة السابقة . . قضية التلقي والاتباع في شعائر الدين وفي شرائعه ، وفي أمر الحياة كلها وأوضاعها . وذلك لتحديد الجهة التي يتلقون منها . . إنها جهة الرسل المبلغين عن ربهم . وعلى أساس الاستجابة أو عدم الاستجابة للرسل يكون الحساب والجزاء ، في نهاية الرحلة التي يعرضها السياق في هذه الجولة :
( يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي ، فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) .
هذا هو عهد الله لآدم وبنيه ، وهذا هو شرطه في الخلافة عنه - سبحانه - في أرضه التي خلقها وقدر فيها أقواتها ، واستخلف فيها هذا الجنس ، ومكنه فيها ، ليؤدي دوره وفق هذا الشرط وذلك العهد ؛ وإلا فإن عمله رد في الدنيا لا يقبله ولا يمضيه مسلم لله ؛ وهو في الآخرة وزر جزاؤه جهنم لا يقبل الله من أصحابه صرفاً ولا عدلاً .
( فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) .
لأن التقوى تنأى بهم عن الآثام والفواحش - وأفحش الفواحش الشرك بالله واغتصاب سلطانه وادعاء خصائص ألوهيته - وتقودهم إلى الطيبات والطاعات ؛ وتنتهي بهم إلى الأمن من الخوف والرضى عن المصير .
وقوله تعالى : { يا بني آدم } الآية ، الخطاب في هذه الآية لجميع العالم . و «إن » الشرطية دخلت عليها «ما » مؤكدة . ولذلك جاز دخول النون الثقيلة على الفعل ، وإذا لم تكن «ما » لم يجز دخول النون الثقيلة . وقرأ أبي كعب والأعرج «تأتينكم » على لفظ الرسل . «وجاء يقصون » على المعنى .
وكأنه هذا الخطاب لجميع الأمم قديمها وحديثها هو متمكن لهم ومتحصل منه لحاضري محمد عليه السلام أن هذا حكم الله في العالم منذ أنشأه . و { يأتينكم } مستقبل وضع موضع ماض ليفهم أن الإتيان باق وقت الخطاب لتقوى الإشارة بصحة النبوة إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا على مراعاة وقت نزول الآية ، وأسند الطبري إلى أبي سيار السلمي قال إن الله تعالى جعل آدم وذريته في كفه فقال { يا بني آدم أما يأتينكم رسل منكم } الآية ، قال ثم نظر إلى الرسل فقال { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون } ثم بثهم .
قال القاضي أبو محمد : ولا محالة أن هذه المخاطبة في الأزل وقيل المراد بالرسل محمد عليه السلام .
قال القاضي أبو محمد : من حيث لا نبي بعده ، فكأن المخاطبين هم المراد ببني آدم لا غير ، إذ غيرهم لم ينله الخطاب ، ذكره النقاش . و { يقصون } معناه يسردون ويوردون . و «الآيات » لفظ جامع لآيات الكتب المنزلة وللعلامات التي تقترن بالأنبياء ، وقوله : { فمن اتقى وأصلح } يصح أن تكون «من » شرطية وجوابه { فلا خوف عليهم } وهذه الجملة هي في جواب الشرط الأول الذي هو { إما يأتينكم } ويصح أن تكون «من » في قوله { فمن اتقى } موصولة ، وكأنه قصد بالكلام تقسيم الناس فجعل القسم الأول { فمن اتقى } والقسم الثاني { والذين كذبوا بآياتنا } . وجاء هذا التقسيم بجملته جواباً للشرط في قوله { إما يأتينكم } فكأنه قال إن أتتكم رسل فالمتقون لا خوف عليهم ، والمكذبون أصحاب النار ، أي هذا هو الثمرة وفائدة الرسالة : { فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً } [ الأنعام : 144 ، الأعراف : 37 ، يونس : 17 ، الكهف : 15 ] أي ليس ثم نفع للمفتري ولا غرض دنياوي . فالآية تبرية للنبي صلى الله عليه وسلم ، من الافتراء وتوبيخ للمفترين من الكفار . و { لا } في قوله { لا خوف } بمعنى ليس ، وقرأ ابن محيصن «لا خوف » دون تنوين ، ووجهه إما أن يحذف التنوين لكثرة الاستعمال وإما حملاً على حذفه مع «لا » وهي تبرية ناصبة تشبه حالة الرفع في البناء بحالة النصب ، وقيل : إن المراد فلا الخوف ، ثم حذفت الألف واللام وبقيت الفاء على حالها لتدل على المحذوف ، ونفي الخوف والحزن يعم جميع أنواع مكاره النفس وأنكادها ، ويشبه أن يكون الخوف لما يستقبل من الأمور والحزن لما مضى منها .
