34- ولقد قوبل رسل من قبلك بالتكذيب والإيذاء من أقوامهم ، كما فعل معك قومك ، فصبروا على التكذيب والإيذاء حتى نصرناهم ، فاصبر كما صبروا حتى يأتيك نصرنا ، ولا مغير لوعد الله بنصر الصابرين ، فلا بد من تحققه . ولقد قصصنا عليك من أخبار هؤلاء الرسل وتأييدنا لهم ، ما فيه تسلية لك ، وما توجبه الرسالة من تحمل الشدائد .
قوله تعالى : { ولقد كذبت رسل من قبلك } ، كذبهم قومهم كما كذبتك قريش .
قوله تعالى : { فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا } بتعذيب من كذبهم . قوله تعالى : { ولا مبدل لكلمات الله } ، لا ناقض لما حكم به ، وقد حكم في كتابه بنصر أنبيائه عليهم السلام ، فقال : { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون } [ الصافات : 171 :172 ] ، وقال : { إنا لننصر رسلنا } [ غافر :51 ] وقال : { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } [ المجادلة :21 ] ، وقال الحسن بن الفضل : لا خلف لعدته .
قوله تعالى : { ولقد جاءك من نبإ المرسلين } و{ من } صلة كما تقول : أصابنا من مطر .
ويستطرد من تطييب خاطر الرسول [ ص ] وبيان الأسباب الحقيقية لموقف المكذبين منه ومن دعوته ، ومن آيات الله الناطقة بصدقه وصدق ما جاء به . . يستطرد من هذا إلى تذكيره بما وقع لإخوانه الرسل قبله - وقد جاءه من أخبارهم في هذا القرآن - ثم ما كان منهم من الصبر والمضي في الطريق ، حتى جاءهم نصر الله . ليقرر أن هذه هي سنة الدعوات التي لا تتبدل ، ولا يغير منها اقتراحات المقترحين ، كما أنها لا تستعجل مهما ينزل بالدعاة من الأذى والتكذيب والضيق :
( ولقد كذبت رسل من قبلك ، فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ، ولا مبدل لكلمات الله ، ولقد جاءك من نبأ المرسلين ) . .
إن موكب الدعوة إلى الله موغل في القدم ، ضارب في شعاب الزمن ، ماض في الطريق اللاحب ، ماض في الخط الواصب . . مستقيم الخطي ، ثابت الأقدام . يعترض طريقه المجرمون من كل قبيل ، ويقاومه التابعون من الضالين والمتبوعون ، ويصيب الأذى من يصيب من الدعاة ، وتسيل الدماء وتتمزق الأشلاء . . والموكب في طريقه لا ينحني ولا ينثني ولا ينكص ولا يحيد . . والعاقبة هي العاقبة ، مهما طال الزمن ومهما طال الطريق . . إن نصر الله دائما في نهاية الطريق :
( ولقد كذبت رسل من قبلك ، فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ، ولا مبدل لكلمات الله ، ولقد جاءك من نبأ المرسلين ) . .
كلمات يقولها الله - سبحانه - لرسوله [ ص ] . . كلمات للذكرى ، وللتسرية وللمواساة ، والتأسية . . وهي ترسم للدعاة إلى الله من بعد رسول الله [ ص ] طريقهم واضحا ، ودورهم محددا ، كما ترسم لهم متاعب الطريق وعقباته ، ثم ما ينتظرهم بعد ذلك كله في نهاية الطريق . . .
إنها تعلمهم أن سنة الله في الدعوات واحدة . كما انها كذلك وحدة . وحدة لا تتجزأ . . دعوة تتلقاها الكثرة بالتكذيب ، وتتلقى أصحابها بالأذى . . وصبر من الدعاة على التكذيب وصبر كذلك على الأذى . . وسنة تجري بالنصر في النهاية . . ولكنها تجيء في موعدها . لا يعجلها عن هذا الموعد أن الدعاة الأبرياء الطيبين المخلصين يتلقون الأذى والتكذيب ، ولا أن المجرمين الضالين والمضلين يقدرون على أذى المخلصين الأبرياء الطيبين ! ولا يعجلها كذلك عن موعدها أن صاحب الدعوة المخلص المتجرد من ذاته ومن شهواته إنما يرغب في هداية قومه حبا في هدايتهم ، ويأسى على ما هم فيه من ضلال وشقوة ، وعلى ما ينتظرهم من دمار وعذاب في الدنيا والأخرة . . لا يعجلها عن موعدها شيء من ذلك كله . فإن الله لا يعجل لعجلة أحد من خلقه . ولا مبدل لكلماته . سواء تعلقت هذه الكلمات بالنصر المحتوم ، أم تعلقت بالأجل المرسوم .
