فإن شككتم في قولي ، وامتريتم في خبري ، فإني أخبركم بأخبار لا علم لي بها ولا درستها في كتاب ، فإخباري بها على وجهها ، من غير زيادة ولا نقص ، أكبر شاهد لصدقي ، وأدل دليل على حق ما جئتكم به ، ولهذا قال : { مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى } أي : الملائكة { إِذْ يَخْتَصِمُونَ } لولا تعليم اللّه إياي ، وإيحاؤه إلي .
وقوله : { مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإ الأعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ } أي : لولا الوحي من أين كنت أدري باختلاف الملأ الأعلى ؟ يعني : في شأن آدم وامتناع إبليس من السجود له ، ومحاجته ربه في تفضيله عليه .
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا جهضم اليمامي عن يحيى بن أبي كثير ، عن زيد بن أبي سلام عن أبي سلام عن عبد الرحمن بن عائش عن مالك بن يخامر عن معاذ رضي الله عنه ، قال : احتبس علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة عن صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى قرن الشمس . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا فَثَوّب بالصلاة فصلى وتَجَوّز في صلاته فلما سلم قال : " كما أنتم على مصافكم " . ثم أقبل إلينا فقال : " إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة ، إني قمت من الليل فصليت ما قُدّر لي فنعست في صلاتي حتى استيقظت فإذا أنا بربي في أحسن صورة فقال : يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى ؟
قلت لا أدري رب - أعادها ثلاثا - فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين صدري فتجلى لي كل شيء وعرفت فقال : يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت : في الكفارات . قال : وما الكفارات ؟ قلت نقل الأقدام إلى الجمعات والجلوس في المساجد بعد الصلوات وإسباغ الوضوء عند الكريهات . قال : وما الدرجات ؟ قلت : إطعام الطعام ولين الكلام والصلاة والناس نيام . قال : سل . قلت اللهم إني أسألك فعل الخيرات ، وترك المنكرات ، وحب المساكين ، وأن تغفر لي وترحمني ، وإذا أردت فتنة بقوم فتوفني غير مفتون ، وأسألك حبك وحب من يحبك ، وحب عمل يقربني إلى حبك " . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنها حق فادرسوها وتعلموها " فهو حديث المنام المشهور ومن جعله يقظة فقد غلط وهو في السنن من طرق .
وهذا الحديث بعينه قد رواه الترمذي من حديث " جهضم بن عبد الله اليمامي " به . وقال : " حسن صحيح " وليس هذا الاختصام هو الاختصام المذكور في القرآن فإن هذا قد فسر .
وقوله : ( ما كانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بالمَلإِ الأَعْلَى ) : يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لمشركي قومك : ما كان لِيَ من علم بالملأ الأعلى إذّ يَخْتَصِمُونَ في شأن آدم من قبل أن يوحي إليّ ربّي فيعلمني ذلك ، يقول : ففي إخباري لكم عن ذلك دليل واضح على أن هذا القرآن وحي من الله وتنزيل من عنده ، لأنكم تعلمون أن علم ذلك لم يكن عندي قبل نزول هذا القرآن ، ولا هو مما شاهدته فعاينته ، ولكني علمت ذلك بإخبار الله إياي به . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( ما كانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بالمَلإٍ الأَعْلَى إذْ يَخْتَصِمُونَ ) قال : الملأ الأعلى : الملائكة حين شووروا في خلق آدم ، فاختصموا فيه ، وقالوا : لا تجعل في الأرض خليفة .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : ( بالمَلإِ الأَعْلَى إذْ يَخْتَصِمَونَ ) هو : إذْ قالَ رَبّكَ للْمَلائِكَةِ إنّي جاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( ما كانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بالمَلإِ الأعْلى ) قال : هم الملائكة ، كانت خصومتهم في شأن آدم حين قال ربك للملائكة : إنّي خالِقٌ بَشَرا مِنْ طِينٍ . . . حتى بلغ ساجِدينَ ، وحين قال : إنّي جاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً . . . حتى بلغ وَيَسْفِكَ الدّماءَ ، ففي هذا اختصم الملأ الأعلى .
جملة { ما كَانَ لي من علمٍ بالملأ الأعلى إذ يختصمونَ } اعتراض إبلاغ في التوبيخ على الإِعراض عن النبأ العظيم ، وحجة على تحقق النبأ بسبب أنه موحىً به من الله وليس للرسول صلى الله عليه وسلم سبيل إلى عمله لولا وحي الله إليه به . وذكر فعل { كان } دال على أن المنفي علمه بذلك فيما مضى من الزمن قبل أن يوحى إليه بذلك كما قال تعالى : { وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون } [ آل عمران : 44 ] وقوله : { وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين } [ القصص : 44 ] .
والباء في قوله : { بالمَلأ الأعلى } على كلا المعنيين للنبأ ، لتعدية { عِلم } لتضمينه معنى الإِحاطة ، وهو استعمال شائع في تعدية العلم . ومنه ما في حديث سؤال الملكين في « الصحيح » فيقال له : ما علمك بهذا الرجل . ويجوز على المعنى الثاني في النبأ أن تكون الباء ظرفية ، أي ما كان لي علم كائن في الملأ الأعلى ، أي ما كنت حاضراً في الملأ الأعلى فهي كالباء في قوله : { وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأم } [ القصص : 44 ] .
والملأُ : الجماعة ذات الشأن ، ووصفه ب { الأعلى } لأن المراد ملأُ السماوات وهم الملائكة ولهم علوّ حقيقي وعلوّ مجازيّ بمعنى الشرف .
و { إذْ يَخْتَصِمُونَ } ظرف متعلق بفعل { ما كانَ لي من عِلم } أي حين يختصم أهل الملأ الأعلى على أحد التأويلين ، أي في حين تنازع الملائكة وإبليس في السماء . والتعبير بالمضارع في موضع المضيّ لقصد استحضار الحالة ، أو حين يختصم الطاغون وأتباعهم في النار بين يدي الملأ الأعلى ، أي ملائكة النار أو ملائكة المحشر ، والمضارع على أصله من الاستقبال .
والاختصام : افتعال من خَصمَه ، إذا نازعه وخالفه فهو مبالغة في خَصَم .