يجيء في موقع هذه الجملة : من التّأويل ، ما تقدّم في القوللِ في نظيرتها وهي قوله تعالى : { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم } [ الأعراف : 26 ] .
والتّأويل الذي استظهرنا به هنالك يبدو في هذه النظيرة الرّابعة أوضحَ . وصيغة الجمع في قوله : { رسل } وقوله { يقصون } تقتضي توقّع مجيءِ عدّةِ رسل ، وذلك منتف بعد بعثة الرّسول الخاتم للرّسل الحاشر العاقب عليه الصّلاة والسّلام ، فذلك يتأكّد أن يكون هذا الخطاب لبني آدم الحاضرين وقت نزول القرآن ، ويرجح أن تكون هذه النّداآت الأربعة حكاية لقوللٍ موجّه إلى بني آدم الأوّلين الذي أوّلُه : { قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون } [ الأعراف : 25 ] .
قال ابن عطيّة : « وكأنّ هذا خطاب لجميع الأمم ، قديمها وحديثها ، هو متمكّن لهم ، ومتحصّل منه لحاضري محمّد صلى الله عليه وسلم أنّ هذا حكم الله في العالم منذ أنشأه » يريد أنّ الله أبلغ النّاس هذا الخطابَ على لسان كلّ نبيء ، من آدم إلى هلم جرّا ، فما من نبيء أو رسول إلاّ وبلَّغه أمَّته ، وأمَرَهم بأن يبلغ الشّاهد منهم الغائبَ ، حتّى نزل في القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم فعلمت أمّته أنّها مشمولة في عموم بني آدم .
وإذا كان ذلك متعيّناً في هذه الآية أو كالمتعيّن تعيّن اعتبار مثله في نظائرها الثّلاث الماضية ، فشد به يدك . ولا تعبأْ بمن حَرَدك .
فأمَا إذا جعل الخطاب في هذه الآية موجّهاً إلى المشركين في زمن النّزول ، بعنوان كونهم من بني آدم ، فهنالك يتعيّن صرف معنى الشّرط إلى ما يأتي من الزّمان بعد نزول الآية لأنّ الشّرط يقتضي الاستقبال غالباً . كأنّه قيل إنْ فاتكم اتّباع ما أنزل إليكم فيما مضى لا يَفْتُكم فيما بقي ، ويتعيّن تأويل يأتينّكم بمعنى يَدْعُونَّكم ، ويتعيَّن جعل جمع الرّسل على إرادة رسول واحد ، تعظيماً له ، كما في قوله تعالى : { وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم } [ الفرقان : 37 ] أي كذّبوا رسوله نُوحا ، وقوله : { كذبت قوم نوح المرسلين } [ الشعراء : 105 ] وله نظائر كثيرة في القرآن .
وهذه الآية ، والتي بعدها متّصلتا المعنى بمضمون قوله تعالى في أوّل السّورة : { وكم من قرية أهلكناها } [ الأعراف : 4 ] الآية اتّصال التّفصيل بإجماله .
أكد به تحذيرهم من كيد الشّيطان وفتونه ، وأراهم به مناهج الرّشد التي تُعين على تجنّب كيده ، بدعوة الرّسل إياهم إلى التّقوى والإصلاح ، كما أشار إليه بقوله ، في الخطاب السّابق : { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة } [ الأعراف : 27 ] وأنبأهم بأنّ الشّيطان توعَّد نوع الإنسان فيما حكى الله في قوله : { قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم } [ الأعراف : 16 ] الآية فلذلك حذرّ الله بني آدم من كيد الشّيطان ، وأشعرهم بقوّة الشّيطان بقوله : { إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم }
[ الأعراف : 27 ] عسى أن يتّخذوا العُدّة للنّجاة من مخالب فتنته ، وأردف ذلك بالتّحذير من حزبه ودعاته الذين يفتنون المؤمنين ، ثمّ عزّز ذلك بإعلامه إياهم أنّه أعانهم على الاحتراز من الشّيطان ، بأن يبعث إليهم قوماً من حزب الله يبلّغونهم عن الله ما فيه منجاة لهم من كيد الشّياطين ، بقوله : { يا بني آدم إما يأتيكم رسل منكم } الآية فأوصاهم بتصديقهم والامتثال لهم .
