الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَإِنَّهُۥ لَقَسَمٞ لَّوۡ تَعۡلَمُونَ عَظِيمٌ} (76)

قوله : { فَلاَ أُقْسِمُ } : قرأه العامَّةُ " فلا " ، لامَ ألفٍ ، وفيها أوجهٌ ، أحدُها : أنها حرفُ نفي ، وأنَّ المنفيَّ بها محذوفٌ ، وهو كلامُ الكافرِ الجاحدِ تقديرُه : فلا حُجَّةَ لِما يقولُ الكافرُ ، ثم ابتدأ قَسَماً بما ذَكَر ، وإليه ذهب جماعةٌ من المفسِّرين والنَّحْويين . وضُعِّفَ هذا : بأنَّ فيه حَذْفَ اسمِ " لا " وخبرِها . قال الشيخ : " ولا يجوز " ولا ينبغي ؛ فإن القائلَ بذلكَ مثلُ سعيدِ بنِ جُبير تلميذِ حَبْر القرآنِ وبحرِه عبدِ اللَّهِ ابن عباس رضي الله عنهما ، ويَبْعُدُ أَنْ يقولَه سعيدٌ إلاَّ بتوقيف .

الثاني : أنها زائدةٌ للتوكيدِ ، مِثْلُها في قولِه تعالى : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ } [ الحديد : 29 ] والتقدير : فأُقْسِمُ ، وليَعْلَمَ ، وكقولِه :

4224 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** فلا وأَبي أعدائِها لا أَخُوْنُها

الثالث : أنَّها لامُ الابتداءِ . والأصلُ : فَلأُقْسِمُ فأُشْبِعَتْ الفتحةُ فتولَّد منها ألفٌ ، كقولِه :

أَعوذُ باللَّهِ من العَقْرابِ ***

قاله الشيخُ ، واستشهدَ بقراءةِ هشام " أَفْئِيْدَة " . قلت . وهذا ضعيفٌ جداً ، واستند أيضاً لقراءةِ الحسن وعيسى/ " فَلأُقْسِمُ " بلامٍ واحدةٍ . قلت : وفي هذه القراءةِ تخريجان أحدُهما : أنَّ اللامَ لامُ الابتداءِ ، وبعدَها مبتدأٌ محذوفٌ ، والفعلُ خبرُه ، فلمَّا حُذِفَ المبتدأُ اتصلَتْ اللامُ بخبرِه وتقديرُه : فلأَنا أٌقْسِمُ نحو : لَزيدٌ منطلقٌ ، قاله الزمخشري وابن جني . والثاني : أنها لامُ القسمِ دخَلَتْ على الفعل الحالي . ويجوز أَنْ يكونَ القسم جواباً للقسمِ كقوله : { وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا } [ التوبة : 107 ] فنفسُ " ليَحْلِفُنَّ " قسمٌ جوابُه " إنْ أرَدْنَا " وهو جوابٌ لقسمٍ مقدرٍ ، كذلك هذا ، وهو قولُ الكوفيين : يُجيزون أَنْ يُقْسَم على فعلِ الحالِ . البصريُّون يَأْبَوْنه ويُخَرِّجون ما يُوهم ذلك على إضمار مبتدأ فيعود القسم على جملةٍ اسمية . ومنع الزمخشري أن تكونَ لامَ القسمِ قال : " لأمرَيْن ، أحدهما : أنَّ حَقَّها أَنْ تُقْرَنَ بالنونِ المؤكدةِ ، والإِخلالُ بها ضعيفٌ قبيحٌ . والثاني : أنَّ لأفعلنَّ في جواب القسم للاستقبالِ ، وفعلُ القسمِ يجب أَنْ يكونَ للحال " وهذا كما تقدَّم أنه يرى مذهبَ البَصرْيين ، ومعنى قولِه : " وفعلُ القَسَمِ يجبُ أنْ يكونَ للحال " يعني أنَّ فِعْلَ القسمِ إنشاءٌ والإِنشاءُ حالٌ . وإمَّا قولُه : " أَنْ يُقْرن بها النونُ " هذا مذهبُ البصريين . وأمَّا الكوفيون فيجيزون التعاقبَ بين اللام والنونِ نحو : واللَّهِ لأَضْرِبُ زيداً كقولِه :

لَئِن تَكُ قد ضاقَتْ عليكم بيوتُكمْ *** لَيَعْلَمُ ربِّي أنَّ بيتيَ واسعُ

وواللَّهِ اضربَنَّ زيداً كقولِه :

وقتيلُ مُرَّةَ أَثْأَرَنَّ . . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقد تقدَّم قريبٌ من هذه الآية في قولِه تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ } [ النساء : 65 ] ولكن هناك ما لا يُمْكن القولُ به هنا كما أنَّ هنا ما لا يمكن القولُ به هناك ، وسيأتي قريبٌ منه في القيامةِ في قراءةِ ابن كثير { لأُقْسِمُ بيوم القيامة } [ القيامة : 1 ] .

وقرأ العامَّة " بمواقِع " جمعاً ، والأخَوان " بموقع " مفرداً بمعنى الجمع لأنَّه مصدرٌ فوُحِّدَ ، ومواقعُها : مَساقِطُها ومَغارِبُها .

وقيل : سُقوطُها يوم تَنْكَدِرُ . وقيل : النجومُ للقرآن . ويؤيِّدُه " وإنَّه لَقَسَمٌ " ، و { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } والمُقْسَمُ عليه قولُه : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } وعلى هذا فيكونُ في الكلام اعتراضان ، أحدُهما : الاعتراضُ بقوله : " وإنه لَقَسَمٌ " بين القسمِ والمُقْسَم عليه ، والثاني : الاعتراضُ بقولِه : " لو تعلمون " بين الصفةِ والموصوفِ . وأبى ابنُ عطية أَنْ يُجْعَلَ قولُه : " وإنَّه لَقَسَمٌ " اعتراضاً فقال : " وإنه لَقَسَمٌ " تأكيدٌ للأمرِ وتنبيهُ المُقْسَم به ، وليس هذا باعتراضٍ بين الكلامَيْن ، بل هذا معنىً قُصِدَ التَّهَمُّمُ به ، وإنما الاعتراضُ قولُه : " لو تعلمون " قلت : وكونُه تأكيداً ومُنَبِّهاً على تعظيمِ المُقْسَمِ به لا يُنافي الاعتراضَ بل هذا معنى الاعتراضِ وفائدتُه .