إنه الجد الصارم ، والحسم الجازم ، إلى جانب التطمين والتسرية والمواساة والتسلية . .
وقوله { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا [ وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ] }{[10661]} هذه تسلية للنبي{[10662]} صلى الله عليه وسلم وتعزية له فيمن كذبه من قومه ، وأمر له بالصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ، ووعد له بالنصر كما نصروا ، وبالظفر حتى كانت لهم العاقبة ، بعد ما نالهم من التكذيب من قومهم والأذى البليغ ، ثم جاءهم النصر في الدنيا ، كما لهم النصر في الآخرة ؛ ولهذا قال : { وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ } أي : التي كتبها بالنصر في الدنيا والآخرة لعباده المؤمنين ، كما قال : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } [ الصافات : 171 - 173 ] ، وقال تعالى : { كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ المجادلة : 21 ] .
وقوله : { وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ } أي : من خبرهم كيف نُصِروا وأُيدوا على من كذبهم من قومهم ، فلك فيهم أسوة وبهم قدوة .
روي أن أبا جهل كان يقول : ما نكذبك وإنك عندنا لصادق وإنما نكذب ما جئتنا به . فنزلت .
{ ولقد كذبت رسل من قبلك } تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيه دليل على أن قوله : { لا يكذبوك } ، ليس لنفي تكذيبه مطلقا . { فصبروا على ما كذبوا وأوذوا } على تكذيبهم وإيذائهم فتأس بهم واصبر . { حتى أتاهم نصرنا } فيه إيماء بوعد النصر للصابرين . { ولا مبدل لكلمات الله } لمواعيده من قوله : { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين } الآيات . { ولقد جاءك من نبإي المرسلين } أي بعض قصصهم وما كابدوا من قومهم .
هذه الآية تضمنت عرض الأسوة التي ينبغي الاقتداء بها على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وترجيته أن يأتيه مثل ما أتاهم من النصر إذا امتثل ما امتثلوه من الصبر ، قال الضحاك وابن جريج :
عزى الله بهذه الآية نبيه ، وروي عن ابن عامر أنه قرأ «وأذوا » بغير واو بعد الهمزة ، ثم قوى ذلك الرجاء بقوله : { ولا مبدل لكلمات الله } أي لا راد لأمره وكلماته السابقات بما يكون ولا مكذب لما أخبر به ، فكأن المعنى فاصبر كما صبروا وانتظر ما يأتي ، وثق بهذا الإخبار فإنه لا مبدل له ، فالقصد هنا هذا الخبر ، وجاء اللفظ عاماً جميع كلمات الله السابقات ، وأما كلام الله عز وجل في التوراة والإنجيل فمذهب ابن عباس أنه لا مبدل لها وإنما حرفها اليهود بالتأويل لا ببدل حروف وألفاظ ، وجوز كثير من العلماء أن يكونوا بدلوا الألفاظ لأنهم استحفظوها وهو الأظهر ، وأما القرآن فإن الله تعالى تضمن حفظه فلا يجوز فيه التبديل ، قال الله تعالى : { وإنا له لحافظون }{[4897]} وقال في أولئك { بما استحفظوا من كتاب الله }{[4898]} وقوله تعالى : { ولقد جاءك من نبأ المرسلين } أي فيما أنزلناه وقصصناه عليك ما يقضي هذا الذي أخبرناك به ، وفاعل { جاءك } مضمر على ما ذهب إليه الطبري والرماني ، تقديره : ولقد جاءك نبأ أو أنباء .
قال القاضي أبو محمد : والثواب عندي في المعنى أن يقدر : جلاء أو بيان{[4899]} . وقال أبو علي الفارسي : قوله { من نبأ المرسلين } ، في موضع رفع ب «جاء » ، ودخل حرف الجر على الفاعل ، وهذا على مذهب الأخفش في تجويزه دخول ( من ) في الواجب ، ووجه قول الرماني أن ( من ) لا تزاد في الواجب .
عطف على جملة { فإنّهم لا يكذّبونك } [ الأنعام : 33 ] أو على جملة { ولكنّ الظالمين بآيات الله يجحدون } [ الأنعام : 33 ] . ويجوز أن تكون الواو واو الحال من الكلام المحذوف قبل الفاء ، أي فلا تحزن ، أو إن أحزنك ذلك فإنّهم لا يكذّبونك والحال قد كذّبت رسل من قبلك . والكلام على كلّ تقدير تسلية وتهوين وتكريم بأنّ إساءة أهل الشرك لمحمد عليه الصلاة والسلام هي دون ما أساء الأقوام إلى الرسل من قبله ؛ فإنّهم كذّبوا بالقول والاعتقاد وأمّا قومه فكذّبوا بالقول فقط . وفي الكلام أيضاً تأسَ للرسول بمن قبله من الرسل .