و { إمَّا } مركّبة من ( إن ) الشّرطيّة و ( ما ) الزائدة المؤكّدة لمعنى الشّرطية ، واصطلح أيمّة رسم الخطّ على كتابتها في صورة كلمة واحدَة ، رعْياً لحالة النّطق بها بإدغام النّون في الميم ، والأظهر أنّها تفيد مع التّأكيد عموم الشّرط مثل أخواتها ( مهما ) و ( أينما ) ، فإذا اقترنت بإن الشّرطية اقترنت نون التّوكيد بفعل الشّرط كقوله تعالى : { فإما ترين من البشر أحداً فقولي } سورة مريم ( 26 ) لأنّ التّوكيد الشّرطي يشبه القسم ، وهذا الاقتران بالنّون غالب ، ولأنّها لما وقعت توكيداً للشّرط تنزّلت من أداة الشّرط منزلة جزء الكلمة .
وقوله : { منكم } أي من بني آدم ، وهذا تنبيه لبَني آدم بأنّهم لا يترقّبون أن تجيئهم رسل الله من الملائكة لأنّ المرسَل يكون من جنس من أرسل إليهم ، وفي هذا تعريض بالجهلة من الأمم الذين أنكروا رسالة الرّسل لأنّهم من جنسهم ، مثل قوم نوح ، إذ قالوا : { ما نراك إلا بشراً مثلنا } [ هود : 27 ] ومثل المشركين من أهل مكّة إذ كذّبوا رسالة محمّد صلى الله عليه وسلم بأنّه بَشر قال تعالى : { وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أَبَعثَ الله بشراً رسولاً قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً } [ الإسراء : 94 ، 95 ] .
ومعنى { يقصون عليكم آياتي } يتلونها ويحكونها ويجوز أن يكون بمعنى يُتبعون الآية بأخرى ويجوز أن يكون بمعنى يظهرون وكلّها معان مجازيّة للقص لأنّ حقيقة القص هي أنّ أصل القصص إتْباع الحديث من اقتصاص أثر الأرجل واتّباعه لتعرف جهة الماشي ، فعلى المعنى الأوّل فهو كقوله في الآية الأخرى : { ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم } [ الزمر : 71 ] وأيّاً مّا كان فهو محتمل للحمل على جميعها من استعمال اللّفظ في مجازيْه .
الآية أصلها العلامة الدّالة على شيء ، من قول أو فعل ، وآيات الله الدّلائل التي جعلها دالة على وجوده ، أو على صفاته ، أو على صدق رسله ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا } في سورة البقرة ( 39 ) ، وقوله تعالى : { وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه } في سورة الأنعام ( 37 ) ، ومنه آيات القرآن التي جعلها الله دلالة على مراده للنّاس ، للتّعريض بالمشركين من العرب ، الذين أنكروا رسالة محمّد . ووجه دلالة الآيات على ذلك إمّا لأنّها جاءت على نظم يَعجز البشر عن تأليف مثله ، وذلك من خصائص القرآن ، وإمّا لأنّها تشتمل على أحكام ومعان لا قِبَل لغير الله ورسوله بإدراك مثلها ، أو لأنّها تدعو إلى صلاح لم يعهَدْه النّاس .
فيَدل ما اشتملت عليه على أنّه ممّا أراده الله للنّاس ، مثل بقيّة الكتب التي جاءت بها الرّسل ، وإمّا لأنّها قارنتها أمور خارقة للعادة تحدّى بها الرّسولُ المرسلُ بتلك الأقوال أمَّتَه ، فهذا معنى تسميتها آيات ، ومعنَى إضافتها إلى الله تعالى ، ويجوز أن يكون المراد بالآيات ما يشمل المعجزاتِ غيرَ القولية ، مثل نبع الماء من بين أصابع محمّد ومثل قلب العصا حيّة لموسى عليه السلام . وابراء الأكمه لعيسى عليه السّلام ، ومعنى التّكذيب بها العناد بإنكارها وجحدها .
وجملة : { فمن اتقى وأصلح } جواب الشّرط وبينها وبين جملة : { إما يأتينكم } محذوف تقديره : فاتقى منكم فريق وكذب فريق { فمن اتقى } إلخ ، وهذه الجملة شرطيّة أيضاً ، وجوابها { فلا خوف عليهم } ، أي فمن اتّبع رسلي فاتّقاني وأصلح نفسه وعمله فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، ولمّا كان إتيان الرّسل فائدته لإصلاح النّاس ، لا لنفع الرّسل ، عُدل عن جعل الجواب اتّباعّ الرّسل إلى جعله التّقوى والصّلاح . إيماء إلى حكمة إرسال الرّسل ، وتحريضا على اتّباعهم بأن فائدتُه للأمم لا للرّسل ، كما قال شعيب : { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت } [ هود : 88 ] ، أي لا خوف عليهم من عقوبة الله في الدّنيا والآخرة ولا هم يحزنون من شيء من ذلك ، فالخوف والحزن المنفيان هما ما يوجبه العقاب ، وقد ينتفي عنهم الخوف والحزن مطلقاً بمقدار قوّة التّقوى والصّلاح ، وهذا من الأسرار التي بين الله وعباده الصّالحين ، ومثلُه قوله تعالى : { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة } [ يونس : 62 64 ] .
