اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَنَادَىٰٓ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِ أَصۡحَٰبَ ٱلۡجَنَّةِ أَنۡ أَفِيضُواْ عَلَيۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ أَوۡ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُۚ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ} (50)

قال عطاءٌ عن ابن عباس : " لما صار أصحاب الأعراف إلا الجنَّة طمع أهل النَّار في الفرجن فقالوا : يا رب ، إنَّ لنا قرابات من أهل الجَنَّة فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم فأمر الله الجنة فتزحزحت فنظروا إلى قراباتهم في الجنة ، وما هم فيه من النعيم ، فعرفوهم ، ولم يعرفهم أهل الجنة لسواد وجوههم ، فَنَادى أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم ، وأخبروهم بقراباتهم { أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الماء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله }{[16200]} .

قوله : " أنْ أفِيْضُوا " كأحوالها من احتمال التفسير والمصدرية ، و " مِنَ المَاءِ " متعلق ب " أفيضَوا " على أحد وجهين :

إمَّا على حذف مفعول أي : شيئاً من الماء ، فهي تبعيضية طلبوا منهم البعض اليسير ، وإمّا على تضمين " أفِيضُوا " معنى ما يتعدّى ب " من " أي : أنعموا منه بالفيض .

وقوله : { أوْ مِمَّا رَزَقَكُمْ } " أو " هنا على بابها من اقتضائها لأحد الشيئين ؛ إمَّا تخييراً ، أو إباحة ، أو غير ذلك مما يليق بهما ، وعلى هذا يقال : كيف قيل : حرَّمهما فأعيد الضَّميرُ مثنى وكان من حق من يقول : إنَّها لأحد الشيئين أن يعود مفرداً على ما تقرَّر غير مّرة ؟

وقد أجابوا بأن المعنى : حرّم كلاًّ منهما .

وقيل : إن " أو " بمعنى الواو فعود الضمير واضح عليه .

و " مِمَّا " " ما " يجوزُ أن تكون موصولة اسميّة ، وهو الظَّاهِرُ ، والعائد محذوف أي : أو من الذي رزقكموه الله ، ويجوزُ أن تكون مصدرية ، وفيه مجازان .

أحدهما : أنَّهم طلبوا منهم إفَاضَةَ نفس الرزق مبالغة في ذلك .

والثاني : أن يراد بالمصدر اسم المفعول ، كقوله : { كُلُواْ واشربوا مِن رِّزْقِ الله } [ البقرة : 60 ] في أحد وجهيه .

وقال الزمخشريُّ{[16201]} : أو مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من غيره من الأشْرِبَةِ لدخوله في حكم الإفاضة " .

ويجوزُ أن يُراد : أو ألْقوا علينا من ما زرقكم الله من الطعام والفاكهة كقوله : [ الرجز ] .

عَلَفْتُهَا تِبْناً وَمَاءً بَارداً *** . . . {[16202]}

قال أبُوا حيَّان{[16203]} : وقوله : " وألْقوا علَيْنَا مِمَّا رَزَقكُمُ اللَّهُ منَ الطَّعامِ والفاكهة " يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون قوله : " أفيضُوا " ضُمِّن معنى قوله : " ألقوا علينا من الماء ، أو مما رزقكم الله " فيصحُّ العطف .

ويحتمل - وهو الظاهر من كلامه - أن يكون أضمر فعلاً بعد " أو " يصل إلى مما رزقكم اللَّهُ ، وهو " ألقوا " ، وهما مذهبان للنحاة فيما عُطفَ على شيء بحرف عطف ، والفعل لا يصل إليه ، والصَّحيحُ منهما التّضميل لا الإضمار .

قال شهابُ الدِّين{[16204]} : " يعني الزمخشري : أن الإفاضة أصل استعمالها في الماء ، وما جرى مجراه في المائعات ، فقوله : " أو من غيره من الأشْرِبَةِ " تصحيح ليسلّط الإفاضة عليه ؛ لأنَّهُ لو حُمِلَ مما رزقكم اللَّه على الطعام والفاكهة لم يَحْسُن نسبة الإفاضة إليهما إلاَّ بتجوز ، فذكر وجه التجوز بقوله : " ألقوا " ، ثم فسَّره الشيخ بما ذكر ، وهو كما قال ، فإن العلف لا يُسند إلى الماء فيؤولان بالتضمين أي : فعلفتها ، ومثله : [ الوافر ]

. . . *** وَزَجَّجْنُ الحَوَاجِبَ والعُيُونَا{[16205]}

وقوله : [ مجزوء الكامل ]

يَا لَيْتَ زَوْجَكِ قَدْ غَدَا *** مُتَقَلِّداً سَيْفاً وَرُمْحا{[16206]}

وقوله تعالى : { والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان } [ الحشر : 9 ] وقد مَضَى من هذا جملة صالحة " .

وزعم بعضهم أن قوله : { أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله } عام يندرج فيه الماء المتقدِّم ، وهو بعيد أو متعذّر لِلْعَطْفِ ب " أو " . والتَّحريم هنا المنع كقوله : [ الطويل ]

حَرَامٌ عَلَى عَيْنَيَّ أنْ تَطْعَمَا الكَرَى *** . . . {[16207]}

فصل في فضل سقي الماء

قال القرطبيُّ{[16208]} : " هذه الآية دليل على أن سقي الماء أفضل الأعمال " .

وقد سئل ابن عباس : أي الصّدقة أفضل ؟ قال : الماء ، ألم تروا إلى أهْلِ النَّار حين استغاثوا بأهل الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو ممَّا رزقكم الله{[16209]} .

وروى أبو داود " أن سعداً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أي الصدقة أحب إليك ؟ قال : المَاءُ ، فَحَفَر بِئراً وقال : هذه لأمِّ سَعْدٍ {[16210]} "

فصل في أحقية صاحب الحوض بمائه

قال القرطبي : " وقد استدلّ بهذه الآية من قالك إنَّ صاحب الحوض والقربة أحقُ بمائه ، وأن له منعه ممن أراده ؛ لأن معنى قول أهل الجنَّة : { إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين } لاحق لكم فيها " .


[16200]:أخرجه الطبري في تفسيره 5/509.
[16201]:ينظر: الكشاف 2/108.
[16202]:تقدم.
[16203]:ينظر: البحر المحيط 4/307.
[16204]:ينظر: الدر المصون 3/277.
[16205]:تقدم.
[16206]:تقدم.
[16207]:البيت ينظر: مشاهد الإنصاف 2/85، حاشية الشهاب 4/172، الدر المصون 3/278.
[16208]:ينظر: تفسير القرطبي 7/138.
[16209]:ذكره السيوطي في الدر المنثور 3/166 عن ابن عباس مرفوعا وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان.
[16210]:أخرجه أحمد 5/285-6/7 والنسائي 6/254-255 وابن ماجه 3684 والبيهقي 4/185 وابن حبان 858- موارد.