ولام القسم لتأكيد الخبر بتنزيل الرسول صلى الله عليه وسلم منزلة من ذهل طويلاً عن تكذيب الرسل لأنّه لمّا أحزنه قول قومه فيه كان كمن بعُد علمه بذلك . و { من قبلك } وصف كاشف لِ { رُسل } جيء به لتقرير معنى التأسّي بأنّ ذلك سنّة الرسل .
وفي موقع هذه الآية بعد التي قبلها إيماء لرجاحة عقول العرب على عقول من سبقهم من الأمم ، فإنّ الأمم كذّبت رسلها باعتقاد ونطق ألسنتها ، والعرب كذّبوا باللسان وأيقنوا بصدق الرسول عليه الصلاة والسلام بعقولهم التي لا يروج عندها الزيف .
و ( ما ) مصدرية ، أي صبروا على التكذيب ، فيجوز أن يكون قوله { وأوذوا } عطفاً على { كذّبوا } وتكون جملة { فصبروا } معترضة . والتقدير : ولقد كذّبت وأوذيَت رسل فصبروا . فلا يعتبر الوقف عند قوله { على ما كذّبوا } بل يوصل الكلام إلى قوله { نَصْرُنَا } ، وأن يكون عطفاً على { كُذّبت رسل } ، أي كذّبت وأوذوا . ويفهم الصبر على الأذى من الصبر على التكذيب لأنّ التكذيب أذى فيحسن الوقف عند قوله : { على ما كذّبوا } .
وقرن فعل { كذّبت } بعلامة التأنيث لأنّ فاعل الفعل إذا كان جمع تكسير يرجّح اتِّصال الفعل بعلامة التأنيث على التأويل بالجماعة . ومن ثمّ جاء فعلا { فصبروا } و { كذّبوا } مقترنين بواو الجمع ، لأنّ فاعليهما ضميران مستتران فرجح اعتبار التذكير .
وعطف { وأوذوا } على { كذّبت } عطف الأعمّ على الأخصّ ، والأذى أعمّ من التكذيب ، لأنّ الأذى هو ما يسوء ولو إساءة مّا ، قال تعالى : { لن يضرّوكم إلاّ أذى } [ آل عمران : 111 ] ويطلق على الشديد منه . فالأذى اسم اشتقّ منه آذى إذا جعل له أذى وألحقه به . فالهمزة به للجعل أو للتصيير . ومصادر هذا الفعل أذى وأذَاة وأذيَّة . وكلّها أسماء مصادر وليست مصادر . وقياس مصدره الإيذاء لكنّه لم يسمع في كلام العرب . فلذلك قال صاحب « القاموس » : لا يقال : إيذاء . وقال الراغب : يقال : إيذاء . ولعلّ الخلاف مبني على الخلاف في أنّ القياسي يصحّ إطلاقه ولو لم يسمع في كلامهم أو يتوقّف إطلاقه على سماع نوعه من مادّته . ومن أنكر على صاحب « القاموس » فقد ظلمه . وأيّاً ما كان فالإيذاء لفظ غير فصيح لغرابته .
ولقد يعدّ على صاحب « الكشاف » استعماله هنا وهو ما هو في علم البلاغة .
و { حتَّى } ابتدائية أفادت غاية ما قبلها ، وهو التكذيب والأذى والصبر عليهما ، فإنّ النصر كان بإهلاك المكذّبين المؤذين ، فكان غاية للتكذيب والأذى ، وكان غاية للصبر الخاصّ ، وهو الصبر على التكذيب والأذى ، وبقي صبر الرسل على أشياء ممّا أمر بالصبر عليه .
والإتيان في قوله : { أتاهم نصرنا } مجاز في وقوع النصر بعد انتظاره ، فشبِّه وقوعه بالمجيء من مكان بعيد كما يجيء المنادى المنتظر . وتقدّم بيان هذا عند قوله تعالى : { وما تأتيهم من آية من آيات ربّهم إلاّ كانوا عنها معرضين } في هذه السورة [ 4 ] .
وجملة { ولا مبدّل } عطف على جملة : { أتاهم نصرنا } .
وكلمات الله وحيه للرسل الدّالّ على وعده إيّاهم بالنصر ، كما دلّت عليه إضافة النصر إلى ضمير الجلالة . فالمراد كلمات من نوع خاصّ ، فلا يرد أنّ بعض كلمات الله في التشريع قد تبدّل بالنسخ ؛ على أنّ التبديل المنفي مجاز في النقض ، كما تقدّم في قوله تعالى : { فمَن بدّله بعدما سَمعَه } في سورة [ البقرة : 181 ] . وسيأتي تحقيق لهذا المعنى عند قوله تعالى : { وتمّت كلمات ربّك صدقاً وعدلاً لا مبدّل لكلماته } في هذه السورة [ 115 ] .
