مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُم بِٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ} (274)

قوله تعالى { الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : في كيفية النظم أقوال الأول : لما بين في هذه الآية المتقدمة أن أكمل من تصرف إليه النفقة من هو بين في هذه الآية أن أكمل وجوه الإنفاق كيف هو ، فقال : { الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم } والثاني : أنه تعالى ذكر هذه الآية لتأكيد ما تقدم من قوله { إن تبدوا الصدقات فنعما هي } [ البقرة : 271 ] والثالث : أن هذه الآية آخر الآيات المذكورة في أحكام الإنفاق ، فلا جرم أرشد الخلق إلى أكمل وجوه الإنفاقات .

المسألة الثانية : في سبب النزول وجوه الأول : لما نزل قوله تعالى : { للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله } بعث عبد الرحمن بن عوف إلى أصحاب الصفة بدنانير ، وبعث علي رضي الله عنه بوسق من تمر ليلا ، فكان أحب الصدقتين إلى الله تعالى صدقته ، فنزلت هذه الآية فصدقة الليل كانت أكمل والثاني : قال ابن عباس : إن عليا عليه السلام ما كان يملك غير أربعة دراهم ، فتصدق بدرهم ليلا ، وبدرهم نهارا ، وبدرهم سرا ، وبدرهم علانية ، فقال صلى الله عليه وسلم : " ما حملك على هذا ؟ فقال : أن استوجب ما وعدني ربي ، فقال : لك ذلك " فأنزل الله تعالى هذه الآية والثالث : قال صاحب «الكشاف » : نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين تصدق بأربعين ألف دينار : عشرة بالليل ، وعشرة بالنهار ، وعشرة في السر ، وعشرة في العلانية والرابع : نزلت في علف الخيل وارتباطها في سبيل الله ، فكان أبو هريرة إذا مر بفرس سمين قرأ هذه الآية الخامس : أن الآية عامة في الذين يعمون الأوقات والأحوال بالصدقة تحرضهم على الخير ، فكلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها ولم يؤخروها ولم يعلقوها بوقت ولا حال ، وهذا هو أحسن الوجوه ، لأن هذا آخر الآيات المذكورة في بيان حكم الإنفاقات فلا جرم ذكر فيها أكمل وجوه الإنفاقات ، والله أعلم .

المسألة الثالثة : قال الزجاج { الذين } رفع بالابتداء وجاز أن تكون الفاء من قوله { فلهم } جواب الذين لأنها تأتي بمعنى الشرط والجزاء ، فكان التقدير : من أنفق فلا يضيع أجره ، وتقديره أنه لو قال : الذي أكرمني له درهم لم يفد أن الدرهم بسبب الإكرام ، أما لو قال : الذي أكرمني فله درهم يفيد أن الدرهم بسبب الإكرام ، فههنا الفاء دلت على أن حصول الأجر إنما كان بسبب الإنفاق ، والله أعلم .

المسألة الرابعة : في الآية إشارة إلى أن صدقة السر أفضل من صدقة العلانية ، وذلك لأنه قدم الليل على النهار ، والسر على العلانية في الذكر .

ثم قال في خاتمة الآية { فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } والمعنى معلوم وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : أنها تدل على أن أهل الثواب لا خوف عليهم يوم القيامة ، ويتأكد ذلك بقوله تعالى : { لا يحزنهم الفزع الأكبر } [ الأنبياء : 103 ] .

المسألة الثانية : أن هذا مشروط عند الكل بأن لا يحصل عقيبه الكفر ، وعند المعتزلة أن لا يحصل عقيبه كبيرة محبطة ، وقد أحكمنا هذه المسألة ، وههنا آخر الآيات المذكورة في بيان أحكام الإنفاق .

الحكم الثاني : من الأحكام الشرعية المذكورة في هذا الموضع من هذه السورة حكم الربا :