ثم هم بعد ذلك يستنكرون على أنفسهم أن يعوقهم معوق عن الإيمان بالله ؛ أو أن يسمعوا هذا الحق ثم لايؤمنوا به ، ولا يأملوا - بهذا الإيمان - أن يقبلهم ربهم ، ويرفع مقامهم عنده ، فيدخلهم مع القوم الصالحين : ( وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ، ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ؟ ) . .
فهو موقف صريح قاطع تجاه ما أنزل الله إلى رسوله من الحق . . موقف الاستماع والمعرفة ، ثم التأثر الغامر والإيمان الجاهر ، ثم الإسلام والانضمام إلى الأمة المسلمة ، مع دعاء الله - سبحانه - أن يجعلهم من الشاهدين لهذا الحق ؛ الذين يؤدون شهادتهم سلوكا وعملا وجهادا لإقراره في الأرض ، والتمكين له في حياة الناس ثم وضوح الطريق ففي تقديرهم وتوحده ؛ بحيث لا يعودون يرون أنه يجوز لهم أن يمضوا إلا في طريق واحد : هو طريق الإيمان بالله ، وبالحق الذي أنزله على رسوله ، والأمل - بعد ذلك - في القبول عنده والرضوان .
{ وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ } وهذا الصنف من النصارى هم المذكورون في قوله [ عز وجل ]{[10220]} { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ [ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِِ ] }{[10221]} الآية [ آل عمران : 199 ] ، وهم الذين قال الله فيهم : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ] }{[10222]} إلى قوله { لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } [ القصص : 52 - 55 ] ؛ ولهذا قال تعالى ههنا : { فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ }{[10223]}
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ الْحَقّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصّالِحِينَ } . .
وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم في هذه الآيات ، أنهم إذا سمعوا ما أنزل إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من كتابه ، آمنوا به وصدّقوا كتاب الله ، وقالوا : ما لنا لا نؤمن بالله ؟ يقول : لا نقرّ بوحدانية الله وما جَاءَنا مِنَ الحَقّ ، يقول : وما جاءنا من عند الله من كتابه وآي تنزيله ، ونحن نطمع بإيماننا بذلك أنْ يُدْخِلَنا رَبّنا مَعَ القَوْمِ الصّالِحِينَ يعني بالقوم الصالحين : المؤمنين بالله المطيعين له ، الذين استحقوا من الله الجنة بطاعتهم إياه . وإنما معنى ذلك : ونحن نطمع أن يدخلنا ربنا مع أهل طاعته مداخلهم من جنته يوم القيامة ، ويلحق منازلنا بمنازلهم ودرجاتنا بدرجاتهم في جناته .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : " وَما لَنا لا نُؤْمِنُ باللّهِ وَما جاءَنا مِنَ الحَقّ وَنَطْمَعُ أنْ يُدْخِلَنا رَبّنا مَعَ القَوْمِ الصّالِحِينَ " قال : «القَوْم الصالحون » : رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
قولهم { وما لنا } توقيف لأنفسهم أو محاجة لمن عارضهم من الكفار بأن قال لهم آمنتم وعجلتم . فقالوا وأي شيء يصدنا عن الإيمان وقد لاح الصواب وجاء الحق المنير { وما لنا } ابتداء وخبر ، و { لا نؤمن } في موضع الحال ، ولكنها حال هي المقصد وفيها الفائدة : كما تقول جاء زيد راكباً وأنت قد سئلت هل جاء ماشياً أو راكباً . وفي مصحف ابن مسعود «وما لنا لا نؤمن بالله وما أنزل إلينا ربنا » . { ونطمع } تقديره ونحن نطمع . فالواو عاطفة جملة على الجملة لا عاطفة فعل على فعل و «القوم الصالحون » محمد وأصحابه ، قاله ابن زيد وغيره من المفسرين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
وقالوا: (وما لنا لا نؤمن بالله)، وذلك أنَّهم لما أسلموا ورجعوا إلى أرضهم، لامهم كُفَّار قومهم، فقالوا: أتركتم مِلَّةَ عيسى صلى الله عليه وسلم، ودين آبائكم، قالوا: نعم، (وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق) مع محمد صلى الله عليه وسلم، (ونطمع): ونرجو (أن يدخلنا ربنا) الجنة (مع القوم الصالحين)، رضوان الله عليهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هذا خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم في هذه الآيات، أنهم إذا سمعوا ما أنزل إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من كتابه، آمنوا به وصدّقوا كتاب الله، وقالوا:"وما لنا لا نؤمن بالله"؟ يقول: لا نقرّ بوحدانية الله "وما جَاءَنا مِنَ الحَقّ"، يقول: وما جاءنا من عند الله من كتابه وآي تنزيله، ونحن نطمع بإيماننا بذلك "أنْ يُدْخِلَنا رَبّنا مَعَ القَوْمِ الصّالِحِينَ "يعني بالقوم الصالحين: المؤمنين بالله المطيعين له، الذين استحقوا من الله الجنة بطاعتهم إياه. وإنما معنى ذلك: ونحن نطمع أن يدخلنا ربنا مع أهل طاعته مداخلهم من جنته يوم القيامة، ويلحق منازلنا بمنازلهم ودرجاتنا بدرجاتهم في جناته.
