مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَإِنَّهُۥ لَقَسَمٞ لَّوۡ تَعۡلَمُونَ عَظِيمٌ} (76)

ثم قال تعالى : { وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } والضمير عائد إلى القسم الذي يتضمنه قوله تعالى : { فلا أقسم } فإنه يتضمن ذكر المصدر ، ولهذا توصف المصادر التي لم تظهر بعد الفعل ، فيقال : ضربته قويا ، وفيه مسائل نحوية ومعنوية ، أما النحوية :

المسألة الأولى : هو أن يقال : جواب { لو تعلمون } ماذا ، وربما يقول بعض من لا يعلم : إن جوابه ما تقدم وهو فاسد في جميع المواضع ، لأن جواب الشرط لا يتقدم ، وذلك لأن عمل الحروف في معمولاتها لا يكون قبل وجودها ، فلا يقال : زيدا إن قام ولا غيره من الحروف والسر فيه أن عمل الحروف مشبه بعمل المعاني ، ويميز بين الفاعل والمفعول وغيرهما ، فإذا كان العامل معنى لا موضع له في الحس فيعلم تقدمه وتأخر مدرك بالحس ، جاز أن يقال : قائما ضربت زيد ، أو ضربا شديدا ضربته ، وأما الحروف فلها تقدم وتأخر مدرك بالحس فلم يمكن بعد علمنا بتأخرها فرض وجودها متقدمة بخلاف المعاني ، إذا ثبت هذا فنقول ؟ عمل حرف الشرط في المعنى إخراج كل واحدة من الجملتين عن كونها جملة مستقلة ، فإذا قلت : من ، وأن ، لا يمكن إخراج الجملة الأولى عن كونها جملة بعد وقوعها جمل ، ليعلم أن حرفها أضعف من عمل المعنى لتوقفه على عمله مع أن المعنى أمكن فرضه متقدما ومتأخرا ، وعمل الأفعال عمل معنوي ، وعمل الحروف عمل مشبه بالمعنى ، إذا ثبت هذا فنقول في قوله تعالى : { ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى } قال بعض الوعاظ متعلق بلولا ، فلا يكون الهم وقع منه ، وهو باطل لما ذكرنا ، وهنا أدخل في البطلان ، لأن المتقدم لا يصلح جزاء للمتأخر ، فإن من قال : لو تعلمون إن زيدا لقائم ، لم يأت بالعربية ، إذا تبين هذا فالقول يحتمل وجهين ( أحدهما ) أن يقال : الجواب محذوف بالكلية لم يقصد بذلك جواب ، وإنما يراد نفي ما دخلت عليه لو ، وكأنه قال : وإنه لقسم لا تعلمون ، وتحقيقه أن لو تذكر لامتناع الشيء لامتناع غيره ، فلا بد من انتفاء الأول ، فإدخال لو على تعلمون أفادنا أن علمهم منتف ، سواء علمنا الجواب أو لم نعلم ، وهو كقولهم في الفعل المتعدي فلان يعطى ويمنع ، حيث لا يقصد به مفعول ، وإنما يراد إثبات القدرة ، وعلى هذا إن قيل : فما فائدة العدول إلى غير الحقيقة ، وترك قوله : إنه لقسم ولا تعلمون ؟ فنقول : فائدته تأكيد النفي ، لأن من قال : لو تعلمون كان ذلك دعوى منه ، فإذا طولب وقيل : لم قلت إنا لا نعلم يقول : لو تعلمون لفعلتم كذا ، فإذا قال في ابتداء الأمر : لا تعلمون كان مريدا للنفي ، فكأنه قال : أقول : إنكم لا تعلمون قولا من غير تعلق بدليل وسبب ( وثانيهما ) أن يكون له جواب تقديره : لو تعلمون لعظمتموه لكنكم ما عظمتموه ، فعلم أنكم لا تعلمون ، إذ لو تعلمون لعظم في أعينكم ، ولا تعظيم فلا تعلمون .

