اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَقَدۡ كُذِّبَتۡ رُسُلٞ مِّن قَبۡلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰٓ أَتَىٰهُمۡ نَصۡرُنَاۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِ ٱللَّهِۚ وَلَقَدۡ جَآءَكَ مِن نَّبَإِيْ ٱلۡمُرۡسَلِينَ} (34)

لما أزال الحُزْنَ عن قَلْبِ رسوله - عليه الصلاة والسلام - في الآية الأولى بأن بَيَّنَ أن تكذيبهم يَجْريِ مجرى تكذيب الله -تعالى- ذكر في هذه الآية طريقاً آخر في إزالةِ الحُزْنِ عن قلبه وذلك بأنْ بَيَّنَ أن سائر الأمم عاملوا أنبياءهم بمثلِ هذه المعاملة ، وأن أولئك صَبَرُوا على تكذيبهم وإيذائهم حتى آتاهم الله النَّصْرَ والفَتْحَ والظَّفر ، فوجب أن يقتدي بهم في هذه الطريقة .

قوله : " من قبلك " متعلّق ب " كَذَّبت " .

ومنع أبو البقاء يكون صفة ل " رسل " ؛ لأنه زَمَانٌ ، والزَّمَانُ لا تُوصَفُ به الجُثَثُ ، وقد تقدَّم البَحْثُ في ذلك في " البقرة " ، وهنا عند قوله : { وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً } [ الأنعام :6 ] .

قوله : " وأوذُوا " يجوز فيه أربعة أوجه :

أظهرها : أنه عَطْفٌ على قوله : " كُذِّبَتْ " أي : كُذِّبت الرُّسُلُ ، وأوذوا ، فصبروا على ذلك .

والثاني : أنه مَعْطُوفٌ على " صَبَرُوا " أي : فَصَبَرُوا وأوذوا .

والثالث ، وهو بَعِيدٌ : أن يكون مَعْطُوفاً على " كُذِّبوا " ، فيكون دَاخِلاً في صلة الحرف المَصْدَرِيّ ، والتَّقْدِير فيه : فصبروا على تكذيبهم وإيذائهم .

والرابع : أن يكون مُسْتَأنفاً .

قال أبو البقاء{[13746]} : " ويجوز أن يكون الوَقْفُ ثَمَّ على قوله : " كُذِّبوا " ، ثم استأنف فقال : وأوذُوا " .

وقرأ الجُمْهُور{[13747]} : " وأوذُوا " بواو بعد الهمزة ؛ [ من " آذى " " يؤذي " رباعياً .

وقرأ{[13748]} ابن عامر في رواية شاذّةٍ : " وأذُوا " من غير واو بعد الهمزة ]{[13749]} وهو من " أذَيْتُ " الرجل ثلاثياً لا من " آذيت " رباعياً .

قوله : { حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا } الظَّاهر أن هذه الغايةَ متعلقةٌ بقوله : " فصبروا " ، أي : كان غَايَةُ صَبْرِهِمْ نَصْرَ الله إياهم ، وإن جَعَلْنَا " وأوذُوا " عَطْفاً عليه كانت غَايَةً لهما ؛ وهو أوضح وإن جعلناه مُسْتَأنَفاً كانت غَايَةً له فقط ، وإن جعلناه معطوفاً على " كَذَّبت " فتكون الغايةُ للثلاثة ، و " النصر " مُضَافاً لفاعله ومفعوله مَحْذُوفٌ ، أي : نَصْرُنَا أتَاهم ، وفيه التِفَاتٌ من ضمير الغَيْبَةِ إلى ضمير المتكلِّم ، إذ قَبْله " بآيات الله " ، فلو جاء على ذلك لقيل " نصره " .

وفائدة الالتِفَاتِ إسْنَادُ النصر إلى ضمير المتكلّم المشعر بالعظمة .