قال ابن زيد: «القَوْم الصالحون»: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
وأي عذر لنا في التعريج في أوطان الارتياب، وقد تجلَّت لقلوبنا الحجج؟ ثم ما نؤمله من حُسْنِ العاقبة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله} إنكار استبعاد لانتفاء الإيمان مع قيام موجبه وهو الطمع في إنعام الله عليهم بصحبة الصالحين،...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كانوا يهضمون أنفسهم، عبروا بالطمع الذي لا نظر معه لعمل فقالوا: {ونطمع أن يدخلنا ربنا} أي بمجرد إحسانه، لا بعمل منا، ولجريهم في هذا المضمار عبروا ب"مع" 483 دون "في 484" قولهم: {مع القوم الصالحين *} هضماً لأنفسهم وتعظيماً لرتبة الصلاح.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذا تتمة قولهم، والمعنى أي مانع يمنعنا من الإيمان بالله وحده وبما جاءنا من الحق على لسان هذا الرسول، بعد أن ظهر لنا إنه البارقليط روح الحق الذي بشر به المسيح، والحال أننا نطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين، الذين صلحت أنفسهم بالعقائد الصحيحة، والفضائل الكاملة، والعبادات الخالصة، والمعاملات المستقيمة، وهم أتباع هذا النبي الكريم الذين رأينا أثر صلاحهم بأعيننا بعد ما كان من فسادهم في جاهليتهم ما كان؟ أي لا مانع يمنعنا من هذا الإيمان بعد تحقيق موجبه، وقيام سببه. فسروا القوم الصالحين بأصحاب الرسول، وهو متعين بالنسبة إلى من آمن من نصارى الحبشة. وكل من سار على طريقهم يعد منهم ويحشر معهم.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
والخلاصة: إنه لا مانع لنا من هذا الإيمان بعد أن تظاهرت أسبابه، وتحققت موجباته فوجب علينا الجري على سننه، وإتباع نهجه وطريقه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فهو موقف صريح قاطع تجاه ما أنزل الله إلى رسوله من الحق.. موقف الاستماع والمعرفة، ثم التأثر الغامر والإيمان الجاهر، ثم الإسلام والانضمام إلى الأمة المسلمة، مع دعاء الله -سبحانه- أن يجعلهم من الشاهدين لهذا الحق؛ الذين يؤدون شهادتهم سلوكا وعملا وجهادا لإقراره في الأرض، والتمكين له في حياة الناس ثم وضوح الطريق ففي تقديرهم وتوحده؛ بحيث لا يعودون يرون أنه يجوز لهم أن يمضوا إلا في طريق واحد: هو طريق الإيمان بالله، وبالحق الذي أنزله على رسوله، والأمل -بعد ذلك- في القبول عنده والرضوان.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحقّ}، هو من قولهم، فيحتمل أنّهم يقولونه في أنفسهم عندما يخامرهم التردّد في أمر النزوع عن دينهم القديم إلى الدخول في الإسلام. وذلك التردّد يعرض للمعتقد عند الهمّ بالرجوع في اعتقاده وهو المسمّى بالنظر؛ ويحتمل أنّهم يقولونه لمن يعارضهم من أهل ملّتهم أو من إخوانهم ويشكّكهم فيما عزموا عليه، ويحتمل أنّهم يقولونه لمن يعيّرهم من اليهود أو غيرهم بأنّهم لم يتصلّبوا في دينهم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وان إيمانهم هذا وإذعانهم للحق في وسط إنكارهم لم يجعلهم يجزمون بالجزاء في الآخرة بل كانوا حقا كصادقي الإيمان يطمعون لا في الجزاء وحده بل يطمعون في أن يكونوا مع أهل الإيمان الذين يجمعهم الصلاح في الأعمال،ولذا قال سبحانه عنهم: (ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين) فهم لقوة إيمانهم يستصغرون ما عملوا ويطمعون في أن يدخلهم ربهم الذي خلقهم وإنما هم وكفلهم برحمته وعنايته أن يدخلوا في ضمن الذين اختارهم الله تعالى واصطفاهم وهم قوم الله وحزبه، وهم الصالحون المصلحون، والمؤمن المخلص يستقل عمله بجوار أنعم الله تعالى عليه فهو لا يستكثر بتقواه، ولا يمن بعبادته، وليس حالهم كحال الذين يمنون على الله تعالى إذ قال تعالى: (يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين 17) (الحجرات).
فالمتأمل بعمق في أمر الدين يقول لنفسه: {وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق}، والمؤمن يرى أنه من العجيب ألا يؤمن لأنه يطمح إلى مكانة المؤمن. {ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين} إذن فالمؤمن يطلب مكانة الإنسان الصالح.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
سبق أن قلنا إِنّ هذه المقارنة كانت بين اليهود والنصارى المعاصرين لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فاليهود وإِن كانوا من أصحاب الكتب السماوية بلغت شدة تعلقهم بالمادة وحبّهم لها أن انخرطوا في سلك المشركين الذين لم يكن يربطهم بهم أي وجه شبه مشترك، مع أن اليهود في البداية كانوا من المبشرين بمجيء الإِسلام ولم تكن قد دخلتهم انحرافات كالتثليث والغلو اللذين كانا عند المسيحيين، غير أن حبّهم للدنيا حبّ عبادة قد أبعدهم عن الحقّ، بينما معاصروهم المسيحيون لم يكونوا على هذه الشاكلة.
إِلاّ أنّ التّاريخ القديم والمعاصر يقول لنا: أنّ المسيحيين في القرون التي أعقبت ذلك قد ارتكبوا بحق الإِسلام والمسلمين جرائم لا تقل عمّا فعله اليهود في هذا المجال. إِنّ الحروب الصليبية الطّويلة والدّموية في القرون الماضية، والاستفزازات الكثيرة التي يقوم بها الاستعمار ضد الإِسلام والمسلمين اليوم غير خافية على أحد، لذلك ليس لنا أن نأخذ الآيات المذكورة مأخذ قانون عام بالنسبة لجميع المسيحيين، بل إِنّ الآية: (إِذا سمعوا ما أنزل إلى الرّسول...) وما بعدها دليل على إِنّها نزلت بحق جمع من المسيحيين الذين كانوا يعاصرون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).