75 - فأقسم - حقا - بمساقط النجوم عند غروبها آخر الليل أوقات التهجد والاستغفار ، وإنه لقسم - لو تفكرون في مدلوله - عظيم الخطر بعيد الأثر{[219]} .
ولم يكن المخاطبون يومذاك يعرفون عن مواقع النجوم إلا القليل ، الذي يدركونه بعيونهم المجردة . ومن ثم قال لهم : ( وإنه لقسم - لو تعلمون - عظيم ) . . فأما نحن اليوم فندرك من عظمة هذا القسم المتعلقة بالمقسم به ، نصيبا أكبر بكثير مما كانوا يعلمون . وإن كنا نحن أيضا لا نعلم إلا القليل عن عظمة مواقع النجوم . . .
وهذا القليل الذي وصلنا إليه بمراصدنا الصغيرة ، المحدودة المناظير ، يقول لنا : إن مجموعة واحدة من مجموعات النجوم التي لا تحصى في الفضاء الهائل الذي لا نعرف له حدودا . مجموعة واحدة - هي المجرة التي تنتسب إليها أسرتنا الشمسية - تبلغ ألف مليون نجم !
[ ويقول الفلكيون إن من هذه النجوم والكواكب التي تزيد على عدة بلايين نجم ، ما يمكن رؤيته بالعين المجردة ، وما لا يرى إلا بالمجاهر والأجهزة ، وما يمكن أن تحس به الأجهزة دون أن تراه . هذه كلها تسبح في الفلك الغامض ؛ ولا يوجد أي احتمال أن يقترب مجال مغناطيسي لنجم من مجال نجم آخر ، أو يصطدم بكوكب آخر ، إلا كما يحتمل تصادم مركب في البحر الأبيض المتوسط بآخر في المحيط الهادي ، يسيران في اتجاه واحد وبسرعة واحدة . وهو احتمال بعيد ، وبعيد جدا . إن لم يكن مستحيلا ] .
وكل نجم في موقعه المتباعد عن موقع إخوته ، قد وضع هناك بحكمة وتقدير . وهو منسق في آثاره وتأثراته مع سائر النجوم والكواكب ، لتتوازن هذه الخلائق كلها في هذا الفضاء الهائل .
فهذا طرف من عظمة مواقع النجوم ، وهو أكبر كثيرا جدا مما كان يعلمه المخاطبون بالقرآن أول مرة ، وهو في الوقت ذاته أصغر بما لا يقاس من الحقيقة الكلية لعظمة واقع النجوم !
( فلا أقسم بمواقع النجوم ) . . فالأمر أوضح وأجلى من أن يحتاج إلى قسم . . ( وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ) . . وهذا التلويح بالقسم والعدول عنه أسلوب ذو تأثير في تقرير الحقيقة التي لا تحتاج إلى القسم لأنها ثابتة واضحة . . ( إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون . تنزيل من رب العالمين ) . .
وجملة { وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } معترضة بين القسم وجوابه .
وضمير { إنه } عائد إلى القَسم المذكور في { لا أقسم بمواقع النجوم } ، أو عائداً إلى مواقع النجوم بتأويله بالمذكور فيكون قسم بمعنى مقسم به كما علمت آنفاً .
ويجوز أن يعود إلى المقسم عليه وهو ما تضمنه جواب القسم من قوله : { إنه لقرآن كريم } .
وجملة { لو تعلمون } معترضة بين الموصوف وصفته وهي اعتراض في اعتراض .
والعلْمُ الذي اقتضى شرطُ { لو } الامتناعية عدمَ حصوله لهم إن جعلت ضمير { إنه } عائداً على القسم هو العِلم التفصيلي بأحوال مواقع النجوم ، فإن المشركين لا يخلون من علم إجمالي متفاوت بأن في تلك المواقع عبرة للناظرين ، أو نُزّل ذلك العلم الإجمالي منزلة العدم لأنهم بكفرهم لم يجروا على موجَب ذلك العلم من توحيد الله فلو علِموا ما اشتملت عليه أحوال مواقع النجوم من متعلقات صفات الله تعالى لعلموا أنها مواقع قدسية لا يَحْلف بها إلا بارٌّ في يمينه ولكنهم بمعزل عن هذا العلم ، فإن جلالة المقسم به مما يزع الحالف عن الكذب في يمينه .