وقد نُفي الخوف نفي الجنس بلا النّافية له ، وجيء باسمها مرفوعاً لأنّ الرّفع يساوي البناء على الفتح في مثل هذا ، لأنّ الخوف من الأجناس المعنوية التي لا يتوهّم في نفيها أن يكون المراد نفي الفرد الواحدِ ، ولو فتح مثله لصحّ ، ومنه قول الرابّعة من نساء حديث أمّ زرع : « زوجي كَلَيْلِ تِهامَه ، لا حَرّ ولا قَرّ ولا مخافة ولا سئامَه » فقد روي بالرّفع وبالفتح .
و ( على ) في قوله : { فلا خوف عليهم } للاستعلاء المجازي ، وهو المقارنة والملازمة ، أي لا خوف ينالهم .
وقوله : { ولا هم يحزنون } جملة عطفت على جملة : { فلا خوف عليهم } ، وعُدل عن عطف المفرد ، بأن يقال ولا حَزَنٌ ، إلى الجملة : ليتأتى بذلك بناء المسند الفعلي على ضميرهم ، فيدلّ على أنّ الحَزَن واقع بغيرهم ، وهم الذين كفروا . فإنّ بناء الخبر الفعلي على المسند إليه المتقدّم عليه يفيد تخصيص المسند إليه بذلك الخبر ، نحو : ما أنا قُلْتُ هذا ، فإنّه نفيُ صدور القول من المتكلّم مع كون القول واقعاً من غيره ، وعليه بيت « دلائل الإعجاز » ، ( وهو للمتنبّي ) :
وما أنا أسقمت جسمي به *** ولا أنا أضرَمْتُ في القلب ناراً
فيفيد أنّ الذين كفروا يَحزنون إفادة بطريق المفهوم ، ليكون كالمقدّمة للخبر عنهم بعد ذلك بأنّهم أصحاب النّار هم فيها خالدون .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره معرّفا خلقه ما أعدّ لحزبه وأهل طاعته والإيمان به وبرسوله، وما أعدّ لحزب الشيطان وأوليائه والكافرين به وبرسله:"يا بَنِي آدَمَ إمّا يَأتِينّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ" يقول: إن يجئكم رسلي الذين أرسلهم إليكم بدعائكم إلى طاعته والانتهاء إلى أمري ونهي "منكم"، يعني: من أنفسكم، ومن عشائركم وقبائلكم. "يَقُصّون عَلَيْكُمْ آياتِي "يقول: يتلون عليكم آيات كتابي، ويعرّفونكم أدلتي وأعلامي على صدق ما جاءوكم به من عندي، وحقيقة ما دعوكم إليه من توحيدي. "فَمَنْ اتّقَى وأصْلَحَ" يقول: فمن آمن منكم بما أتاه به رسلي مما قصّ عليه من آياتي وصدّق واتقى الله، فخافه بالعمل بما أمره به والانتهاء عما نهاه عنه، على لسان رسوله. "وأَصْلَحَ" يقول: وأصلح أعماله التي كان لها مفسدا قبل ذلك من معاصي الله بالتحوّب منها. "فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ" يقول: فلا خوف عليهم يوم القيامة من عقاب الله إذا وردوا عليه. "وَلاهُمْ لا يَحْزنُونَ" على ما فاتهم من دنياهم التي تركوها، وشهواتهم التي تجنبوها، اتباعا منهم لنهي الله عنها إذا عاينوا من كرامة الله ما عاينوا هنالك...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إما يأتينّكم رسل منكم}: سيأتيكم رسل منكم، أو سوف يأتيكم. {يقصّون عليكم آياتي} أي هداي. وتحتمل الآيات الحجج والبراهين التي يضطر أهلها إلى قبولها إلا من عاند وكابر. {فمن اتقى} اتّقى الشرك
{وأصلح} وآمن بالله وعمل صالحا، {فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.
