وقوله : ( ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ) أي : إنه بعد خلقه له ( أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ) أي : جعله ذا قبر . والعرب تقول : " قبرت الرجل " : إذا ولى ذلك منه ، وأقبره الله . وعضبت قرن الثور ، وأعضبه الله ، وبترت ذنب البعير وأبتره الله . وطردت عني فلانا ، وأطرده الله ، أي : جعله طريدا قال الأعشى :
لَو أسْنَدَتْ مَيتًا إلى نَحْرها{[29704]} *** عَاش ، وَلم يُنقَل إلى قَابِر{[29705]}
وكذلك عطف { ثم أماته } على { يسره } بحرف التراخي هو لتراخي الرتبة فإن انقراض تلك القُوى العقلية والحسيّة بالموت ، بعد أن كانت راسخة زمناً ما ، انقراض عجيب دون تدريج ولا انتظارِ زماننٍ يساوي مدة بقائها ، وهذا إدماج للدلالة على عظيم القدرة .
ومن المعلوم بالضرورة أن الكثير الذي لا يُحصى من أفراد النوع الإنساني قد صار أمره إلى الموت وأن من هو حيّ آيل إلى الموت لا محالة ، فالمعنى : ثم أماته ويُميته .
فصيغة المضي في قوله : { أماته } مستعملة في حقيقته وهو موت من مات ، ومجازِه وهو موت من سيموتون ، لأن موتهم في المستقبل محقق . وذكر جملة : { ثم أماته } توطئة وتمهيد لجملة { فأقبره } .
وإسناد الإماتة إلى الله تعالى حقيقة عقلية بحسب عرف الاستعمال . وهذا إدماج للامتنان في خلال الاستدلال كما أدمج : { فقدره ثم السبيل يسره } فيما سبق .
و { أقبره } جعله ذا قبر ، وهو أخص من معنى قَبَره ، أي أن الله سَبّب له أن يقبر . قال الفراء : « أي جعله مقبوراً ، ولم يجعله ممن يُلقى للطير والسباع ولا ممن يلقى في النواويس » ( جمع ناووس صندوق من حجر أو خشب يوضع فيه الميت ويجعل في بيت أو نحوه ) .
والإِقبار : تهيئة القبر ، ويقال : أقبره أيضاً ، إذا أمر بأن يُقبر ، ويقال : قبر المَيت ، إذا دفنه ، فالمعنى : أن الله جعل الناس ذوي قبور .
وإسناد الإِقبار إلى الله تعالى مجاز عقلي لأن الله ألهم الناس الدَّفن كما في قصة دفن أحد ابني آدم أخاه بإلهام تقليده لفعل غراب حفر لغراب آخر ميتتٍ حفرةً فواراه فيها ، وهي في سورة العقود ، فأسند الإِقبار إلى الله لأنه ألهم الناس إياه . وأكد ذلك بما أمر في شرائعه من وجوب دفن المَيت .
والقول في أن صيغة المضي مستعملة في حقيقتها ومجازها نظير القول في صيغة { أماته } .
وهذه كلها دلائل على عظيم قدرة الله تعالى وهم عَدوها قاصرة على الخلق الثاني ، وهي تتضمن منناً على الناس في خلقهم وتسويتهم وإكمال قواهم أحياء ، وإكرامهم أمواتاً بالدفن لئلا يكون الإنسان كالشيء اللّقي يجتنب بنو جنسه القرب منه ويهينه التقام السباع وتمزيق مخالب الطير والكلاب ، فمحل المنة في قوله : { ثم أماته } هو فيما فرع عليه بالفاء بقوله : { فأقبره } وليست الإِماتة وحدها منة .
