قوله تعالى : { يصهر به } أي : يذاب بالحميم ، { ما في بطونهم } يقال : صهرت الإلية والشحم بالنار إذا أذبتهما أصهرهما صهراً ، معناه يذاب بالحميم الذي يصب من فوق رؤوسهم حتى يسقط ما في بطونهم من الشحوم والأحشاء ، { والجلود } أي : يشوي حرها جلودهم فتتساقط .
أخبرنا أبو بكر بن محمد بن عبد الله الخلال ، أنبأنا عبد الله بن المبارك ، عن سعيد بن زيد ، عن أبي السمح ، عن أبي جحيرة واسمه عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه ، وهو المصهر ، ثم يعاد كما كان " .
ثبت في الصحيحين ، من{[20079]} حديث أبي مِجْلَز ، عن قيس بن عُبَاد ، عن أبي ذر ؛ أنه كان يقسم قسما أن هذه الآية : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } نزلت في حمزة وصاحِبَيه ، وعتبةَ وصاحبيه ، يوم برزوا في بدر{[20080]} .
لفظ البخاري عند تفسيرها ، ثم قال البخاري :
حدثنا الحجاج بن مِنْهَال ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، سمعت أبي ، حدثنا أبو مِجْلز عن قيس بن عُبَاد ، عن علي بن أبي طالب أنه قال : أنا أول من يَجثُو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة . قال قيس : وفيهم نزلت : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } ، قال : هم الذين بارزوا يوم بدر : عليّ وحمزة وعبيدة ، وشيبة ابن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة . انفرد به البخاري{[20081]} .
وقال سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة في قوله : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } قال : اختصم المسلمون وأهل الكتاب ، فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم ، وكتابنا قبل كتابكم . فنحن أولى بالله منكم . وقال المسلمون : كتابنا يقضي على الكتب كلها ، ونبينا خاتم الأنبياء ، فنحن أولى بالله منكم . فأفلج الله الإسلامَ على من ناوأه ، وأنزل : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } . وكذا روى العَوفي ، عن ابن عباس .
وقال شعبة ، عن قتادة في قوله : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } قال : مُصدق ومكذب .
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد في هذه الآية : مثل الكافر والمؤمن اختصما في البعث . وقال - في رواية : هو وعطاء في هذه الآية - : هم المؤمنون والكافرون .
وقال عكرمة : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } قال : هي الجنة والنار ، قالت النار : اجعلني للعقوبة ، وقالت الجنة : اجعلني للرحمة .
وقولُ مجاهد وعطاء : إن المراد بهذه الكافرون والمؤمنون ، يشمل الأقوال كلها ، وينتظم فيه قصة يوم بدر وغيرها ؛ فإن المؤمنين يريدون نصرة دين الله ، والكافرون يريدون إطفاء نور الإيمان وخذلانَ الحق وظهور الباطل . وهذا اختيار ابن جرير ، وهو حَسَن ؛ ولهذا قال : { فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ } أي : فصلت لهم مقطعات من نار .
قال سعيد بن جبير : من نحاس وهو أشد الأشياء حرارة إذا حمي .
{ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ } . { يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ } أي : إذا صب على رءوسهم الحميم ، وهو الماء الحار في غاية الحرارة .
وقال سعيد [ بن جبير ]{[20082]} هو النحاس المذاب ، أذاب ما في بطونهم من الشحم والأمعاء . قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وغيرهم . وكذلك تذوب{[20083]} جلودهم ، وقال ابن عباس وسعيد : تساقط .
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن المثنى ، حدثنا إبراهيم أبو إسحاق الطالَقاني ، حدثنا ابن المبارك عن سعيد بن زيد{[20084]} ، عن أبي السَّمْح ، عن ابن{[20085]} حُجَيرة ، عن أبي هُرَيرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الحميم ليُصَب على رءوسهم ، فينفُد الجمجمةَ حتى يخلص إلى جوفه ، فيسلت{[20086]} ما في جوفه ، حتى يبلغ قدميه ، وهو الصهر ، ثم يعاد كما كان " .
ورواه الترمذي من حديث ابن المبارك{[20087]} ، وقال : حسن صحيح . وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن أبي نعيم ، عن ابن المبارك ، به ثم قال ابن أبي حاتم :
حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أحمد بن أبي الحَوَاريّ ، سمعت عبد الله ابن السُّرِّيّ قال : يأتيه الملك يحمل الإناء بِكَلْبتين من حرارته ، فإذا أدناه من وجهه تكرهه ، قال : فيرفع مِقْمَعَة معه فيضرب
بها رأسه ، فَيُفرغ{[20088]} دماغه ، ثم يُفرغ{[20089]} الإناء من دماغه ، فيصل إلى جوفه من دماغه ، فذلك قوله : { يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ }
و { يصهر } معناه يذاب ، وقيل معناه يعصر وهذه العبارة قلقة ، وقيل معناه ينضج ومنه قول الشاعر «تصهره الشمس ولا ينصهر »{[8332]} وإنما يشبه فيمن قال يعصر .
أنه أراد الحميم يهبط كل ما يلقى في الجوف ويكشطه ويسلته ، وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يسلته ويبلغ به قدميه ويذيبه ، ثم يعاد كما كان{[8333]} ، وقرأ الجمهور «يصهر » وقرأت فرقة «يصَهّر » بفتح الضاد وشد الهاء .