قوله : " ولا مُبَدِّل لِكلمَاتِ اللَّهِ " يعني أن وَعْدَ الله إيَّاك بالنصر حَقٌ وصدقٌ لا يمكن تَطَرُّقٌ الخُلْفِ والتبديل إليه ، كقوله تعالى :

{ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُون }

[ الصافات :171 ، 172 ] وقوله : { كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ } [ المجادلة :21 ] وهذه الآية تَدُلُّ على قول أهل السُّنَةِ في خَلْقِ الأفعال ؛ لأن كل ما أخبر الله عن وُقُوعِهِ ، فذلك الخبرُ مُمْتَنِعُ التغيير ، وإذا امتنع تَطَرُّقُ التغيير إلى ذلك الخبر امتنع [ تطرق التغيير إلى المخبر عنه ]{[13750]} فإذا أخبر الله عن بعضهم بأنه يَمُوتُ على الكُفْرِ كان ترك الكفر منه مُحَالاً ، فكان تَكْلِيفُهُ بالإيمان تَكْلِيفاً بما لا يُطَاقُ ، واللَّهُ أعلمُ .

قوله : { وَلَقدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ } أي : خبرهم في القرآن كيف أنجيناهم ودمَّرنا قومهم .

وفي فاعل " جاء " وجهان :

أحدهما : هو مُضْمرٌ ، واختلفوا فيما يَعُودُ عليه هذا الضمير ، فقال ابن عطية{[13751]} الصَّوابُ عندي أن يقدر " جلاء " أو بيان " .

وقال الرُّمَّاني : تقديره : " نبأ " .

وقال أبو حيَّان{[13752]} : " الذي يظهر لي أنَّهُ يعود على ما دلَّ عليه المعنى من الجملة السَّابقة ، أي : ولقد جاءك هذا الخَبَرُ من تكذيب أتْبَاع الرُّسُلِ للرُّسُلِ ، والصَّبْر والإيذاء إلى أن نُصِرُوا " .

وعلى هذه الأقوال يكون " من نبأ المرسلين " في مَحَلِّ نصب على الحال وعاملها هو " جاء " ؛ لأنه عامل في صاحبها .

والثاني : أنَّ " من نبأ " هو الفاعل . ذكر الفارسي ، وهذا إنما يَتَمشَّى له على رأي الأخفش{[13753]} ؛ لأنه لا يشترط في زيادتها شيئاً ، وهذا - كما رأيت - كلامٌ مُوجبٌ ، والمجرور ب " مِنْ " معرفةٌ .

وضُعفَ أيضاً{[13754]} من جهة المعنى بأنه لم يَجئه كُلُّ نبأ للمرسلين ؛ لقوله : { مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ }

[ غافر :78 ] ، وزيادة " مِنْ " تؤدِّي إلى أنه جاءه جميع الأنباء ؛ لأنه اسم جنس مُضَاف ، والأمْرُ بخلافه . ولم يتعرّض الزمخشري{[13755]} للفاعل إلاَّ أنه قال : " ولقد جاءك من نبأ المرسلين بعضُ أنبائهم وقصصهمْ " وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب ؛ إذ " مِنْ " لا تكون فاعلة ، ولا يجوز أن يكون " من نبأ " صِفَةً لمحذوف هو الفاعل ، أي : ولقد جاءكَ نبأ من نبأ المرسلين ؛ لأن الفاعل لا يُحْذفُ بحالٍ إلاَّ في مواضعَ ذُكِرَت ، كذا قالوا .

قال أبو البقاء{[13756]} : " ولا يجوز عند الجميع أن تكون " من " صفة لمحذوف ، لأن الفاعل لا يُحْذَفُ ، وحرف الجر إذا لم يكون زائداً لم يصحَّ أن يكون فاعلاً ؛ لأن حرف الجر يُعَدّي كل فعل يعمل في الفاعل من غير تعدِّ " .

يعني بقوله : " لم يصح أن يكون فاعلاً " لم يصح أن يكون المجرور بذلك الحرف ، وإلاَّ فالحرفُ لا يكونُ فاعلاً ألْبَتَّةَ .


[13746]:ينظر: الإملاء 1/240.
[13747]:ينظر: الدر المصون 3/49.
[13748]:ينظر: الدر المصون 3/49.
[13749]:سقط في ب.
[13750]:سقط في أ.
[13751]:ينظر: المحرر الوجيز 2/287.
[13752]:ينظر: البحر المحيط 4/118.
[13753]:ينظر: معاني القرآن 274.
[13754]:في ب: وضعف هذا أيضا.
[13755]:ينظر: الكشاف 2/18.
[13756]:ينظر: الإملاء 1/240.