{فمن اتّقى} يحتمل اتّقى ما نهى الرسل، أو اتّقى المهالك {وأصلح} في ما أمر به الرسل، أو أصلح أمره وعمله، {فلا خوف عليهم} في ذهاب ما أكرمهم به مولاهم ولا فوته، لأن خوف الفوت مما ينغّص النعم {ولا هم يحزنون} من تبعاته وآفاته، يخبر أن نعيم الآخرة على خلاف نعيم الدنيا.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{يا بني آدم...} الخطاب في هذه الآية لجميع العالم. و {يأتينكم} مستقبل وضع موضع ماض ليفهم أن الإتيان باق وقت الخطاب لتقوى الإشارة بصحة النبوة إلى محمد صلى الله عليه وسلم،
ولا محالة أن هذه المخاطبة في الأزل... و {يقصون} معناه يسردون ويوردون. و «الآيات» لفظ جامع لآيات الكتب المنزلة وللعلامات التي تقترن بالأنبياء.
قوله {فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}: ونفي الخوف والحزن يعم جميع أنواع مكاره النفس وأنكادها، ويشبه أن يكون الخوف لما يستقبل من الأمور والحزن لما مضى منها.
{يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم} لأن كون الرسول منهم أقطع لعذرهم وأبين للحجة عليهم من جهات: أحدها: أن معرفتهم بأحواله وبطهارته تكون متقدمة. وثانيها: أن معرفتهم بما يليق بقدرته تكون متقدمة فلا جرم لا يقع في المعجزات التي تظهر عليه شك وشبهة في أنها حصلت بقدرة الله تعالى لا بقدرته فلهذا السبب قال تعالى: {ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا} وثالثها: ما يحصل من الألفة وسكون القلب إلى أبناء الجنس، بخلاف ما لا يكون من الجنس، فإنه لا يحصل معه الألفة...
وأما قوله: {يقصون عليكم آياتي} فقيل تلك الآيات هي القرآن وقيل الدلائل، وقيل الأحكام والشرائع والأولى دخول الكل فيه، لأن جميع هذه الأشياء آيات الله تعالى لأن الرسل إذا جاؤوا فلا بد وأن يذكروا جميع هذه الأقسام،... ثم قسم تعالى حال الأمة فقال: {فمن اتقى وأصلح} وجمع هاتين الحالتين مما يوجب الثواب لأن الملتقي هو الذي يتقي كل ما نهى الله تعالى عنه، ودخل في قوله: {وأصلح} أنه أتى بكل ما أمر به...
ثم قال تعالى في صفته: {فلا خوف عليهم} أي بسبب الأحوال المستقبلة {ولا هم يحزنون} أي بسبب الأحوال الماضية لأن الإنسان إذا جوز وصول المضرة إليه في الزمان المستقبل خاف، وإذا تفكر فعلم أنه وصل إليه بعض ما لا ينبغي في الزمان الماضي، حصل الحزن في قلبه، لهذا السبب والأولى في نفي الحزن أن يكون المراد أن لا يحزن على ما فاته في الدنيا، لأن حزنه على عقاب الآخرة يجب أن يرتفع بما حصل له من زوال الخوف، فيكون كالمعاد وحمله على الفائدة الزائدة أولى فبين تعالى أن حاله في الآخرة تفارق حاله في الدنيا، فإنه في الآخرة لا يحصل في قلبه خوف ولا حزن البتة...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذا النداء هو الرابع لبني آدم كافة منذ بعث الله إليهم الرسل عليهم السلام، فهو يؤذن بأنه هو وما قبله حكاية لما خاطب الله به كل أمة على لسان رسولها، وبينه لهم من أصول دينه الذي شرعه لهدايتهم به إلى ما لا غنى لهم عنه في تكميل فطرتهم، وقد تخلل النداء الثاني والثالث بعض ما يناسب أمة خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم إذ لم يكن في آياتهما ما يدل على مشاركة غيرها لها في الخطاب، وأما هذا النداء فقد صرح فيه بذكر جملة الرسل، وذكره بعد بيان آجال الأمم، ولهذا فرع عليه بيان جزاء من اتبع الرسل ومن كذبهم من جميع الأقوام. فهذا وجه مناسبته لما قبله ظهر لنا والله أعلم...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من الشر الذي قد يخافه غيرهم، {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما مضى، وإذا انتفى الخوف والحزن حصل الأمن التام، والسعادة، والفلاح الأبدي.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
الآن يبدأ نداء جديد لبني آدم.. نداء بشأن القضية الكلية التي ربطت بها قضية اللباس في الوقفة السابقة.. قضية التلقي والاتباع في شعائر الدين وفي شرائعه، وفي أمر الحياة كلها وأوضاعها. وذلك لتحديد الجهة التي يتلقون منها.. إنها جهة الرسل المبلغين عن ربهم. وعلى أساس الاستجابة أو عدم الاستجابة للرسل يكون الحساب والجزاء، في نهاية الرحلة التي يعرضها السياق في هذه الجولة: (يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي، فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون). هذا هو عهد الله لآدم وبنيه، وهذا هو شرطه في الخلافة عنه -سبحانه- في أرضه التي خلقها وقدر فيها أقواتها، واستخلف فيها هذا الجنس، ومكنه فيها، ليؤدي دوره وفق هذا الشرط وذلك العهد؛ وإلا فإن عمله رد في الدنيا لا يقبله ولا يمضيه مسلم لله؛ وهو في الآخرة وزر جزاؤه جهنم لا يقبل الله من أصحابه صرفاً ولا عدلاً...
(فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون). لأن التقوى تنأى بهم عن الآثام والفواحش -وأفحش الفواحش الشرك بالله واغتصاب سلطانه وادعاء خصائص ألوهيته- وتقودهم إلى الطيبات والطاعات؛ وتنتهي بهم إلى الأمن من الخوف والرضى عن المصير...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
يجيء في موقع هذه الجملة: من التّأويل، ما تقدّم في القول في نظيرتها وهي قوله تعالى: {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم} [الأعراف: 26].
والتّأويل الذي استظهرنا به هنالك يبدو في هذه النظيرة الرّابعة أوضحَ. وصيغة الجمع في قوله: {رسل} وقوله {يقصون} تقتضي توقّع مجيءِ عدّةِ رسل، وذلك منتف بعد بعثة الرّسول الخاتم للرّسل الحاشر العاقب عليه الصّلاة والسّلام، فذلك يتأكّد أن يكون هذا الخطاب لبني آدم الحاضرين وقت نزول القرآن، ويرجح أن تكون هذه النّداءات الأربعة حكاية لقول موجّه إلى بني آدم الأوّلين الذي أوّلُه: {قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون} [الأعراف: 25].
فأمَّا إذا جعل الخطاب في هذه الآية موجّهاً إلى المشركين في زمن النّزول، بعنوان كونهم من بني آدم، فهنالك يتعيّن صرف معنى الشّرط إلى ما يأتي من الزّمان بعد نزول الآية لأنّ الشّرط يقتضي الاستقبال غالباً. كأنّه قيل إنْ فاتكم اتّباع ما أنزل إليكم فيما مضى لا يَفْتُكم فيما بقي، ويتعيّن تأويل يأتينّكم بمعنى يَدْعُونَّكم، ويتعيَّن جعل جمع الرّسل على إرادة رسول واحد، تعظيماً له، كما في قوله تعالى: {وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم} [الفرقان: 37] أي كذّبوا رسوله نُوحا، وقوله: {كذبت قوم نوح المرسلين} [الشعراء: 105] وله نظائر كثيرة في القرآن.
وهذه الآية، والتي بعدها متّصلتا المعنى بمضمون قوله تعالى في أوّل السّورة: {وكم من قرية أهلكناها} [الأعراف: 4] الآية اتّصال التّفصيل بإجماله.
أكد به تحذيرهم من كيد الشّيطان وفتونه، وأراهم به مناهج الرّشد التي تُعين على تجنّب كيده، بدعوة الرّسل إياهم إلى التّقوى والإصلاح، كما أشار إليه بقوله، في الخطاب السّابق: {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة} [الأعراف: 27] وأنبأهم بأنّ الشّيطان توعَّد نوع الإنسان فيما حكى الله في قوله: {قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم} [الأعراف: 16] الآية فلذلك حذرّ الله بني آدم من كيد الشّيطان، وأشعرهم بقوّة الشّيطان بقوله: {إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم}
[الأعراف: 27] عسى أن يتّخذوا العُدّة للنّجاة من مخالب فتنته، وأردف ذلك بالتّحذير من حزبه ودعاته الذين يفتنون المؤمنين، ثمّ عزّز ذلك بإعلامه إياهم أنّه أعانهم على الاحتراز من الشّيطان، بأن يبعث إليهم قوماً من حزب الله يبلّغونهم عن الله ما فيه منجاة لهم من كيد الشّياطين، بقوله: {يا بني آدم إما يأتيكم رسل منكم} الآية فأوصاهم بتصديقهم والامتثال لهم.