ودليل انتفاء علمهم بعظمته أنهم لم يدركوا دلالة ذلك على توحيد الله بالإِلهية فأثبوا له شركاء لم يخلقوا شيئاً من ذلك ولا ما يدانيه فتلك آية أنهم لم يدركوا ما في طي ذلك من دلائل حتى استوى عندهم خالق ما في تلك المواقع وغير خالقها .
فأما إن جعلت ضمير { وإنه لقسم } عائداً إلى المقسم عليه فالمعنى : لو تعلمون ذلك لما احتجتم إلى القسم .
وقرأ الجمهور { بمواقع } بصيغة الجمع بفتح الواو وبعدها ألف ، وقرأه حمزة والكسائي وخلق { بموقع } سكون الواو دون ألف بعدها بصيغة المفرد على أنه مصدر ميمي ، أي بوقوعها ، أي غروبها ، أو هو اسم لجهة غروبها كقوله : { رب المشرق والمغرب } [ المزمل : 9 ] .
ومفعول { تعلمون } محذوف دل عليه الكلام ، أي لو تعلمون عظمته ، أي دلائل عظمته ، ولك أن تجعل فعل { تعلمون } منزّلاً منزلة اللازم ، أي لو كان لكم علم لكنكم لا تتصفون بالعلم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم عظم القسم فقال: {وإنه لقسم لو تعلمون عظيم}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وإن هذا القسم الذي أقسمت لقسم لو تعلمون ما هو، وما قدره، قسم عظيم من المؤخر الذي معناه التقديم، وإنما هو: وإنه لقسم عظيم لو تعلمون عظمه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{وإنه لقسم} تأكيد للأمر وتنبيه من المقسم به، وليس هذا باعتراض بين الكلامين، بل هذا معنى قصد التهمم به، وإنما الاعتراض قوله: {لو تعلمون} وقد قال قوم: إن قوله: {وإنه لقسم} اعتراض، وإن {لو تعلمون} اعتراض في اعتراض، والتحرير هو الذي ذكرناه.
المسألة الأولى: هو أن يقال: جواب {لو تعلمون} ماذا،... القول يحتمل وجهين...
. (وثانيهما) أن يكون له جواب تقديره: لو تعلمون لعظمتموه لكنكم ما عظمتموه، فعلم أنكم لا تعلمون، إذ لو تعلمون لعظم في أعينكم، ولا تعظيم فلا تعلمون...
المسألة الثانية: ما الفائدة في وصفه بالعظيم في قوله: {وإنه لقسم} فنقول: لما قال: {فلا أقسم} وكان معناه: لا أقسم بهذا لوضوح المقسم به عليه. قال: لست تاركا للقسم بهذا، لأنه ليس بقسم أو ليس بقسم عظيم، بل هو قسم عظيم ولا أقسم به، بل بأعظم منه أقسم لجزمي بالأمر وعلمي بحقيقته.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(فلا أقسم بمواقع النجوم).. فالأمر أوضح وأجلى من أن يحتاج إلى قسم.. (وإنه لقسم لو تعلمون عظيم).. وهذا التلويح بالقسم والعدول عنه أسلوب ذو تأثير في تقرير الحقيقة التي لا تحتاج إلى القسم لأنها ثابتة واضحة.. (إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون. تنزيل من رب العالمين)...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
التعبير ب (لو تعلمون) يوضّح وبشكل جليّ أنّ معرفة البشر في ذلك الزمان لم تدرك هذه الحقيقة بصورة كاملة، وهذه بحدّ ذاتها تعتبر إعجازاً علميّاً للقرآن الكريم، حيث في الوقت الذي كانت تعتبر النجوم عبارة عن مسامير فضائية رصّعت السماء بها فانّ مثل هذا البيان القرآني الرائع في ظلّ ظروف وأوضاع يخيّم عليها الجهل، محال أن يصدر من بشر عادي.