ثم أخبر تعالى الناس أنهم يؤثرون { الحياة الدنيا } ، فالكفار يؤثرها إيثار كفر يرى أن لا آخرة ، والمؤمن يؤثرها إيثار معصية وغلبة نفس إلا من عصم الله ، وقرأ أبو عمرو وحده{[11757]} «يؤثرون » بالياء ، وقال : يعني الأشقين ، وهي قراءة ابن مسعود والحسن وأبي رجاء والجحدري ، وقرأ الباقون والناس : «تؤثرون » بالتاء على المخاطبة ، وفي حرف أبي بن كعب «بل أنتم تؤثرون » .
قرأ الجمهور { تؤثرون } بمثناة فوقية بصيغة الخطاب ، والخطاب موجه للمشركين بقرينة السياق وهو التفات ، وقرأه أبو عمرو وحدَه بالمثناة التحتية على طريقة الغيبة عائداً إلى { الأشقى الذي يصلى النار الكبرى } [ الأعلى : 11 ، 12 ] .
وحرف { بَل } معناه الجامع هو الإضراب ، أي انصراف القول أو الحكم إلى ما يأتي بعد { بل } ؛ فهو إذا عَطَف المفردات كان الإضراب إبطالاً للمعطوف عليه : لغلط في ذكر المعطوف أو للاحتراز عنه فذلك انصراف عن الحكم . وإذا عطفَ الجمل فعطفه عطف كلام على كلام وهو عطف لفظي مجرد عن التشريك في الحكم ويقع على وجهين ، فتارة يقصد إبطال معنى الكلام نحو قوله تعالى : { أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق } [ المؤمنون : 70 ] فهو انصراف في الحُكم ، وتارة يقصد مجرد التنقل من خبر إلى آخر مع عدم إبطال الأول نحو قوله تعالى : { ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون بل قلوبهم في غمرة من هذا } [ المؤمنون : 62 ، 63 ] . فتكون { بل } بمنزلة قولهم « دع هذا » فهذا انصراف قولي . ويعرف أحد الإضرابين بالقرائن والسياق .
و { بل } هنا عاطفة جملة عطفاً صُورياً فيجوز أن تكون لمجرد الانتقال من ذكر المنتفعين بالذكرى والمتجنبين لها ، إلى ذكر سبب إعراض المتجنبين وهم الأشْقَون بأنَّ السبب إيثارهم الحياة الدنيا ، وذلك على قراءة أبي عمرو ظاهر ، وأما على قراءة الجمهور فهو إضراب عن حكاية أحوال الفريقين بالانتقال إلى توبيخ أحد الفريقين وهو الفريق الأشقى فالخطاب موجه إليهم على طريقة الالتفات لتجديد نشاط السامع لكي لا تنقضي السورة كلها في الإخبار عنهم بطريق الغيبة .
ويجوز أن يكون الإضراب إبطالاً لما تضمنه قوله : { قد أفلح من تزكى } [ الأعلى : 14 ] من التعريض للذين شَقُوا بتحريضهم على طلب الفلاح لأنفسهم ليلتحقوا بالذين يخشون ويتزكّون ليبطل أن يكونوا مظنة تحصيل الفلاح .
والمعنى : أنهم بُعداء عن أن يظنّ بهم التنافس في طلب الفلاح لأنهم يؤثرون الحياة الدنيا ، فالمعنى : بل أنتم تؤثرون منافع الدنيا على حظوظ الآخرة ، وهذا كما يقول الناصح شخصاً يظن أنه لا ينتصح « لقد نصحتك وما أظنك تفعل » .
ويجيء فيه الوجهان المتقدمان من الخطاب والغيبة على القراءتين .
والإِيثار : اختيار شيء من بين متعدد .
والمعنى : تؤثرون الحياة الدنيا بعنايتكم واهتمامكم .
ولم يُذكر المؤثَر عليه لأن الحياة الدنيا تدل عليه ، أي لا تتأملون فيما عدَا حياتكم هذه ولا تتأمّلون في حياة ثانية ، فالمشركون لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذُكِّروا بالحياة الآخرة وأخبروا بها لم يُعيروا سمعهم ذلك وجعلوا ذلك من الكلام الباطل وهذا مورد التوبيخ .
واعلم أنّ للمؤمنين حظاً من هذه الموعظة على طول الدهر ، وذلك حظ مناسب لمقدار ما يفرِّط فيه أحدهم مما ينجيه في الآخرة إيثاراً لما يجتنيه من منافع الدنيا التي تجر إليه تَبِعةً في الآخرة على حسب ما جاءت به الشريعة ، فأما الاستكثار من منافع الدنيا مع عدم إهمال أسباب النجاة في الآخرة فذلك مَيدانٌ للهمم وليس ذلك بمحل ذم قال تعالى : { وابتغ فيما آتاك اللَّه الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا } [ القصص : 77 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.