وهذا تطمين للنبيء بأنّ الله ينصره كما نصر من قبله من الرسل ، ويجوز أن تكون كلمات الله ما كتبه في أزله وقدره من سننه في الأمم ، أي أنّ إهلاك المكذّبين يقع كما وقع إهلاك من قبلهم .
ونفي المُبدّل كناية عن نفي التبذيل ، أي لا تبديل ، لأنّ التبديل لا يكون إلاّ من مبدّل . ومعناه : أنّ غير الله عاجز عن أن يبدّل مراد الله ، وأن الله أراد أن لا يبدّل كلماته في هذا الشأن .
وقوله : { ولقد جاءك من نبإ المرسلين } عطف على جملة : { ولا مبدّل لكلمات الله } ، وهو كلام جامع لتفاصيل ما حلّ بالمكذّبين ، وبكيف كان نصر الله رسله . وذلك في تضاعيف ما نزل من القرآن في ذلك .
والقول في { جاءك } كالقول في { أتاهم نصرُنا } ، فهو مجاز في بلوغ ذلك وإعلام النبي صلى الله عليه وسلم به .
و ( مِنْ ) في قوله : { مِنْ نبأ } إمّا اسم بمعنى ( بعض ) فتكون فاعلاً مضافة إلى النبأ ، وهو ناظر إلى قوله تعالى : { منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك } [ غافر : 78 ] . والأحسن أن تجعل صفة لموصوف محذوف تقديره : لقد جاءك نَبَأ من نَبَأ المرسلين . والنبأ الخبر عن أمر عظيم ، قال تعالى : { عمّ يتساءلون عن النّبأ العظيم } [ النبأ : 1 ، 2 ] ، وقال : { قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون } [ ص : 67 ، 68 ] ، وقال في هذه السورة [ 67 ] { لكلّ نبإ مُسْتَقرّ وسوف تعلمون . }
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولقد كذبت رسل من قبلك}، وذلك قبل كفار مكة، لأن كفار مكة، قالوا: يا محمد، ما يمنعك أن تأتينا بآية كما كانت الأنبياء تجيئ بها إلى قومهم، فإن فعلت صدقناك، وإلا فأنت كاذب، فأنزل الله يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم ليصبر على تكذيبهم إياه، وأن يقتدى بالرسل قبله: {ولقد كذبت رسل من قبلك} {فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا} في هلاك قومهم، وأهل مكة بمنزلتهم، فذلك قوله: {ولا مبدل لكلمات الله}، يعني لا تبديل لقول الله بأنه ناصر محمد صلى الله عليه وسلم، ألا وقوله حق كما نصر الأنبياء قبله، {ولقد جاءك من نبأ}، يعني من حديث {المرسلين} حين كُذبوا وأوذوا ثم نصروا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هذا تسلية من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وتعزية له عما ناله من المساءة بتكذيب قومه إياه على ما جاءهم به من الحقّ من عند الله. يقول تعالى ذكره: إن يكذّبك يا محمد هؤلاء المشركون من قومك، فيجحدوا نبوّتك، وينكروا آيات الله أنها من عنده، فلا يحزنك ذلك، واصبر على تكذيبهم إياك وما تلقى منهم من المكروه في ذات الله، حتى يأتي نصر الله، "فقد كُذّبت رسل من قبلك "أرسلتهم إلى أممهم فنالوهم بمكروه، فصبروا على تكذيب قومهم إياهم ولم يثنهم ذلك من المضيّ لأمر الله الذي أمرهم به من دعاء قومهم إليه، حتى حكم الله بينهم وبينهم "ولا مُبَدّلَ لكَلِمَاتِ الله": ولا مغير لكلمات الله. وكلماته تعالى: ما أنزل الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من وعده إياه النصر على من خالفه وضادّه، والظفر على من تولى عنه وأدبر. "ولَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإ المُرْسَلِينَ": ولقد جاءك يا محمد من خبر من كان قبلك من الرسل وخبر أممهم، وما صنعتُ بهم حين جحدوا آياتي وتمادوا في غيهم وضلالهم أنباء. وترك ذكر «أنباء» لدلالة «من» عليها، يقول تعالى ذكره: فانتظر أنت أيضا من النصرة والظفر مثل الذي كان مني كان قبلك من الرسل، إذ كذّبهم قومهم، واقتد بهم في صبرهم على ما لقوا من قومهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... يخبر نبيه صلى الله عليه وسلم ويصبره على تكذيبهم إياه وأذاهم بتبليغ الرسالة؛ يقول: لست أنت أول مكذب من الرسل، بل كذب إخوانك من قبلك على تبليغ الرسالة، فصبروا على ما كذبوا، وأوذوا، ولم يتركوا تبليغ الرسالة مع تكذيبهم إياهم. فعلى ذلك لا عذر لك في ترك تبليغ الرسالة، وإن كذبوك في التبليغ، ويؤذوك؛ وهو ما ذكرنا أنه يخبر أنه بعثك رسولا على علم منه بكل الذي كان منهم من التكذيب والأذى. وقوله تعالى: {فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا} أخبر الله أنه نصر رسله. ثم يحتمل هذا النصر وجوها: أحدها: نصرهم إذ أظهر حججه وبراهينه