{ 10-11 } { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ }
أي : أفلا يسير هؤلاء المكذبون بالرسول صلى الله عليه وسلم ، { فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } فإنهم لا يجدون عاقبتهم إلا شر العواقب ، فإنهم لا يلتفتون يمنة ولا يسرة إلا وجدوا ما حولهم ، قد بادوا وهلكوا ، واستأصلهم التكذيب والكفر ، فخمدوا ، ودمر الله عليهم أموالهم وديارهم ، بل دمر أعمالهم ومكرهم ، وللكافرين في كل زمان ومكان ، أمثال هذه العواقب الوخيمة ، والعقوبات الذميمة .
وأما المؤمنون ، فإن الله تعالى ينجيهم من العذاب ، ويجزل لهم كثير الثواب .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمّرَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا } .
يقول تعالى ذكره : أفلم يَسِر هؤلاء المكذّبون محمدا صلى الله عليه وسلم ، المنكرو ما أنزلنا عليه من الكتاب في الأرض سفرا ، وإنما هذا توبيخ من الله لهم ، لأنهم قد كانوا يسافرون إلى الشام ، فيرون نقمة الله التي أحلّها بأهل حَجْرِ ثمود ، ويرون في سفرهم إلى اليمن ما أحلّ الله بسَبَأ ، فقال لنبيه عليه الصلاة والسلام وللمؤمنين به : أفلم يسِر هؤلاء المشركون سفرا في البلاد فينظروا كيف كان عاقبة تكذيب الذين من قبلهم من الأمم المكذّبة رسلها الرّادّة نصائحها ألم نهلكها فندمّر عليها منازلها ونخرّبها ، فيتعظوا بذلك ، ويحذروا أن يفعل الله ذلك بهم في تكذيبهم إياه ، فينيبوا إلى طاعة الله في تصديقك ، ثم توعّدهم جلّ ثناؤه ، وأخبرهم إن هم أقاموا على تكذيبهم رسوله ، أنه مُحِلّ بهم من العذاب ما أحلّ بالذين كانوا من قبلهم من الأمم ، فقال : وللْكافِرِين أمْثالهَا يقول : وللكافرين من قريش المكذبي رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب العاجل ، أمثال عاقبة تكذيب الأمم الذين كانوا من قبلهم رسلهم على تكذيبهم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : وللْكافرِين أمْثالهَا قال : مثل ما دُمَرت به القرون الأولى وعيد من الله لهم .
تفريع على جملة { والذين كفروا فتعساً لهم } [ محمد : 8 ] الآية ، وتقدم القول في نظائر { أولم يسيروا في الأرض } في سورة الروم ( 9 ) وفي سورة غافر ( 21 ) .
والاستفهام تقريري ، والمعنى : أليس تعس الذين كفروا مشهوداً عليه بآثاره من سوء عاقبة أمثالهم الذين كانوا قبلهم يدينون بمثل دينهم .
وجملة { دمر الله عليهم } استئناف بياني ، وهذا تعريض بالتهديد . والتدمير : الإهلاك والدمار وهو الهلك . وفعل { دمَّر } متعد إلى المدمَّر بنفسه ، يقال : دمرهم الله ، وإنما عدي في الآية بحرف الاستعلاء للمبالغة في قوة التدمير ، فحذف مفعول { دمر } لقصد العموم ، ثم جعل التدمير واقعاً عليهم فأفاد معنى { دمّر } كل ما يختصُّ بهم ، وهو المفعول المحذوف ، وأن التدمير واقع عليهم فهم من مشموله .
وجملة { وللكافرين أمثالها } اعتراض بين جملة { أفلم يسيروا في الأرض } وبين جملة { ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا } [ محمد : 11 ] . والمراد بالكافرين : كفار مكة . والمعنى : ولكفاركم أمثال عاقبة الذين من قبلهم من الدّمار وهذا تصريح بما وقع به التعريض للتأكيد بالتعميم ثم الخصوص .
