ويمضي السياق في وصف حالهم إذا ما دعوا إلى ما أنزل الله إلى الرسول وما أنزل من قبله . . ذلك الذي يزعمون أنهم آمنوا به :
( وإذا قيل لهم : تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ، رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا )
يا سبحان الله ! إن النفاق يأبى إلا أن يكشف نفسه ! ويأبى إلا أن يناقض بديهيات المنطق الفطري . . وإلا ما كان نفاقا . . .
إن المقتضى الفطري البديهي للإيمان ، أن يتحاكم الإنسان إلى ما آمن به ، وإلى من آمن به . فإذا زعم أنه آمن بالله وما أنزل ، وبالرسول وما أنزل إليه . ثم دعي إلى هذا الذي آمن به ، ليتحاكم إلى أمره وشرعه ومنهجه ؛ كانت التلبيه الكاملة هي البديهية الفطرية . فأما حين يصد ويأبى فهو يخالف البديهية الفطرية . ويكشف عن النفاق . وينبى ء عن كذب الزعم الذي زعمه من الإيمان !
وإلى هذه البديهية الفطرية يحاكم الله - سبحانه - أولئك الذين يزعمون الإيمان بالله ورسوله . ثم لا يتحاكمون إلى منهج الله ورسوله . بل يصدون عن ذلك المنهج حين يدعون إليه صدودا !
هذا إنكار من الله ، عز وجل ، على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين ، وهو مع ذلك يريد التحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله ، كما ذكر في سبب نزول هذه الآية : أنها في رجل من الأنصار ورجل من اليهود تخاصما ، فجعل اليهودي يقول : بيني وبينك محمد . وذاك يقول : بيني وبينك كعب بن الأشرف . وقيل : في جماعة من المنافقين ، ممن أظهروا الإسلام ، أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية . وقيل غير ذلك ، والآية أعم من ذلك كله ، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة ، وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل ، وهو المراد بالطاغوت هاهنا ؛ ولهذا قال : { يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ [ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا . وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ]{[7822]} } .
وقوله : { يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا } أي : يعرضون عنك إعراضا كالمستكبرين عن ذلك ، كما قال تعالى عن المشركين : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } [ لقمان : 21 ]هؤلاء وهؤلاء بخلاف المؤمنين ، الذين قال الله فيهم : { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا [ وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ]{[7823]} } [ النور : 51 ] .
قوله { وإذا قيل لهم تعالوا } الآية أي إذا قيل لهم احضُروا أو إيتوا . فإنّ ( تعال ) كلمة تدلّ على الأمر بالحضور والإقبال ، فمفادها مفاد حرف النداء إلاّ أنّها لا تنبيه فيها . وقد اختلف أيمّة العربية في أنّه فعل أو اسمُ فعلٍ ، والأصحّ أنّه فعل لأنّه مشتقّ من مادّة العلوّ ، ولذلك قال الجوهري في « الصحاح » « والتعالي الارتفاع » ، تقول منه ، إذا أمرت : « تعال يا رجل » ، ومثله في « القاموس » ، ولأنّه تتّصل به ضمائر الرفع ، وهو فعل مبني على الفتح على غير سنّة فِعل الأمر ، فذلك البناء هو الذي حدا فريقاً من أهل العربية على القول بأنّه اسم فعل ، وليس ذلك القول ببعيد ، ولم يَرِد عن العرب غير فتح اللام ، فلذلك كان كسر اللام في قول أبي فِراس :
أيا جارتَا ما أنصف الدهر بيننا *** تعالي أقاسمك الهموم تَعالي
بكسر لام القافية المكسورة ، معدوداً لحناً .
وفي « الكشّاف » أنّ أهل مكة أي في زمان الزمخشري يقولون تعالِي للمرأة . فذلك من اللحن الذي دخل في اللغة العربية بسبب انتشار الدُّخلاء بينهم .
ووجه اشتقاق تعالَ من مادّة العلوّ أنّهم تخيّلوا المنادي في علوّ والمنادي ( بالفتح ) في سفل ، لأنّهم كانوا يجعلون بيوتهم في المرتفعات لأنّها أحصن لهم ، ولذلك كان أصله أن يدلّ على طلب حضور لنفع . قال ابن عطية في تفسير في قوله تعالى : { وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا } في سورة المائدة ( 104 ) : « تعال نداء ببرّ ، هذا أصله ، ثم استعمل حيث البرّ وحيث ضدّه » . وقال في تفسير آية النساء : « وهي لفظة مأخوذة من العلوّ لمّا استعملت في دعاء الإنسان وجلبه صيغت من العلوّ تحسيناً للأدب كما تقول : ارتفع إلى الحقّ ونحوه » . وأعلم أنّ تعال لمّا كانت فعلاً جامداً لم يصحّ أن يصاغ منه غير الأمر ، فلا تقول : تعاليت بمعنى حضرت ، ولا تنهى عنه فتقول : لا تتعال . قال في « الصحاح » « ولا يجوز أن يقال منه تعاليت ولا ينهى عنه » . وفي « الصحاح » عقبه « وتقول : قد تعاليت وإلى أي شيء أتعالى » يعني أنّه يتصرّف في خصوص جواب الطلب لمن قال لك تعال ، وتبعه في هذا صاحب « اللسان » وأغفل العبَارة التي قبله ، وأمّا صاحب « تاج العروس » فربما أخطأ إذ قال : « قال الجوهري : ولا يجوز أن يقال منه : تعاليت وإلى أي شيء أتعالى » ولعلّ النسخة قد وقع فيها نقص أو خطأ من الناسخ لظنّه في العبارة تكريراً ، وإنّما نبّهت على هذا لئلاّ تقع في أخطاء وحيرة .
و ( تعالوا ) مستعمل هنا مجازاً ، إذ ليس ثمّة حضور وإتيان ، فهو مجاز في تحكيم كتاب الله وتحكيم الرسول في حضوره ، ولذلك قال : { إلى ما أنزل الله } إذ لا يحكم الله إلاّ بواسطة كلامه ، وأمّا تحكيم الرسول فأريد به تحكيم ذاته لأنّ القوم المخبر عنهم كانوا من المنافقين وهم بالمدينة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم و ( صدودا ) مفعول مطلق للتوكيد ، ولقصد التوصّل بتنوين { صدودا } لإفادة أنّه تنوين تعظيم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.