حتى علموا جميع أنها هي الحجج والبراهين وأنهم رسل الله، لكنهم تعاندوا، وكابروا. يحتمل النصر لهم بما جعل آخر أمرهم لهم، وإن كان قد أصابهم شدائد في بدء الأمر، ويحتمل نصرهم لما استأصل قومهم، وأهلكهم بتكذيبهم الرسل. وفي استئصال القوم وإهلاكه إياهم وإبقاء الرسل نصرهم. وكذلك قوله تعالى: {إنا لننصر رسلنا} [غافر: 51] وقوله تعالى: {إنهم لهم المنصورون} [الصافات: 172] يخرجان على الوجوه التي ذكرنا. وقوله تعالى: {ولا مبدل لكلمات الله} هو ما ذكرنا من النصر لهم واستئصال قومهم وما أوعدهم من العذاب. فذلك كلمات الله. ويحتمل قوله: {لكلمات الله} حججه وبراهينه كقوله تعالى: {ويحق الله الحق بكلماته} [يونس: 82] أي بحججه وآياته وكقوله تعالى: {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي} [الكهف: 109] أي حجج ربي...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
قوله عز وجل: {وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} يحتمل أربعة تأويلات:
أحدها: معناه لا مُبطِل لحُجَّتِهِ ولا دافع لبرهانه.
والثاني: معناه لا رَادَّ لأمره فيما قضاه من نصر أوليائه، وأوجبه من هلاك أعدائه. والثالث: معناه لا تكذيب لخبره فيما حكاه من نصر مَنْ نُصِرَ وهلاك مَنْ أُهْلِكَ. والرابع: معناه لا يشتبه ما تخرصه الكاذبون عليه بما بلَّغه الأنبياء عنه...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا} رجاء ثوابي {وأوذوا} حتى نشروا بالمناشير وحرقوا بالنار {حتى أتاهم نصرنا} معونتنا إياهم بإهلاك من كذبهم. {ولا مبدل لكلمات الله} لا ناقض لحكمه وقد حكم بنصر الأنبياء في قوله {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} {ولقد جاءك من نبإ المرسلين} أي خبرهم في القرآن كيف أنجيناهم ودمرنا قومهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
فكأن المعنى فاصبر كما صبروا وانتظر ما يأتي، وثق بهذا الإخبار فإنه لا مبدل له..
في الآية مسألتان: المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى أزال الحزن عن قلب رسوله في الآية الأولى بأن بين أن تكذيبه يجري مجرى تكذيب الله تعالى، فذكر في هذه الآية طريقا آخر في إزالة الحزن عن قلبه وذلك بأن بين أن سائر الأمم عاملوا أنبياءهم بمثل هذه المعاملة، وأن أولئك الأنبياء صبروا على تكذيبهم وإيذائهم حتى أتاهم النصر والفتح والظفر فأنت أولى بالتزام هذه الطريقة لأنك مبعوث إلى جميع العالمين، فاصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا. ثم أكد وقوى تعالى هذا الوعد بقوله ولا مبدل لكلمات الله يعني أن وعد الله إياك بالنصر حق وصدق، ولا يمكن تطرق الخلف والتبديل إليه ونظيره قوله تعالى {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين} وقوله {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} وبالجملة فالخلف في كلام الله تعالى محال وقوله {ولقد جاءك من نبإ المرسلين} أي خبرهم في القرآن كيف أنجيناهم ودمرنا قومهم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا} أكد الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بصيغة القسم أن الرسل الذين أرسلوا قبله قد كذبتهم أقوامهم فصبروا على تكذيبهم وإيذائهم لهم إلى أن نصرهم الله تعالى عليهم: أي فإن كذبت فلك أسوة بمن قبلك فلست بدعا من الرسل، وقد صرح بالشرطية في آيات أخرى كقوله تعالى في سورة الحج: {وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح} [الحج:40] الخ وقوله في سورة فاطر: {وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك} [فاطر: 24] الخ {فإن يكذبوك فقد كذبك الذين من قبلهم} [فاطر:5] الخ والآية تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم بعد تسلية، وإرشاد له إلى سنته تعالى في الرسل والأمم أو هي تذكير بهذه السنة، وما تتضمنه من حسن الأسوة، إذ لم تكن هذه الآية أول ما نزل في هذا المعنى، وقد صرح بوجوب هذا الصبر عليه تأسيا في قوله: {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل} [الأحقاف:35] واستقلالا في آيات كثيرة منها ما نزل قبل هذه السورة كقوله تعالى في سورة المزمل: {واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا} [المزمل:10] وقد ثبت بالتجارب أن التأسي يهون المصاب ويفيد شيئا من السلوة.