و {إمَّا} مركّبة من (إن) الشّرطيّة و (ما) الزائدة المؤكّدة لمعنى الشّرطية، واصطلح أيمّة رسم الخطّ على كتابتها في صورة كلمة واحدَة، رعْياً لحالة النّطق بها بإدغام النّون في الميم، والأظهر أنّها تفيد مع التّأكيد عموم الشّرط مثل أخواتها (مهما) و (أينما)، فإذا اقترنت بإن الشّرطية اقترنت نون التّوكيد بفعل الشّرط كقوله تعالى: {فإما ترين من البشر أحداً فقولي} سورة مريم (26) لأنّ التّوكيد الشّرطي يشبه القسم، وهذا الاقتران بالنّون غالب، ولأنّها لما وقعت توكيداً للشّرط تنزّلت من أداة الشّرط منزلة جزء الكلمة.
وقوله: {منكم} أي من بني آدم، وهذا تنبيه لبَني آدم بأنّهم لا يترقّبون أن تجيئهم رسل الله من الملائكة لأنّ المرسَل يكون من جنس من أرسل إليهم، وفي هذا تعريض بالجهلة من الأمم الذين أنكروا رسالة الرّسل لأنّهم من جنسهم، مثل قوم نوح، إذ قالوا: {ما نراك إلا بشراً مثلنا} [هود: 27] ومثل المشركين من أهل مكّة إذ كذّبوا رسالة محمّد صلى الله عليه وسلم بأنّه بَشر قال تعالى: {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أَبَعثَ الله بشراً رسولاً قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً} [الإسراء: 94، 95].
ومعنى {يقصون عليكم آياتي} يتلونها ويحكونها ويجوز أن يكون بمعنى يُتبعون الآية بأخرى ويجوز أن يكون بمعنى يظهرون وكلّها معان مجازيّة للقص لأنّ حقيقة القص هي أنّ أصل القصص إتْباع الحديث من اقتصاص أثر الأرجل واتّباعه لتعرف جهة الماشي، فعلى المعنى الأوّل فهو كقوله في الآية الأخرى: {ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم} [الزمر: 71] وأيّاً مّا كان فهو محتمل للحمل على جميعها من استعمال اللّفظ في مجازيْه.
الآية أصلها العلامة الدّالة على شيء، من قول أو فعل، وآيات الله الدّلائل التي جعلها دالة على وجوده، أو على صفاته، أو على صدق رسله، كما تقدّم عند قوله تعالى: {والذين كفروا وكذبوا بآياتنا} في سورة البقرة (39)، وقوله تعالى: {وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه} في سورة الأنعام (37)، ومنه آيات القرآن التي جعلها الله دلالة على مراده للنّاس، للتّعريض بالمشركين من العرب، الذين أنكروا رسالة محمّد. ووجه دلالة الآيات على ذلك إمّا لأنّها جاءت على نظم يَعجز البشر عن تأليف مثله، وذلك من خصائص القرآن، وإمّا لأنّها تشتمل على أحكام ومعان لا قِبَل لغير الله ورسوله بإدراك مثلها، أو لأنّها تدعو إلى صلاح لم يعهَدْه النّاس.
فيَدل ما اشتملت عليه على أنّه ممّا أراده الله للنّاس، مثل بقيّة الكتب التي جاءت بها الرّسل، وإمّا لأنّها قارنتها أمور خارقة للعادة تحدّى بها الرّسولُ المرسلُ بتلك الأقوال أمَّتَه، فهذا معنى تسميتها آيات، ومعنَى إضافتها إلى الله تعالى، ويجوز أن يكون المراد بالآيات ما يشمل المعجزاتِ غيرَ القولية، مثل نبع الماء من بين أصابع محمّد ومثل قلب العصا حيّة لموسى عليه السلام. وابراء الأكمه لعيسى عليه السّلام، ومعنى التّكذيب بها العناد بإنكارها وجحدها.
وجملة: {فمن اتقى وأصلح} جواب الشّرط وبينها وبين جملة: {إما يأتينكم} محذوف تقديره: فاتقى منكم فريق وكذب فريق {فمن اتقى} إلخ، وهذه الجملة شرطيّة أيضاً، وجوابها {فلا خوف عليهم}، أي فمن اتّبع رسلي فاتّقاني وأصلح نفسه وعمله فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ولمّا كان إتيان الرّسل فائدته لإصلاح النّاس، لا لنفع الرّسل، عُدل عن جعل الجواب اتّباعّ الرّسل إلى جعله التّقوى والصّلاح. إيماء إلى حكمة إرسال الرّسل، وتحريضا على اتّباعهم بأن فائدتُه للأمم لا للرّسل، كما قال شعيب: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت} [هود: 88]، أي لا خوف عليهم من عقوبة الله في الدّنيا والآخرة ولا هم يحزنون من شيء من ذلك، فالخوف والحزن المنفيان هما ما يوجبه العقاب، وقد ينتفي عنهم الخوف والحزن مطلقاً بمقدار قوّة التّقوى والصّلاح، وهذا من الأسرار التي بين الله وعباده الصّالحين، ومثلُه قوله تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة} [يونس: 62 64].
