الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَنَادَىٰٓ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِ أَصۡحَٰبَ ٱلۡجَنَّةِ أَنۡ أَفِيضُواْ عَلَيۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ أَوۡ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُۚ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ} (50)

قوله تعالى : { أَنْ أَفِيضُواْ } : كأحوالِها من احتمال التفسير والمصدرية ، و " من الماء " متعلق بأفيضوا على أحدِ وجهيه : إمَّا على حذف مفعول أي : شيئاً من الماء فهي تبعيضيةٌ ، طلبوا منهم البعضَ اليسير ، وإمَّا على تضمين " أفيضوا " معنى ما يتعدَّى ب مِنْ أي : أنعموا منه بالفيض . وقوله : { أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ } " أو " هنا على بابها من اقتضائها لأحد الشيئين : إمَّا تخييراً أو إباحةً أو غيرَ ذلك ممَّا يليق بها ، وعلى هذا يقال كيف قيل : حَرَّ مهما فأعيد الضمير مثنَّى ، وكان من حق مَنْ يقول إنها لأحد الشيئين أن يعودَ مفرداً على ما تقرر غير مرة ؟ وقد أجابوا بأن المعنى : حَرَّم كلاً منهما . وقيل إن " أو " بمعنى الواو فعود الضمير واضحٌ عليه .

و " ممّا " : " ما " يجوز أن تكون موصولة اسمية ، وهو الظاهر ، والعائد محذوف أي : أو من الذي رزقكموه الله ، ويجوز أن تكونَ مصدريةً ، وفيه مجازان : أحدهما : أنهم طَلَبوا منهم إفاضةَ نفس الرزق مبالغةً في ذلك . والثاني : أن يَرادَ بالمصدر اسمُ المفعول كقوله : { كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ } [ البقرة : 60 ] في أحد وجهيه . وقال الزمخشري : " أو ممَّا رزقكم الله من غيره من الأشربة لدخوله في حكم الإِفاضة . ويجوز أن يُراد : أو أَلْقُوا علينا مِنْ ما رزقكم الله من الطعام والفاكهة كقوله :

عَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً *** . . . . . . . . . . . . . . .

قال الشيخ : " وقوله " و ألقوا علينا مما رزقكم الله من الطعام والفاكهة " يحتمل وجهين ، أحدهما أن يكون قوله : " أفيضوا " ضُمِّن معنى " ألقوا " علينا من الماء أو مما رزقكم الله فيصحَّ العطف ، ويحتمل وهو الظاهر من كلامه أن يكونَ أضمر فعلاً بعد " أو " يَصِل إلى مما رزقكم الله وهو " ألقوا " ، وهما مذهبان للنحاة فيما عُطِف على شيء بحرف عطف ، والفعل لا يصل إليه ، والصحيح منهما التضمين لا الإِضمار " . قلت : يعني الزمخشري أن الإِفاضة أصل استعمالها في الماء وما جرى مجراه في المائعات ، فقوله " أو مِنْ غيره من الأشربة " تصحيح ليسلِّط الإِفاضةَ عليه ؛ لأنه لو حُمِل مما رزقكم الله على الطعام والفاكهة لم يَحْسُن نسبة الإِفاضة إليهما إلا بتجوُّز ، فذكر وجه التجوز بقوله " ألقوا " ، ثم فسَّره الشيخ بما ذكر ، وهو كما قال ، فإن العلَف لا يُسْنَدُ إلى الماء . فقوله إمَّا بالتضمين أي فَغَذَّيتُها ، ومثلُه :

. . . . . . . . . . . . . . . *** وزَجَّجْنَ الحواجبَ والعيونا

وقوله :

يا ليت زوجَك قد غدا *** متقلِّدا سيفاً ورُمْحا

وقوله تعالى : { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ } [ الحشر : 9 ] وقد مضى من هذا جملةٌ صالحة . وزعم بعضهم أن قوله { أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ } عامٌّ يندرج فيه الماء المتقدم ، وهو بعيدٌ أو متعذَّرٌ للعطف بأو .

والتحريم هنا المَنْعُ كقوله :

حرامٌ على عينيَّ أن تُطْعَما الكَرى *** . . . . . . . . . . . . . . . .