ولولا أن مقتضى الطبع البشري التأثر بالتأسي لما ظهرت حكمة تكرار التسلية بأمثال هذه الآية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتلو القرآن في الصلاة ولا سيما صلاة الليل فربما يقرأ السورة ولا يعود إليها إلا بعد أيام يفرغ فيها من قراءة ما نزل من سائر السور، فاحتاج إلى تكرار تسليته وأمره بالصبر المرة بعد المرة لأن الحزن والأسف اللذين كانا يعرضان له صلى الله عليه وسلم من شأنهما أن يتكررا بتكرر سببهما وبتذكره حتى عند تلاوة الآيات الواردة في بيان حال الكفار ومحاجتهم وإنذارهم.
و « ما» في قوله تعالى: (على ما كذبوا) مصدرية (وأوذوا) عطف على (كذبوا) أي فصبروا على تكذيب أقوامهم لهم وإيذائهم إياهم. والإيذاء فعل الأذى وهو ما يؤلم النفس أو البدن من قول أو فعل 60. وقد أوذي الرسول صلى الله عليه وسلم بضروب من الإيذاء كما أوذي الرسل قبله – آذاه المشركون في مكة بأقوالهم وأفعالهم، واليهود والمنافقون في المدينة بقدر استطاعتهم.
وقوله تعالى: {حتى أتاهم نصرنا} غاية للصبر أي صبروا على التكذيب وما قارنه من الإيذاء إلى أن جاءهم نصرنا العظيم بالانتقام من أقوامهم، وإنجائنا إياهم ومن آمن معهم من أذاهم وكيدهم، وفيه بشارة للرسول مؤكدة للتسلية بأنه سينصره على المكذبين الظالمين من قومه، وعلى كل من يكذبه ويؤذيه من أمة البعثة، وإيماء إلى حسن عاقبة الصبر، فمن كان أصبر كان أجدر بالنصر، إذا تساوت بين الخصمين سائر أسباب الغلب والقهر. وإضافة النصر إلى ضمير العظمة العائد على العزيز القدير تشعر بعظمة شأنه، وتشير إلى كونه من الآيات المؤيدة لرسله.
{ولا مبدل لكلمات الله} في وعده ووعيده التي منها وعده للرسل بالنصر، وتوعده لأعدائهم بالغلب والخذلان، ولا في غير ذلك من الشرائع والسنن التي اقتضتها الحكمة. والمراد من هذه الكلمات هنا قوله في سورة الصافات: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون} [الصافات: 171-173] اقرأ الآيات إلى آخر السورة، فنفي جنس المبدل لكلمات الله مثبت لكلمته في نصر المرسلين بالدليل – أي أن ذلك النصر قد سبقت به كلمة الله، وكلمات الله لا يمكن أن يبدلها مبدل، فنصر الرسل حتم لا بد منه. وكلمات الله جنس يشمل كلمات الأخبار وإنشاء الأحكام. كما سيأتي في تفسير {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته} [الأنعام: 115] من هذه السورة. وإضافة الكلمات هنا إلى الاسم الأجل الأعظم تشعر بعلة القطع بأنه لا مبدل لها، لأن المبدل لكلمات غيره لا بد أن تكون قدرته فوق قدرته. وسلطانه أعلى من سلطانه. والتبديل عبارة عن جعل شيء بدلا من شيء آخر.
وتبديل الأقوال والكلمات نوعان – تبديل ذاتها بجعل قول مكان قول وكلمة مكان كلمة. ومنه {فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم} [البقرة: 59] وتبديل مدلولها ومضمونها كمنع نفوذ الوعد بالوعيد أو وقوعه على خلاف القول الذي سبق. والمتكلمون الذين يجوزون إخلاف الوعيد يقولون إن لله أن يبدل ما شاء من كلماته، وإنما يستحيل ذلك على غيره، وتبديله إياها لا يشمله النفي في الآية. فإن قيل لهم: قد يشمله ما هو أعم منه في المعنى كقوله تعالى في سورة ق: {ما يبدل القول لدي} [ق: 29] – قالوا إن النصوص الواردة في العفو تخصيص العام من نصوص الوعيد، أو: لا نسلم أن العفو عن بعض المذنبين من قبيل التبديل، وسيأتي بسط هذا البحث في موضع آخر.