وفي الآية دليل على أن وجوب دفن أموات الناس بالإِقبار دون الحرق بالنار كما يفعل مجوس الهند ، ودون الإِلقاء لسباع الطير في ساحات في الجبال محوطة بجدران دون سقف كما كان يفعله مجوس الفرس وكما كان يفعله أهل الجاهلية بموتى الحروب والغارات في الفيافي إذ لا يوارونهم بالتراب وكانوا يفتخرون بذلك ويتمنونه قال الشنفَرَى :
لا تقبروني إن قبري محرَّم *** عليكم ولكن أبشري أمَّ عامر
يريد أن تأكله الضبع ، وأبطل الإسلام ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم دفَن شهداء المسلمين يوم أحد في قبور مشتركة ، ووارَى قتلى المشركين ببدر في قليب ، قال عمرو بن معديكرب قبل الإِسلام :
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ثم قَبَضَ رُوحه، فأماته بعد ذلك. يعني بقوله:"أقْبَرَهُ": صيره ذا قبر، والقابر: هو الدافن المَيْتَ بيده... والمُقْبِر: هو الله، الذي أمر عباده أن يقبروه بعد وفاته، فصيره ذا قبر...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ففي ذكر هذا ذكر النعم، وهو أن الله تعالى جعل لما يخبث، ويتغير، كنا يكن فيه، فيستره عن الخلق لئلا يعافوه، ويستقذروه، ولم يجعل ذلك لغيرهم، وجعل لأنفسهم، إذا هي تغيرت بالموت، وصارت بحيث تستخبث، وتستقذر، كنا تستر فيه لتغيب عن الخلق، فلا يتأذوا بها، فذكرهم هذا ليشكروا...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَأَقْبَرَهُ} فجعله ذا قبر يوارى فيه تكرمة له، ولم يجعله مطروحاً على وجه الأرض جزراً للسباع والطير كسائر الحيوان. يقال: قبر الميت إذا دفنه. وأقبره الميت. إذا أمره أن يقبره ومكنه منه.
وأما المرتبة الثالثة: وهي المرتبة الأخيرة، فهي قوله تعالى: {ثم أماته فأقبره}، واعلم أن هذه المرتبة الثالثة مشتملة أيضا على ثلاث مراتب، الإماتة، والإقبار، والإنشار، أما الإماتة فقد ذكرنا منافعها في هذا الكتاب، ولا شك أنها هي الواسطة بين حال التكليف والمجازاة،...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولذلك عقبه بقوله عاداً الموت من النعم لأنه لو دام الإنسان حياً مع ما يصل إليه من الضعف والخرف لكان في غاية البشاعة والشماتة لأعدائه والمساءة لأوليائه على أن الموت سبب الحياة الأبدية: {ثم} أي بعد أمور قدرها سبحانه من أجل وتقلبات {أماته} وأشار إلى إيجاب المبادرة إلى التجهيز بالفاء المعقبة في قوله {فأقبره} أي جعل له قبراً فغيبه فيه- وأمر بدفنه تكرمة له وصيانة عن السباع، والإقبار جعلك للميت قبراً وإعطاؤك القتيل لأهله ليدفنوه، والمعنى الامتنان بأنه جعل للإنسان موضعاً يصلح لدفنه وجعله بعد الموت بحيث يتمكن من دفنه، ولو شاء لجعله يتفتت مع النتن ونحوه مما يمنع من قربانه، أو جعله بحيث يتهاون به فلا يدفن كبقية الحيوانات...
