لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون . ولفظة( حسيسها )من الألفاظ المصورة بجرسها لمعناها . فهو تنقل صوت النار وهي تسري وتحرق ، وتحدث ذلك الصوت المفزع . وإنه لصوت يتفزع له الجلد ويقشعر . ولذلك نجي الذين سبقت لهم الحسنى من سماعه - فضلا على معاناته - نجوا من الفزع الأكبر الذي يذهل المشركين . وعاشوا فيما تشتهي أنفسهم من أمن ونعيم .
لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا } أي : حريقها في الأجساد .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن عمار ، حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن أبيه ، عن الجريري{[19892]} ، عن أبي عثمان : { لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا } ، قال : حيات على الصراط{[19893]} تلسعهم ، فإذا لسعتهم قال : حَسَ حَسَ .
وقوله : { وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ } فسلمهم من المحذور والمرهوب ، وحصل لهم المطلوب والمحبوب .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن أبي سُرَيج ، حدثنا محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني ، عن ليث بن أبي سليم ، عن ابن عم النعمان بن بشير ، عن النعمان بن بشير قال - وسَمَرَ مع علي ذات ليلة ، فقرأ : { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } قال : أنا منهم ، وعمر منهم ، وعثمان منهم ، والزبير منهم ، وطلحة منهم ، وعبد الرحمن منهم - أو قال : سعد منهم - قال : وأقيمت الصلاة فقام ، وأظنه يجر ثوبه ، وهو يقول : { لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا } .
جملة { لا يسمعون حسيسها } بيان لمعنى مبعَدون ، أي مبعدون عنها بعداً شديداً بحيث لا يلفحهم حرّها ولا يروعهم منظرها ولا يسمعون صوتها ، والصوت يبلغ إلى السمع مِنْ أبعد مما يبلغ منه المرئي .
والحسيس : الصوت الذي يبلغ الحس ، أي الصوت الذي يسمع من بعيد ، أي لا يقربون من النار ولا تبلغ أسماعهم أصواتُها ، فهم سالمون من الفزع من أصواتها فلا يقرع أسماعهم ما يؤلمها .
وعقّب ذلك بما هو أخص من السلامة وهو النعيم الملائم . وجيء فيه بما يدل على العموم وهو { فيما اشتهت أنفسهم } وما يدلّ على الدوام وهو { خالدون } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لا يسمعون حسيسها} يقول: لا يسمع أهل الجنة صوت جهنم...
{وهم} يعني: هؤلاء {في ما اشتهت أنفسهم خالدون} يعني: لا يموتون.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: لا يسمع هؤلاء الذين سبقت لهم منا الحسنى حَسِيس النار، ويعني بالحسيس: الصوت والحسّ...
عن ابن عباس... يقول: لا يسمع أهل الجنة حسيس النار إذا نزلوا منزلهم من الجنة...
"وَهُمْ فِيما اشْتَهَتْ أنْفُسُهُمْ خالِدُونَ": وهم فيما تشتهيه نفوسهم من نعيمها ولذّاتها ماكثون فيها، لا يخافون زوالاً عنها ولا انتقالاً عنها.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} والشهوة: طلب النفس اللذّة.
مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي 710 هـ :
وهذه مبالغة في الإبعاد عنها أي لا يقربونها حتى لا يسمعوا صوتها وصوت من فيها.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان أقل ما ينكئ من المكروه سماعه، قال: {لا يسمعون حسيسها} أي حركتها البالغة وصوتها الشديد، فكيف بما دونه لأن الحس مطلق الصوت أو الخفي منه كما قال البغوي، فإذا زادت حروفه زاد معناه {وهم} أي الذين سبقت لهم منا الحسنى {في ما} ولما كانت الشهوة -وهي طلب النفس اللذة- لا تكون إلا بليغة، عبر بالافتعال دلالة على عظيم ما هم فيه من اللذة فقال: {اشتهت أنفسهم} في الجنة {خالدون} أي دائماً أبداً.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} من المآكل، والمشارب، والمناكح والمناظر، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، مستمر لهم ذلك، يزداد حسنه على الأحقاب.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون. ولفظة (حسيسها) من الألفاظ المصورة بجرسها لمعناها. فهو تنقل صوت النار وهي تسري وتحرق، وتحدث ذلك الصوت المفزع. وإنه لصوت يتفزع له الجلد ويقشعر، ولذلك نجي الذين سبقت لهم الحسنى من سماعه -فضلا على معاناته- نجوا من الفزع الأكبر الذي يذهل المشركين، وعاشوا فيما تشتهي أنفسهم من أمن ونعيم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {لا يسمعون حسيسها} بيان لمعنى مبعَدون، أي مبعدون عنها بعداً شديداً بحيث لا يلفحهم حرّها ولا يروعهم منظرها ولا يسمعون صوتها، والصوت يبلغ إلى السمع مِنْ أبعد مما يبلغ منه المرئي. والحسيس: الصوت الذي يبلغ الحس، أي الصوت الذي يسمع من بعيد، أي لا يقربون من النار ولا تبلغ أسماعهم أصواتُها، فهم سالمون من الفزع من أصواتها فلا يقرع أسماعهم ما يؤلمها. وعقّب ذلك بما هو أخص من السلامة وهو النعيم الملائم. وجيء فيه بما يدل على العموم وهو {فيما اشتهت أنفسهم} وما يدلّ على الدوام وهو {خالدون}. والشهوة: تشوق النفس إلى ما يلَذّ لها.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وفي التعبير بقوله: {في ما اشتهت أنفسهم} إشارة إلى أنهم حرموا من شهوات الدنيا الآثمة فنالوها في الآخرة حلالا طيبا. وهنا ملاحظتان بيانيتان: أولاهما – أنه عبر عن نيلهم ما يشتهون بجعل ما يشتهون ظرفا لوجودهم، فما يشتهون أحاط بهم إحاطة الظرف بمظروفه فهم يعيشون في دائرة ما يشتهون، لا يخرجون عن دائرة إجابة رغائبهم، فلا يحرمون من شيء يرغبونه. ثانيتهما- أن الله أكد تمكنهم من رغائبهم فيها، أكده ب {هم}، وبتقديم {في ما اشتهت أنفسهم} للاهتمام والعناية، والله سبحانه يجزي كل نفس ما كسبت وهو العليم الحكيم.