{ولقد جاءك من نبإ المرسلين (34)} هذا تقرير وتأكيد لما قبله أي ولقد جاءك بعض نبإ المرسلين في ذلك، أو ولقد جاءك ما ذكر – أو ذلك الذي أشير إليه – من خير التكذيب والصبر والنصر، من نبإ المرسلين الذي قصصناه عليك من قبل، والنبأ الخبر أو ذو الشأن من الأخبار لا كل خبر. وقد روي أن الأنعام نزلت بعد الشعراء والنمل والقصص وهود والحجر المشتملة على نبإ المرسلين بالتفصيل. وكلمة نبأ رسمت في المصحف الإمام بياء هكذا (نبإ) والياء كرسي للهمزة المحذوفة كالنقط، فينطق بالهمزة دونها كما ترسم في وسط الكلمة في مثل نبئهم.
ومن العبرة في الآية أن الله تعالى وعد المؤمنين ما وعد المسلمين من النصر فقال: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا يوم يقوم الأشهاد} [غافر: 51] وقال: {ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين} [الروم: 45] وهي نص في تعليل النصر بالإيمان. ولكننا نرى كثيرا من الذين يدعون الإيمان في هذه القرون الأخيرة غير منصورين، فلا بد أن يكونوا في دعوى الإيمان غير صادقين، أو يكونوا ظالمين غير مظلومين، ولأهوائهم لا لله ناصرين، ولسننه في أسباب النصر غير متبعين؛ وإن الله لا يخلف وعده، ولا يبطل سننه، وإنما ينصر المؤمن الصادق، وهو من يقصد نصر الله وإعلاء كلمته، ويتحرى الحق والعدل في حربه، لا الظالم الباغي على ذي الحق والعدل من خلقه، يدل على ذلك أول ما نزل في شرع القتال من سورة الحج {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} [الحج: 37] – إلى قوله – {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز}.
فأما الرسل الذين نصرهم الله تعالى ومن معهم فقد كانوا كلهم مظلومين، وبالحق والعدل معتصمين، ولله ناصرين. وقد اشترط مثل ذلك في نصر سائر المؤمنين في سورة القتال {يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} [محمد: 8] والإيمان سبب حقيقي من أسباب النصر المعنوية يكون مرجحا بين من تساوت أسبابهم الأخرى، فليس النصر به من خوارق العادات. وأما تأييد الله تعالى للرسل بإهلاك أقوامهم المعاندين فهو أمر آخر زائد على تأثير الإيمان في الثبات والصبر، والاتكال على الله تعالى عند اشتداد البأس، وعروض أسباب اليأس، ومن كان حظه من صفات الإيمان ولوازمه أكبر، كان إلى نيل النصر أقرب، إذا كان مساويا لخصمه في سائر أسباب القتال، ولا سيما حسن النظام وجودة السلاح، وقد سبق لنا كلام في هذه المسألة في مواضع من التفسير وغيره (راجع كلمة « نصر» من فهارس أجزاء التفسير ومجلدات المنار).
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويستطرد من تطييب خاطر الرسول صلى الله عليه وسلم وبيان الأسباب الحقيقية لموقف المكذبين منه ومن دعوته، ومن آيات الله الناطقة بصدقه وصدق ما جاء به.. يستطرد من هذا إلى تذكيره بما وقع لإخوانه الرسل قبله -وقد جاءه من أخبارهم في هذا القرآن- ثم ما كان منهم من الصبر والمضي في الطريق، حتى جاءهم نصر الله. ليقرر أن هذه هي سنة الدعوات التي لا تتبدل، ولا يغير منها اقتراحات المقترحين، كما أنها لا تستعجل مهما ينزل بالدعاة من الأذى والتكذيب والضيق: (ولقد كذبت رسل من قبلك، فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا، ولا مبدل لكلمات الله، ولقد جاءك من نبأ المرسلين).. إن موكب الدعوة إلى الله موغل في القدم، ضارب في شعاب الزمن، ماض في الطريق اللاحب، ماض في الخط الواصب.. مستقيم الخطي، ثابت الأقدام. يعترض طريقه المجرمون من كل قبيل، ويقاومه التابعون من الضالين والمتبوعون، ويصيب الأذى من يصيب من الدعاة، وتسيل الدماء وتتمزق الأشلاء.. والموكب في طريقه لا ينحني ولا ينثني ولا ينكص ولا يحيد.. والعاقبة هي العاقبة، مهما طال الزمن ومهما طال الطريق.. إن نصر الله دائما في نهاية الطريق..كلمات يقولها الله -سبحانه- لرسوله صلى الله عليه وسلم.. كلمات للذكرى، وللتسرية وللمواساة، والتأسية.. وهي ترسم للدعاة إلى الله من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقهم واضحا، ودورهم محددا، كما ترسم لهم متاعب الطريق وعقباته، ثم ما ينتظرهم بعد ذلك كله في نهاية الطريق.