وذلك موجب لأن يشكره لا أن يكفره...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
حتى إذا انتهت الرحلة، صار إلى النهاية التي يصير إليها كل حي. بلا اختيار ولا فرار... فأمره في نهايته كأمره في بدايته، في يد الذي أخرجه إلى الحياة حين شاء، وأنهى حياته حين شاء، وجعل مثواه جوف الأرض، كرامة له ورعاية، ولم يجعل السنة أن يترك على ظهرها للجوارح والكواسر. وأودع فطرته الحرص على مواراة ميته وقبره. فكان هذا طرفا من تدبيره له وتقديره...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وكذلك عطف {ثم أماته} على {يسره} بحرف التراخي هو لتراخي الرتبة فإن انقراض تلك القُوى العقلية والحسيّة بالموت، بعد أن كانت راسخة زمناً ما، انقراض عجيب دون تدريج ولا انتظارِ زمانٍ يساوي مدة بقائها، وهذا إدماج للدلالة على عظيم القدرة. ومن المعلوم بالضرورة أن الكثير الذي لا يُحصى من أفراد النوع الإنساني قد صار أمره إلى الموت وأن من هو حيّ آيل إلى الموت لا محالة، فالمعنى: ثم أماته ويُميته. فصيغة المضي في قوله: {أماته} مستعملة في حقيقته وهو موت من مات، ومجازِه وهو موت من سيموتون، لأن موتهم في المستقبل محقق. وذكر جملة: {ثم أماته} توطئة وتمهيد لجملة {فأقبره}. وإسناد الإماتة إلى الله تعالى حقيقة عقلية بحسب عرف الاستعمال. وهذا إدماج للامتنان في خلال الاستدلال كما أدمج: {فقدره ثم السبيل يسره} فيما سبق. و {أقبره} جعله ذا قبر، وهو أخص من معنى قَبَره، أي أن الله سَبّب له أن يقبر...
.والقول في أن صيغة المضي مستعملة في حقيقتها ومجازها نظير القول في صيغة {أماته}. وهذه كلها دلائل على عظيم قدرة الله تعالى وهم عَدوها قاصرة على الخلق الثاني، وهي تتضمن منناً على الناس في خلقهم وتسويتهم وإكمال قواهم أحياء، وإكرامهم أمواتاً بالدفن لئلا يكون الإنسان كالشيء اللّقي يجتنب بنو جنسه القرب منه ويهينه التقام السباع وتمزيق مخالب الطير والكلاب، فمحل المنة في قوله: {ثم أماته} هو فيما فرع عليه بالفاء بقوله: {فأقبره} وليست الإِماتة وحدها منة. وفي الآية دليل على أن وجوب دفن أموات الناس بالإِقبار دون الحرق بالنار كما يفعل مجوس الهند، ودون الإِلقاء لسباع الطير في ساحات في الجبال محوطة بجدران دون سقف كما كان يفعله مجوس الفرس وكما كان يفعله أهل الجاهلية بموتى الحروب والغارات في الفيافي إذ لا يوارونهم بالتراب وكانوا يفتخرون بذلك ويتمنونه... وأبطل الإسلام ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دفَن شهداء المسلمين يوم أحد في قبور مشتركة، ووارَى قتلى المشركين ببدر في قليب...
الموت: هو انعزال عنصر الروح عن عنصر المادة، ومعنى ذلك أن الزوجية المكونة للحياة قد انفصلت عن بعضها البعض، فيحدث أن تتوفى النفس... فقبل أن تلتصق الروح بالمادة لا يقال للروح: نفس، وكذلك المادة بمفردها لا يقال لها: نفس، إذاً فالنفس هي المزيج المكون من الروح والمادة.
وعندما يريد الله أن يتوفى الأنفس فإنه يقبض الروح، فينحل هذا التركيب، وما دام قد انحل التركيب وأخذ عنصر من العنصرين وترك الآخر فتحدث الوفاة.
