قوله تعالى : { ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا } ، أي صبوا .
قوله تعالى : { علينا من الماء أو مما رزقكم الله } ، أي أوسعوا علينا مما رزقكم الله من طعام الجنة ، قال عطاء عن ابن عباس : لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار في الفرج ، وقالوا : يا رب إن لنا قرابات من أهل الجنة ، فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم ، فينظرون إلى قرابتهم في الجنة وما هم فيه من النعيم فيعرفونهم ، ولا يعرفهم أهل الجنة لسواد وجوههم ، فينادي أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم ، وأخبروهم بقراباتهم : { أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله }
قوله تعالى : { قالوا إن الله حرمهما على الكافرين } ، يعني : الماء والطعام .
وأخيراً . ها نحن أولاء نسمع صوتاً آتياً من قبل النار ، ملؤه الرجاء والاستجداء :
( ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة : أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله ) !
وها نحن أولاء نلتفت إلى الجانب الآخر نسمع الجواب ملؤه التذكير الأليم المرير :
( قالوا : إن الله حرمهما على الكافرين . الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرتهم الحياة الدنيا ) . .
يخبر تعالى عن ذلة أهل النار وسؤالهم أهل الجنة من شرابهم وطعامهم ، وأنهم لا يجابون إلى ذلك .
قال السُّدِّي : { وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ }
يعني : الطعام وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يستطعمونهم ويستسقونهم .
وقال الثوري ، عن عثمان الثقفي ، عن سعيد بن جبير في هذه الآية قال : ينادي الرجل أباه أو أخاه فيقول : قد احترقت ، أفض{[11797]} علي من الماء . فيقال لهم : أجيبوهم . فيقولون : { إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ }
وروي من وجه آخر عن سعيد ، عن ابن عباس ، مثله [ سواء ]{[11798]}
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ } يعني : طعام الجنة وشرابها .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا نصر بن علي ، أخبرنا موسى بن المغيرة ، حدثنا أبو موسى الصفَّار في دار عمرو بن مسلم قال : سألت ابن عباس - أو : سئل - : أي الصدقة أفضل ؟ فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أفضل الصدقة الماء ، ألم تسمع إلى أهل النار لما استغاثوا بأهل الجنة قالوا : { أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ }{[11799]}
وقال أيضا : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن أبي صالح قال : لما مرض أبو طالب قالوا له : لو أرسلتَ إلى ابن أخيك هذا ، فيرسل إليك بعنقود من الجنة{[11800]} لعله أن يشفيك به . فجاءه الرسول وأبو بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو بكر : إن الله حرمهما على الكافرين{[11801]}
القول في تأويل قوله تعالى : { وَنَادَىَ أَصْحَابُ النّارِ أَصْحَابَ الْجَنّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ أَوْ مِمّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُوَاْ إِنّ اللّهَ حَرّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ } .
وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن استغاثة أهل النار بأهل الجنة عند نزول عظيم البلاء بهم من شدّة العطش والجوع ، عقوبة من الله لهم على ما سلف منهم في الدنيا من ترك طاعة الله وأداء ما كان فرض عليهم فيها في أموالهم من حقوق المساكين من الزكاة والصدقة . يقول تعالى ذكره : ونادى أصحاب النار بعد ما دخلوها أصحاب الجنة بعد ما سكنوها أن يا أهل الجنة : أفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ المَاءِ أوْ مِمّا رَزَقَكُمُ اللّهُ أي أطعمونا مما رزقكم الله من الطعام . كما :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : أنْ أفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ المَاءِ أوْ مِمّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قال : من الطعام .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : أنْ أفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ المَاءِ أوْ مِمّا رزقَكُمُ اللّهُ قال : يستطعمونهم ويستسقونهم . فأجابهم أهل الجنة : إن الله حرّم الماء والطعام على الذين جحدوا توحيده وكذّبوا في الدنيا رسله .
والهاء والميم في قوله : إنّ اللّهَ حَرّمَهُما عائدتان على الماء ، وعلى «ما » التي في قوله : أوْ مِمّا رَزَقَكُمُ اللّهُ .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عثمان الثقفي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وَنادَى أصحَابُ النّارِ أصحَابَ الجَنّةِ أنْ أفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ المَاءِ أوْ مِمّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قال : ينادي الرجل أخاه أو أباه ، فيقول : قد احترقتُ ، أفض عليّ من الماء فيقال لهم : أجيبوهم فيقولون : إنّ اللّهَ حَرّمَهُما على الكافِرِينَ .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا ابن دكين ، قال : حدثنا سفيان ، عن عثمان ، عن سعيد بن جبير : وَنادَى أصحَابُ النّارِ أصحَابَ الجَنّةِ أنْ أفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ المَاءِ أوْ مِمّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قال : ينادي الرجل أخاه : يا أخي قد احترقت فأغثني فيقول : إنّ اللّهَ حَرّمَهُما على الكافِرِينَ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : قالُوا إنّ اللّهَ حَرّمَهُما عَلى الكافِرِينَ قال : طعام أهل الجنة وشرابها .