المسألة الثانية : إن قيل قوله : { لو تعلمون } هل له مفعول أم لا ؟ قلنا : على الوجه الأول لا مفعول له ، كما في قولهم : فلان يعطي ويمنع ، وكأنه قال : لا علم لكم ، ويحتمل أن يقال : لا علم لكم بعظم القسم ، فيكون له مفعول ، والأول أبلغ وأدخل في الحسن ، لأنهم لا يعلمون شيئا أصلا لأنهم لو علموا لكان أولى الأشياء بالعلم هذه الأمور الظاهرة بالبراهين القاطعة ، فهو كقوله : { صم بكم } وقوله : { كالأنعام بل هم أضل } وعلى الثاني أيضا يحتمل وجهين ( أحدهما ) لو كان لكم علم بالقسم لعظمتموه ( وثانيهما ) لو كان لكم علم بعظمته لعظمتموه .

المسألة الثالثة : كيف تعلق قوله تعالى : { لو تعلمون } بما قبله وما بعده ؟ فنقول : هو كلام اعتراض في أثناء الكلام تقديره : وإنه لقسم عظيم لو تعلمون لصدقتم ، فإن قيل : فما فائدة الاعتراض ؟ نقول : الاهتمام بقطع اعتراض المعترض ، لأنه لما قال : { وإنه لقسم } أراد أن يصفه بالعظمة بقوله : عظيم والكفار كانوا يجهلون ذلك ويدعون العلم بأمور النجم ، وكانوا يقولون : لو كان كذلك فما باله لا يحصل لنا علم وظن ، فقال : ( لو تعلمون ) لحصل لكم القطع ، وعلى ما ذكرنا الأمر أظهر من هذا ، وذلك لأنا قلنا : إن قوله : { لا أقسم } معناه الأمر واضح من أن يصدق بيمين ، والكفار كانوا يقولون : أين الظهور ونحن نقطع بعدمه ، فقال : لو تعلمون شيئا لما كان كذلك ، والأظهر منه أنا بينا أن كل ما جعله الله قسما فهو في نفسه دليل على المطلوب وأخرجه مخرج القسم ، فقوله : { وإنه لقسم } معناه عند التحقيق ، وإنه دليل وبرهان قوي لو تعلمون وجهه لاعترفتم بمدلوله ، وهو التوحيد والقدرة على الحشر ، وذلك لأن دلالة اختصاص الكواكب بمواضعها في غاية الظهور ولا يلزم الفلاسفة دليل أظهر منه ، وأما المعنوية :

المسألة الأولى : ما المقسم عليه ؟ نقول : فيه وجهان ( الأول ) القرآن كانوا يجعلونه تارة شعرا وأخرى سحرا وغير ذلك ( وثانيهما ) هو التوحيد والحشر وهو أظهر ، وقوله : { لقرآن } ابتداء كلام وسنبين ذلك .

المسألة الثانية : ما الفائدة في وصفه بالعظيم في قوله : { وإنه لقسم } فنقول : لما قال : { فلا أقسم } وكان معناه : لا أقسم بهذا لوضوح المقسم به عليه . قال : لست تاركا للقسم بهذا ، لأنه ليس بقسم أو ليس بقسم عظيم ، بل هو قسم عظيم ولا أقسم به ، بل بأعظم منه أقسم لجزمي بالأمر وعلمي بحقيقته .

المسألة الثالثة : اليمين في أكثر الأمر توصف بالمغلظة ، والعظم يقال : في المقسم حلف فلان بالأيمان العظام ، ثم تقول في حقه يمين مغلظة لأن آثامها كبيرة . وأما في حق الله عز وجل فبالعظيم وذلك هو المناسب ، لأن معناه هو الذي قرب قوله من كل قلب وملأ الصدر بالرعب لما بينا أن معنى العظيم فيه ذلك ، كما أن الجسم العظيم هو الذي قرب من أشياء عظيمة وملأ أماكن كثيرة من العظم ، كذلك العظيم الذي ليس بجسم قرب من أمور كثيرة ، وملأ صدورا كثيرة .