{ثم أماته فأقبره} إن الله عز وجل يذكر هذا الكلام في معرض المن على ذلك الإنسان الذي يتعجب من كفره حين يقول: {من أيّ شيء خلقه (18) من نطفة خلقه فقدّره (19) ثمّ السبيل يسّره (20)} [عبس]. هو قد امتن عليه بكل ذلك، فهل الموت من قبيل الامتنان؟! نعم، فقد يكون لإنسان أو لقوة ما سبب في إيجاد شيء ما، ولكنه حين يوجد ينطلق منها ولا تقدر عليه تلك القوة، كأن تهب لأحدهم نعمة من النعم –وأنت حر في إعطائك له إياها- فيكفر بك بعد ذلك؛ لعلمه أنك لن تقدر عليه بعدها، ولكن الله عز وجل يعلمنا أن الأمر معه ليس كذلك، فليس معنى أنني خلقت فيكم الحياة أن تنطلقوا مني ولا أقدر عليكم بعد ذلك، كلا، فأنا سأميتكم وسترجعون إليّ مرة أخرى، فأنا لم أخلقك من نطفة بسيطة، وأعطيتك ذلك التكوين العظيم وأنت انفلتّ من قدرتي لتنفد بنعمي وينتهي الأمر عند ذلك، فأنا مثلما وهبتك الحياة أستطيع أن أسلبك إياها، فإن كنت لم تعبدني وتؤمن بي شكراً على ما فعلت لك، فاعبدني وآمن بي خوفاً، فمن العجيب أن تكفروا وأنتم غير مدركين لنعمي، وأنني خلقتكم من كذا وكذا ويسرتكم السبيل.. فآمنوا بي؛ لأنكم سترجعون إليّ مرة ثانية.
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :
ثم أماته بدون استشارته ولا أخذ رأيه...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ومن المعلوم أنّ «الإماتة» من اللّه تعالى والدفن على ظاهره من عمل الإنسان، ولمّا كانت عملية الدفن تحتاج إلى نسبة من الذكاء والعقل بالإضافة إلى توفر بعض المستلزمات الضرورية لذلك، فقد نسب الدفن «فاقبره» إلى اللّه تعالى. وقيل: نسب اللّه ذلك إليه، باعتبار تهيئة الأرض قبراً للإنسان. قيل: تمثل الآية حكماً شرعياً، وأمراً إلهياً في دفن الأموات. وعلى أيّة حال، فالدفن من عناية ولطف وتكريم اللّه للإنسان، فلولا أمره سبحانه بالدفن لبقيت أجساد الإنسان الميتة على الأرض وتكون عرضة للتعفن والتفسخ وطعماً للحيوانات الضارية والطيور الجارحة، فيكون الإنسان والحال هذه في موضع الذّلة والمهانة، ولكنّ لطف الباري عزّ وجلّ على الإنسان في حياته وبعد مماته أوسع ممّا يلتفت فيه الإنسان لنفسه أيضاً. وحكم دفن الأموات (بعد الغسل والتكفين والصلاة)، يبيّن لنا... إنّه ينبغي على الإنسان أن يكون طاهراً محترماً في موته، فكيف به يا تُرى وهو حيّ؟! وذكر الموت في الآية باعتباره نعمة ربّانية... وبنظرة تأملية فاحصة سنجد حقيقة ذلك، فالموت في حقيقته عبارة عن: أوّلاً: مقدمة للخلاص من أتعاب وصعاب هذا العالم، والانتقال إلى عالم أوسع. ثانياً: فسح المجال لتعاقب الأجيال على الحياة الدنيا لمتابعة مشوار التكامل البشري بصورة عامّة، ولولا الموت لضاقت الأرض بأهلها، ولما كان ممكناً أنْ تستمر عجلة الحياة على الأرض. وأشارت الآيات (26 -28) من سورة الرحمن إلى نعمة الموت، بالقول: (كلّ مَن عليها فان ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام فبأيّ آلاء ربّكما تكذبان)؟! فالموت على ضوء الآية المباركة من مفردات النعم الكبيرة للباري جلّ شأنه على البشرية. نعم.. فالدنيا وجميع ما تحويه من نعم ربّانية لا تتعدى كونها سجن المؤمن، والخروج منها إطلاق سراح من هذا السجن الكئيب. وإذا كانت النعم سبباً لوقوع الإنسان في غفلة عن اللّه، فالموت خير رادع لإيقاظه وتحذيره من الوقوع في ذلك الشَرَك، فهو والحال هذه نعمة جليلة الشأن. أضف إلى ذلك كلّه أنّ الحياة لو دامت فسوف لا يجني الإنسان منها سوى الملل والتعب، فهي ليست كالآخرة التي تحمل بين ثناياها النشاط والسعادة الأبدية...