وأمثال : جمع مِثْل بكسر الميم وسكون الثاء ، وجمع الأمثال لأن الله استأصل الكافرين مرات حتى استقر الإسلام فاستأصل صناديدهم يوم بدر بالسيف ، ويوم حنين بالسيف أيضاً ، وسلط عليهم الريح يوم الخندق فهزمهم وسلط عليهم الرعب والمذلة يوم فتح مكة ، وكل ذلك مماثل لما سلطه على الأمم في الغاية منه وهو نصر الرسول صلى الله عليه وسلم ودينه ، وقد جعل الله ما نصر به رسوله صلى الله عليه وسلم أعلى قيمة بكونه بيده وأيدي المؤمنين مباشرة بسيوفهم وذلك أنكى للعدو . وضمير { أمثالها } عائد إلى { عاقبة الذين من قبلهم } باعتبار أنها حالة سوء .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أفلم يَسِر هؤلاء المكذّبون محمدا صلى الله عليه وسلم، المنكرو ما أنزلنا عليه من الكتاب في الأرض سفرا، وإنما هذا توبيخ من الله لهم، لأنهم قد كانوا يسافرون إلى الشام، فيرون نقمة الله التي أحلّها بأهل حَجْرِ ثمود، ويرون في سفرهم إلى اليمن ما أحلّ الله بسَبَأ، فقال لنبيه عليه الصلاة والسلام وللمؤمنين به: أفلم يسِر هؤلاء المشركون سفرا في البلاد فينظروا كيف كان عاقبة تكذيب الذين من قبلهم من الأمم المكذّبة رسلها الرّادّة نصائحها ألم نهلكها فندمّر عليها منازلها ونخرّبها، فيتعظوا بذلك، ويحذروا أن يفعل الله ذلك بهم في تكذيبهم إياه، فينيبوا إلى طاعة الله في تصديقك، ثم توعّدهم جلّ ثناؤه، وأخبرهم إن هم أقاموا على تكذيبهم رسوله، أنه مُحِلّ بهم من العذاب ما أحلّ بالذين كانوا من قبلهم من الأمم، فقال:"وللْكافِرِين أمْثالهَا" يقول: وللكافرين من قريش المكذبي رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب العاجل، أمثال عاقبة تكذيب الأمم الذين كانوا من قبلهم رسلهم على تكذيبهم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قد ذكرنا في ما تقدم أنه يُخرّج على وجوه ثلاثة:
أحدها: أي لو ساروا في الأرض لعرفوا ما نزل بهم، وهو تكذيبهم بالرسل وكفرهم بهم، ولعرفوا أن من نجا منهم بماذا نجا، وهو التصديق لهم والإيمان بهم.
والثاني: على الأمر، أي سيروا في الأرض، فانظروا ما الذي نزل بمكذّبي الرسل [والمستهزئين بهم] ليكون ذلك مزجرة لهم عن مثل معاملتهم الرسول عليه السلام. والثالث: أي قد ساروا في الأرض، لكن لم ينظروا، ولم يعتبروا بما نزل بأولئك أنه بماذا نزل بهم، ولو تأمّلوا فيهم لكان ذلك زجرا لهم عن المعاودة إلى مثل ذلك، والله أعلم.
وقوله تعالى: {دمّر الله عليهم وللكافرين أمثالها} هذا يخرّج على وجوه:
أحدها: أي دمّر الله عليهم، وللكافرين سوى هؤلاء الكفار الذين دمّر الله عليهم أمثال ما لهم من الهلاك بتكذيبهم الرسل.
والثاني: {دمّر الله عليهم وللكافرين أمثالها} أي للكافرين من قومك أمثالها، وهذا وعيد لقوله.
والثالث: أي يكون لقومه لكل كافر أمثال ذلك، والله أعلم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
دمره: أهلكه ودمر عليه أهلك عليه ما يختص به، والمعنى: دمر الله عليهم ما اختص بهم من أنفسهم وأموالهم وأولادهم وكل ما كان لهم.
"وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا" الضمير للعاقبة المذكورة أو للهلكة لأن التدمير يدل عليها أو للسنة لقوله عزّ وعلا: "سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْاْ" (الأحزاب 38)...
{أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم}. فيه مناسبة للوجه الثالث يعني فينظروا إلى حالهم ويعلموا أن الدنيا فانية.
وقوله {دمر الله عليهم} أي أهلك عليهم متاع الدنيا من الأموال والأولاد والأزواج والأجساد...
. {وللكافرين أمثالها} يحتمل وجهين؛
(أحدهما) أن يكون المراد لهم أمثالها في الدنيا، وحينئذ يكون المراد من الكافرين هم الكافرون بمحمد عليه الصلاة والسلام.
(وثانيهما) أن يكون المراد لهم أمثالها في الآخرة، فيكون المراد من تقدم كأنه يقول: دمر الله عليهم في الدنيا ولهم في الآخرة أمثالها، وفي العائد إليه ضمير المؤنث في قوله {أمثالها} وجهان؛
(أحدهما) هو المذكور وهو العاقبة.
(وثانيهما) هو المفهوم وهو العقوبة، لأن التدمير كان عقوبة لهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{أفلم يسيروا} أي- بسبب تصحيح أعمالهم وبنائها على أساس {في الأرض} أي التي فيها آثار الوقائع فإنها هي الأرض في الحقيقة لما لها من زيادة التعريف بالله {فينظروا} عقب سيرهم وبسبه...