وقد نُفي الخوف نفي الجنس بلا النّافية له، وجيء باسمها مرفوعاً لأنّ الرّفع يساوي البناء على الفتح في مثل هذا، لأنّ الخوف من الأجناس المعنوية التي لا يتوهّم في نفيها أن يكون المراد نفي الفرد الواحدِ، ولو فتح مثله لصحّ...
و (على) في قوله: {فلا خوف عليهم} للاستعلاء المجازي، وهو المقارنة والملازمة، أي لا خوف ينالهم.
وقوله: {ولا هم يحزنون} جملة عطفت على جملة: {فلا خوف عليهم}، وعُدل عن عطف المفرد، بأن يقال ولا حَزَنٌ، إلى الجملة: ليتأتى بذلك بناء المسند الفعلي على ضميرهم، فيدلّ على أنّ الحَزَن واقع بغيرهم، وهم الذين كفروا. فإنّ بناء الخبر الفعلي على المسند إليه المتقدّم عليه يفيد تخصيص المسند إليه بذلك الخبر، نحو: ما أنا قُلْتُ هذا، فإنّه نفيُ صدور القول من المتكلّم مع كون القول واقعاً من غيره...
فيفيد أنّ الذين كفروا يَحزنون إفادة بطريق المفهوم، ليكون كالمقدّمة للخبر عنهم بعد ذلك بأنّهم أصحاب النّار هم فيها خالدون.
عليكم أن تستقبلوا رسل الله استقبال الملهوف المستشرف المتطلع إلى ما يحميه وإلى ما ينفعه؛ لأن الرسول هو من يعلن لكل واحد منكم ما أحله الله من طيبات الحياة وملاذها، ويبين لكم ما حرم الله ليحيا المجتمع سليما. كان المظنون أن ساعة يأتي الرسول نجد المجتمع يحرض على ملازمته وعلى تلقي البلاغ منه، لا أن يظل الرسول يدعو باللين بينما المجتمع يتأبى عليه. لكن من رحمة الله أن يتأبى المجتمع ويلح الرسول مبينا آيات الله وبيناته كي يأخذ كل إنسان ما يساعده على أمر حياته ويهتدي إلى الصراط المستقيم، وأنت إذا ما أصبت في عافيتك تلح على الطبيب وتبحث عنه، فكان مقتضى العقل أنه إذا جاء رسول ليبلغنا منهج الله في إدارة حركة الحياة أن نتشوق إليه ونتطلع، لا أن نعاديه، وعادة ما يسعد بالرسول أهل الفطرة السليمة بمجرد أن يقول الرسول: أنه رسول ومعه آية صدقه. ويقيس أهل الفطرة السليمة قول الرسول بماضيه معهم، فيعلمون أنه مخلص لم يرتكب الإثم...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} فقد جاء في مجمع البيان في تفسيره: {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} في الآخرة. وقد لاحظ بعض المفسرين أن الخوف والحزن المنفيين هما في الدنيا لا في الآخرة، ولذلك فإن المؤمنين يعيشون الطمأنينة والاستقرار النفسي والأمن الروحي، فلا خوف من المستقبل ولا حزن على ما مضى. ونلاحظ على هذا الرأي، أن تأثير الإيمان بالله والثقة به في ابتعاد المؤمن عن أجواء الخوف والحزن في الدنيا يمثل الحقيقة الإيمانية، وذلك من خلال الإحساس بالحضور الإلهي في حياته بالدرجة التي يتحسس فيها رعايته وحمايته وإشرافه عليه، كما جاء في قول الله تعالى، ممّا قصه من حكاية النبي محمد (ص) ليلة الهجرة: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 40] فقد كان النبي يعيش السكينة الروحية في قلبه، وأراد لصاحبه أن لا يشعر بالحزن في الموقف الصعب، وممّا قصَّه الله على المؤمنين: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ* فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ* إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 173 175]، فقد أراد الله للمؤمنين أن لا يخافوا من الشيطان في الدنيا، لأنه تعالى هو الذي يمنحهم الأمن الروحي الذي يشعرون معه بالسكينة النفسية.