وقوله تعالى : { ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة } الآية ، لفظة النداء تتضمن أن أهل النار وقع لهم علم بأن أهل الجنة يسمعون نداءهم ، وجائز أن يكون ذلك وهم يرونهم بإدراك يجعله الله لهم على بعد السفل من العلو ، وجائز أن يكون ذلك وبينهم السور والحجاب المتقدم الذكر ، وروي أن ذلك النداء هو عند إطلاع أهل الجنة عليهم ، و { أن } في قوله : { أن أفيضوا } مفسرة بمعنى أي ، وفاض الماء إذا سال وانماع ، وأفاضه غيره ، وقوله : { أو مما رزقكم الله } إشارة إلى الطعام قاله السدي ، فيقول لهم أهل الجنة إن الله حرم طعام الجنة وشرابها على الكافرين .
قال القاضي أبو محمد : والأشنع على الكافرين في هذه المقالة أن يكون بعضهم يرى بعضاً فإنه أخزى وأنكى للنفس ، وإجابة أهل الجنة بهذا الحكم هو عن أمر الله تعالى ، وذكر الزهراوي : أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «أفضل الصدقة بالماء » ، يعني عند الحاجة إليه إذ هو ألذ مشروب وأنعشها للنفس ، واستسقى الشعبي عند مصعب فقال له أي الأشربة تحب ؟ فقال أهونها موجوداً وأعزها مفقوداً ، فقال له مصعب : يا غلام هات الماء .
القول في { نادى } وفي { أنْ } التّفسيريّة كالقول في : { ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا } [ الأعراف : 44 ] الآية . وأصحاب النّار مراد بهم من كان من مشركي أمّة الدّعوة لأنّهم المقصود كما تقدّم ، وليوافق قوله بعدُ { ولقد جئناهم بكتاب فصلناه } [ الأعراف : 52 ] .
فعل الفيض حقيقته سيلان الماء وانصبابه بقوّة ويستعمل مجازاً في الكثرة ، ومنه ما في الحديث : " ويَفيض المالُ حتّى لا يقبَله أحد " . ويجيء منه مجاز في السّخاء ووفرة العطاء ، ومنه ما في الحديث أنّه قال لطلحة : « أنت الفيَّاض » . فالفيض في الآية إذا حمل على حقيقته كان أصحاب النّار طالبين من أصحاب الجنّة أن يصبّوا عليهم ماء ليشربوا منه ، وعلى هذا المعنى حمله المفسّرون ، ولأجل ذلك جعل الزمخشري عطف { ما رزقكم الله } عطفاً على الجملة لا على المفرد . فيقدّر عامل بعد حرف العطف يناسب ما عدَا الماءَ تقديره : أو أعطونا ، ونظّره بقول الشّاعر ( أنشده الفراء ) :
عَلَفْتُها تِبْنا وماءً بارداً *** حتّى شَبَتْ هَمَّالَةً عيناها
تقديره : علفتها وسَقيتها ماء بارداً ، وعلى هذا الوجه تكون ( مِن ) بمعنى بعض ، أو صفة لموصوف محذوف تقديره : شيئاً من الماء ، لأنّ : { أفيضوا } يتعدّى بنفسه .
ويجوز عندي أن يحمل الفيض على المعنى المجازي ، وهو سعة العطاء والسّخاء ، من الماء والرزق ، إذ ليس معنى الصبّ بمناسب بل المقصود الإرسال والتّفضل ، ويكون العطف عطف مفرد على مفرد وهو أصل العطف . ويكون سُؤلهم من الطّعام مماثلاً لسؤْلهم من الماء في الكثرة ، فيكون في هذا الحمل تعريض بأن أصحاب الجنّة أهل سخاء ، وتكون ( مِن ) على هذا الوجه بيانية لمعنى الإفاضة ، ويكون فعل { أفيضوا } مُنزلاً منزلة اللاّزم ، فتتعلّق مِنْ بفعل { أفيضوا } .
والرّزق مراد به الطّعام كما في قوله تعالى : { كلما رزقوا منها من ثمرة } [ البقرة : 25 ] الآية .
وضمير { قالوا } لأصحاب الجنّة ، وهو جوابهم عن سؤال أصحاب النّار ، ولذلك فصل على طريقة المحاورة .
والتّحريم في قوله : { حرمهما على الكافرين } مستعمل في معناه اللّغوي وهو المنع كقول عنترة :
حَرُمَتْ عليّ وليتَها لَمْ تَحْرُم
وقولِه : { وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون } [ الأنبياء : 95 ] .
والمراد بالكافرين المشركون ، لأنّهم قد عُرفوا في القرآن بأنّهم اتّخذوا دينهم لهواً ولعباً ، وعُرفوا بإنكار لقاءِ يوم الحشر .