{كيف كان عاقبة} أي آخر أمر {الذين} ولما كان يمكنهم معرفة ذلك من جميع المهلكين، نبه بإثبات الجار على أنهم بعضهم بل بعض المكذبين للرسل، وهم الذين سمعوا أخبارهم ورأوا ديارهم- بعاد وثمود ومدين وقوم لوط فقال تعالى: {من قبلهم} ولما كان كأنه قيل: ما لهم؟ قال: {دمر الله} أي أوقع الملك الأعظم الهلاك العظيم الداخل بغير إذن، الهاجم بغتة {عليهم} بما علم أهاليهم وأحوالهم وكل من رضي فعالهم أو مقالهم، وعدل عن- أن يقول:"ولهؤلاء" إلى قوله: {وللكافرين} تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف وهو العراقة في الكفر، فكان فيه بشارة بأن بعضهم سينجيه الله تعالى من أسباب الهلاك لكونه ليس عريقاً في الكفر، لأنه لم يطبع عليه {أمثالها} أي أمثال هذه العاقبة.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{أمثالها} أمثال عاقبتهم أو عقوبتهم لدلالة ما سبق عليها، لكن لا على أن لهؤلاء أمثال ما لأولئك وأضعافه بل مثله، وإنما جمع باعتبار مماثلته لعواقب متعددة حسب تعدد الأمم المعذبة...
المراد بالكافرين المتقدمون بطريق الظاهر موضع الضمير كأنه قيل: دمر الله تعالى عليهم في الدنيا ولهم في الآخرة أمثالها...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أي: أفلا يسير هؤلاء المكذبون بالرسول صلى الله عليه وسلم، {فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} فإنهم لا يجدون عاقبتهم إلا شر العواقب، فإنهم لا يلتفتون يمنة ولا يسرة إلا وجدوا ما حولهم، قد بادوا وهلكوا، واستأصلهم التكذيب والكفر، فخمدوا، ودمر الله عليهم أموالهم وديارهم، بل دمر أعمالهم ومكرهم، وللكافرين في كل زمان ومكان، أمثال هذه العواقب الوخيمة، والعقوبات الذميمة. وأما المؤمنون، فإن الله تعالى ينجيهم من العذاب، ويجزل لهم كثير الثواب...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يلوي أعناقهم إلى مصارع الغابرين قبلهم في شدة وعنف:
أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم؟ دمر الله عليهم. وللكافرين أمثالها..
وهي لفتة عنيفة مروعة، فيها ضجة وفرقعة. وفيها مشهد للذين من قبلهم يدمر عليهم كل ما حولهم، وكل ما لهم، فإذا هو أنقاض متراكمة، وإذا هم تحت هذه الأنقاض المتراكمة. وذلك المشهد الذي يرسمه التعبير مقصود بصورته هذه وحركته، والتعبير يحمل في إيقاعه وجرسه صورة هذا المشهد وفرقعته في انقضاضه وتحطمه!
وعلى مشهد التدمير والتحطيم والردم، يلوح للحاضرين من الكافرين، ولكل من يتصف بهذه الصفة بعد، بأنها في انتظارهم. هذه الوقعة المدمرة التي تدمر عليهم كل شيء وتدفنهم بين الأنقاض: (وللكافرين أمثالها)!
وتفسير هذا الأمر الهائل المروع الذي يدمر على الكافرين وينصر المؤمنين هو القاعدة الأصيلة الدائمة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمّر الله عليهم)؟ ومن أجل أن لا يظنّ هؤلاء أنّ ذلك المصير المشؤوم كان مختصّاً بالأقوام الطاغين الماضين، فقد أضافت الآية: (وللكافرين أمثالها). فلا يظنّوا أنّهم في منأى من العقاب المشابه لذلك العقاب إن هم عملوا أعمالاً تشابه أعمال الماضين، فليسيروا في الأرض ولينظروا آثار الذين من قبلهم، ثمّ لينظروا مستقبلهم من خلال سنن التأريخ. والجدير بالانتباه أنّ (دمّر) من مادة (تدمير)، وهي من الأصل بمعنى الإهلاك والإفناء، أمّا إذا أتت مع (على) فإنّها تعني إهلاك كلّ شيء حتى الأولاد والأهل والعشيرة والأموال الخاصّة بالإنسان. وعلى هذا فإنّ هذا التعبير بيان لمصيبة أليمة، خاصة بملاحظة لفظ (على) الذي يستعمل عادةً في مورد التسلط، وبذلك يصبح معنى الجملة، إنّ الله عزَّ وجلَّ قد صبَّ عذابه على رؤوس هؤلاء الأقوام وأموالهم وكلّ ما يتعلّق بهم فأفناها جميعاً...