قوله تعالى : { الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية } . روي عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، كانت عنده أربعة دراهم لا يملك غيرها ، فتصدق بدرهم ليلاً ، وبدرهم نهاراً ، وبدرهم سراً وبدرهم علانية .
وعن الضحاك ، عن ابن عباس رضي الله عنهم قال : لما نزلت ( للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله ) بعث عبد الرحمن بن عوف بدنانير كثيرة إلى أصحاب الصفة ، وبعث على بن أبي طالب رضي الله عنه في جوف الليل بوسق من تمر فأنزل الله تعالى فيهما ( الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار ) الآية . عنى بالنهار علانية : صدقة عبد الرحمن بن عوف ، وبالليل سراً : صدقة علي رضي الله عنه وقال أبو أمامة ، وأبو الدرداء ومكحول والأوزاعي : نزلت في الذين يرتبطون الخيل للجهاد ، فإنها تعتلف ليلاً ونهاراً سراً وعلانية .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا علي بن جعفر ، أخبرنا ابن المبارك ، أخبرنا طلحة بن أبي سعيد قال : أسمعت سعيد المقبري يحدث أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول : قال النبي صلى الله عليه وسلم " من احتبس فرساً في سبيل الله ، إيماناً بالله وتصديقاً بوعده ، فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة " .
قوله تعالى : { فلهم أجرهم عند ربهم } . قال الأخفش : جعل جواب الخبر بالفاء ، لأن " الذين " بمعنى " من " وجواب " من " بالفاء في الخبر ، أو معنى الآية : من أنفق كذا فله أجره عند ربه { ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } .
وأخيرا يختم دستور الصدقة في هذا الدرس بنص عام يشمل كل طرائق الإنفاق ، وكل أوقات الإنفاق ؛ وبحكم عام يشمل كل منفق لوجه الله :
( الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار ، سرا وعلانية ، فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) . .
ويبدو التناسق في هذا الختام في عموم النصوص وشمولها ، سواء في صدر الآية أم في ختامها . وكأنما هي الإيقاع الأخير الشامل القصير . .
هكذا بوجه عام يشمل جميع أنواع الأموال . .
( بالليل والنهار . سرا وعلانية ) . .
لتشمل جميع الأوقات وجميع الحالات . .
هكذا إطلاقا . من مضاعفة المال . وبركة العمر . وجزاء الآخرة . ورضوان الله .
( ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) . .
لا خوف من أي مخوف ، ولا حزن من أي محزن . . في الدنيا وفي الآخرة سواء . .
إنه التناسق في ختام الدستور القويم يوحي بذلك الشمول والتعميم . .
{ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللّيْلِ وَالنّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }
حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا معتمر ، عن أيمن بن نابل ، قال : حدثني شيخ من غافق : أن أبا الدرداء كان ينظر إلى الخيل مربوطة بين البراذين والهجن ، فيقول : أهل هذه يعني الخيل من الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرّا وعلانية ، فلهم أجرهم عند ربهم ، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
وقال آخرون : عنى بذلك قوما أنفقوا في سبيل الله في غير إسراف ولا تقتير . ذكر من قال ذلك :
حدثني بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { الّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ } إلى قوله : { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } هؤلاء أهل الجنة¹ ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «المُكْثِرُونَ هم الأسْفَلُونَ » . قالوا : يا نبيّ الله إلاّ مَنْ ؟ قال : «المُكْثِرُونَ هُمْ الأسْفَلُونَ » ، قالوا : يا نبيّ الله إلا مَن ؟ حتى خشوا أن تكون قد مضت فليس لها ردّ ، حتى قال : «إِلاّ مَنْ قَالَ بالمَالِ هَكَذَا وَهَكَذَا » عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمالِهِ ، «وَهَكَذَا » بين يَدَيْهِ «وَهَكَذَا » خَلْفَهُ ، «وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ، هَولاءِ قَوْمٌ أنْفَقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّتِي افْتَرَضَ وَارْتَضَى فِي غَيْرِ سَرَفٍ وَلا إِمْلاقٍ وَلا تَبْذِيرٍ وَلاَ فَسَادٍ » .
وقد قيل : إن هذه الاَيات من قوله : { إِنْ تُبْدُوا الصّدَقَاتِ فَنِعِمّا هِيَ } إلى قوله : { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } كان مما يعمل به قبل نزول ما في سورة براءة من تفصيل الزكوات ، فلما نزلت براءة قصروا عليها . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { إِنْ تُبْدُوا الصّدَقَاتِ فَنِعِمّا هِيَ } إلى قوله : { وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِم وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } فكان هذا يعمل به قبل أن تنزل براءة ، فلما نزلت براءة بفرائض الصدقات وتفصيلها انتهت الصدقات إليها .
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 274 )
قال عبد الله بن عباس : نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب رضي الله عنه كانت له أربعة دراهم فتصدق بدرهم ليلاً وبدرهم نهاراً وبدرهم سراً وبدرهم علانية( {[2701]} ) ، وقال ابن جريج : نزلت في رجل فعل ذلك ولم يسم علياً ولا غيره ، وقال ابن عباس أيضاً نزلت هذه الآية في علف الخيل( {[2702]} ) ، وقاله عبد الله بن بشر الغافقي وأبو ذر وأبو أمامة والأوزاعي وأبو الدرداء قالوا : هي في علف الخيل والمرتبطة في السبيل ، وقال قتادة هذه الآية في المنفقين في سبيل الله من غير تبذير ولا تقتير .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : والآية وإن كانت نزلت في علي رضي الله عنه ، فمعناها يتناول كل من فعل فعله وكل مشاء بصدقته في الظلم إلى مظنة ذي الحاجة( {[2703]} ) وأما علف الخيل والنفقة عليها فإن ألفاظ الآية تتناولها تناولاً محكماً ، وكذلك المنفق في الجهاد المباشر له إنما يجيء إنفاقه على رتب الآية . وقال ابن عباس رضي الله عنه : كان المؤمنون يعملون بهذه الآية من قوله : { إن تبدوا الصدقات } [ البقرة : 271 ] إلى قوله : { ولا هم يحزنون } [ البقرة : 274 ] فلما نزلت براءة بتفصيل الزكاة قصروا عليها ، وقد تقدم القول على نفي الخوف والحزن ، والفاء في قوله : { فلهم } دخلت لما في { الذين } من الإبهام ، فهو يشبه بإبهامه الإبهام الذي في الشرط . فحسنت الفاء في جوابه كما تحسن في الشرط ، وإنما يوجد الشبه إذا كان الذي موصولاً بفعل( {[2704]} ) وإذا لم يدخل على { الذي } عامل يغير معناه ، فإن قلت : الذي أبوه زيد هو عمرو فلا تحسن الفاء في قولك فهو ، بل تلبس المعنى ، وإذا قلت ليت الذي جاءك جاءني لم يكن للفاء مدخل في المعنى ، وهذه الفاء المذكورة إنما تجيء مؤكدة للمعنى ، وقد يستغنى عنها إذا لم يقصد التأكيد كقوله بعد : { لا يقومون } .