ومادام محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسولا إلى الناس كافة فعليه أن يجد المتاعب الكثيرة ويتحملها. وقد أعده الله وهيأه لذلك، وقد أخذ الرسل السابقون من الإيذاء على قدر دعوتهم. أما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو للناس كافة، ولا رسالة من بعده، لذلك يتجمع ضد هذا الرسول وهذه الرسالة أقوام كثيرون. ولذلك يقول له الحق سبحانه: {لقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين (34)}. فإذا كان الرسل الذين سبقوك قد كذبوا وصبروا على ذلك، وهم رسل لقومهم أو لأمة خاصة، ولزمان خاص، فماذا عنك يا خاتم الرسل وأنت للناس كافة وللأزمان عامة؟ إن عليك أن تتحمل هذا؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قد اختارك لهذه المهمة وهو العليم أنك أهل لها. والحق كفيل بنصر رسله فلا يتأتى أن يترك الشر أو الباطل ليغلب الرسل، وما دام سبحانه وتعالى قد بعث الرسول فلا بد أن ينصره...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ} بكل أنواع الأذى، فلم يتأففوا ولم يحزنوا، بل صمدوا في وجه القوى المضادّة، لأنهم وعوا الحقيقة العملية التي تقول: إن قضية صنع القوّة تبدأ بثبات الإنسان أمام تحديات القوّة، لأنه بذلك يحصل على قوّةٍ سلبيّة سوف تتحول إلى قوّة إيجابيّةٍ فاعلةٍ في الساحة الرسالية الكبرى، لأنه بذلك يفسح المجال للعوامل التي تُضعف القوى الأخرى أن تعمل عملها، كما يعطي الفرصة للعوامل الجديدة التي تقوّي الأفكار القادمة لكي تخطو خطواتها الأولى في حركة الزمن، لأن انطلاقة التطور في عملية الهدم والبناء قد تحتاج إلى وقتٍ طويلٍ يحمل الكثير من الآلام والمتاعب والدموع في طريق الهدف الواعد الكبير {حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} لأن الله لا يحقق للنصر حركته إلا من خلال سننه الحتمية في الحياة، التي تواجه عاديات الزمن، وتلك هي كلمات الله التكوينيّة التي تتحول إلى سننٍ وقوانين في وعي الطبيعة {وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ}. {وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ} فليكن ذلك هو الهدى الذي تستهدي به في خطواتك الجديدة المتحركة أبداً نحو التغيير في كل شيء، فإن الله قد أراد لكل رسول أن لا يبدأ من حيث يبدأ الآخرون، بل أن يواصل المسيرة من حيث ينتهي الآخرون في مسيرتهم، ما يجعل من الساحة ساحة تجارب تغييرية حقيقية.. وماذا بعد ذلك؟...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تشير هذه الآية في الواقع إِلى مبدأ عام هو أنّ قادة المجتمع الصالحين الذين يسعون لهداية الشعوب عن طريق الدعوة إِلى مبادئ وتعاليم بناءة، وبمحاربة الأفكار المنحطة والخرافات السائدة والقوانين المغلوطة في المجتمع، يواجهون معارضة شديدة من جانب فريق الانتهازيين الذين يرون في انتشار تلك التعاليم والمبادئ البناءة خطراً يتهدد مصالحهم، فلا يتركون وسيلة إِلاّ استخدموها لترويج أهدافهم المشؤومة، ولا يتورعون حتى عن التوسل بالتكذيب والاتهام، والحصار الاجتماعي، والإِيذاء والتعذيب، والسلب والنهب، والقتل، وبكل ما يخطر لهم من سلاح لمحاربة أُولئك المصلحين. إِلاّ أنّ الحقيقة، بما فيها من قوة الجاذبية والعمق، وبموجب السنة الإِلهية، تعمل عملها وتزيل من الطريق كل تلك الأشواك، إِلاّ أنّ شرط هذا الانتصار هو الصبر والمقاومة والثبات. تعبر هذه الآية عن السنن بعبارة «كلمات الله»، لأنّ الكلم والكلام في الأصل التأثير المدرك بإِحدى الحاستين، السمع أو البصر، فالكلام مدرك بحاسة السمع، والكلم بحاسة البصر، وكلمته: جرحته جراحة بان تأثيرها، ثمّ كان توسع في إِطلاق «الكلمة» على الألفاظ والمعاني وحتى على العقيدة والسلوك والسنة والتعاليم...