اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُم بِٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ} (274)

قوله : { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ } : مبتدأٌ ، وخبره الجملة من قوله : { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } ودخلت الفاء ؛ لما تضمَّنه الموصول من معنى الشرط . وقال ابن عطية رحمه الله : " وإنما يوجد الشَّبه - يعني بين الموصول ، واسم الشرط - إذا كان الموصول موصولاً بفعل ، وإذا لم يدخل على الموصول عاملٌ يغيِّر معناه " . قال أبو حيَّان{[4679]} - رحمه الله - : " فَحَصر الشَّبه فيما إذا كان " الَّذِي " موصولاً بفعل ، وهذا كلامٌ غير محرَّرٍ ، أمَّا قوله : " الَّذِي " فلا يختصُّ ذلك ب " الذي " ، بل كلُّ ما كان موصولاً غير الألف واللام ، حكمه حكم الذي " بلا خلافٍ ، وفي الألف واللام خلاف ، ومذهب سيبويه{[4680]} المنع من دخول الفاء .

الثاني : قوله " مَوْصولاً بفعل " فأطلق الفعل واقتصر عليه ، وليس كذلك ، بل شرط الفعل أن يصلح لمباشرة أداة الشرط ، فلو قلت : الذي سَيَأْتِيني ، أو لمَّا يأتيني ، أو ما يأتيني ، أو ليس يأتيني - فله درهمٌ - لم يجز شيءٌ من ذلك ؛ لأنَّ أداة الشرط لا يصلح أن تدخل على شيءٍ من ذلك ، وأمَّا الاقتصار على الفعل ، فليس كذلك ؛ بل الظرف والجارُّ والمجرور في الوصل كذلك ، متى كان شيءٌ منهما صلةً لموصول ، جاز دخول الفاء .

وقوله : " وَإِذَا لَمْ يَدْخُلْ على " الَّذي " عاملٌ يغيِّر معناه " عبارةٌ غير ملخَّصةٍ ؛ لأن العامل لا يغيِّر معنى الموصول ، إنما يغيِّر معنى الابتداء ، بأن يصيِّره تمنِّياً ، أو ترجِّياً ، أو ظناً ، نحو : لعل الذي يأتضيني ، أو ليت الذي يأتيني ، أو ظننت الذي يأتيني - فله درهمٌ ، لا يجوز دخول الفاء لتغيُّر معنى الابتداء .

وكان ينبغي له - أيضاً - أن يقول : " بِشَرْطِ أَنْ يكونَ الخبرُ مستحِقاً بالصلةِ ؛ كالآية الكريمة ؛ لأنَّ ترتُّبَ الأجرِ إنما هو على الإِنْفاقِ " .

وقول الشيخ أيضاً : " بل كلُّ مَوْصُولٍ " ليس الحكم - أيضاً - مقتصراً على كلِّ موصولٍ ، بل كلُّ نكرةٍ موصوفةٍ بما يجوز أن يكون صلةً مجوِّزةً لدخول الفاء ، أو ما أُضيف إلى تلك النكرة ، أو إلى ذلك الموصول ، أو الموصوف بالموصول - حكمه كذلك . وقد تقدمت المسألة .

فصل في بيان سبب النُّزول

في سبب النزول وجوه :

الأول : لما نزل قوله تعالى : { لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ } [ البقرة :273 ] ، بعث عبد الرَّحمن بن عوف بدنانير كثيرةٍ إلى أصحاب الصُّفة ، وبعث عليٌّ - كرم الله وجهه - بوسق تمرٍ ليلاً ؛ فكان أحبَّ الصَّدقتين إلى الله تعالى ، صدقه عليٍّ ؛ فنزلت الآية .

وقدَّم الله تعالى ذكر الليل ؛ ليعرف أنَّ صدقة اللَّيل كانت أكمل ، رواه الضَّحَّاك ، عن ابن عبَّاسٍ{[4681]} .

الثاني : روى مجاهدٌ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : نزلت هذه الآية في عليٍّ - رضي الله عنه - كان عنده أربعة دراهم ، لا يملك غيرها ، فتصدق بدرهم ليلاً وبدرهم نهاراً ، وبدرهم سرّاً وبدرهم علانيةً ؛ فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : " مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا ؟ " فقال : أن أستوجب ما وعدني ربِّي ، فقال : " لَكَ ذَلِكَ{[4682]} " .

الثالث : قال الزَّمخشريُّ نزلن في أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - حين تصدَّق بأربعين ألف دينار : عشرةٌ باللَّيل ، وعشرةٌ بالنهار ، وعشرةٌ في السِّرِّ ، وعشرة في العلانية .

الرابع : قال أبو أمامة ، وأبو الدَّرداء ، ومكحولٌ ، والأوزاعي : نزلت هذه الآية الكريمة في الذين يربطون الخيل للجهاد ؛ فإنها تعتلف ليلاً ونهاراً ، وسراً وعلانية ، فكان أبو هريرة - رضي الله عنه - إذا مرَّ بفرسٍ سمين ، قرأ هذه الآية{[4683]} .

وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " مَنِ احْتَبَسَ فَرَساً فِي سَبِيلِ اللهِ إيمَاناً ، وتَصْدِيقاً بوعدِهِ ، فإنَّ شِبَعَهُ وريَّه ورَوْثَهُ ، وبَوْلَهُ في ميزانِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ{[4684]} " .

الخامس : أن الآية الكريمة عامةٌ في الذين يعمون الأوقات ، والأحوال بالصدقة ، تحريضاً لهم على الخير .

وفي الآية إشارة إلى أن صدقة السِّرِّ أفضل ؛ لأنه قدم اللَّيل على النهار ، والسر على العلانية في الذكر ، وتقدم نظير هذه الآية ؛ ومدلولها ، وهو مشروطٌ عند الكل بألاَّ يحصل عقيبه الكفر ، وعند المعتزلة ألاَّ يحصل عقيبه كبيرةٌ محبطةٌ .


[4679]:- ينظر: البحر المحيط 2/344-345.
[4680]:- ينظر الكتاب 1/72-73.
[4681]:- انظر: تفسير الفخر الرازي (7/73) و"البحر المحيط" (2/334) لأبي حيان.
[4682]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (5/596) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/642) وزاد نسبته لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عساكر من طريق عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس وانظر غرائب النيسابوري (3/74) وأسباب النزول للواحدي (64) وفتح القدير (1/294).
[4683]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (5/596) عن أبي الدرداء وأخرجه ابن عساكر عن أبي أمامة الباهلي كما في "الدر المنثور" (1/641). وأخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والواحدي من طريق حنش الصنعاني عن ابن عباس كما في "الدر المنثور" (1/641). وانظر تفسير ابن كثير (1/482) والقرطبي (3/224).
[4684]:- أخرجه البخاري (4/90) كتاب الجهاد والسير باب الجهاد ماض-الخ رقم (2853) والنسائي (6/225) وأحمد (2/374) والحاكم (2/92) والبغوي في "تفسيره" (1/296) وفي "شرح السنة" (10/388) والبيهقي (10/16) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/274).