البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَلَقَدۡ كُذِّبَتۡ رُسُلٞ مِّن قَبۡلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰٓ أَتَىٰهُمۡ نَصۡرُنَاۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِ ٱللَّهِۚ وَلَقَدۡ جَآءَكَ مِن نَّبَإِيْ ٱلۡمُرۡسَلِينَ} (34)

{ ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا } قال الضحاك وابن جريج : عزى الله تعالى نبيه بهذه الآية فعلى قولهما يكون هو صلى الله عليه وسلم قد كذب وهو مناف لقوله : فإنهم لا يكذبونك وزوال المنافاة بما تقدم من التأويلات كقول الزمخشري وغيره أن قوله : { لا يكذبونك } ليس هو من نفي تكذيبه حقيقة .

قال : وإنما هو من باب قولك لغلامك : ما أهانوك ولكن أهانوني وجاء قوله : { ولقد كذبت رسل من قبلك } تسلية له صلى الله عليه وسلم ولما سلاه تعالى بأنهم بتكذيبك إنما كذبوا الله تعالى سلاه ثانياً بأن عادة أتباع الرسل قبلك تكذيب رسلهم ، وأن الرسل صبروا فتأسَّ بهم في الصبر ، وما في قوله : { ما كذبوا } مصدرية أي فصبروا على تكذيبهم والمعنى فتأسّ بهم في الصبر على التكذيب والأذى حتى يأتيك النصر والظفر كما أتاهم .

قال ابن عباس : { فصبروا على ما كذبوا } رجاء ثوابي وأوذوا حتى نشروا بالمناشير وحرقوا بالنار ، حتى أتاهم نصرنا بتعذيب من يكذبهم ؛ انتهى .

ويحتمل { وأوذوا } أن يكون معطوفاً على قوله : { كذبت } ويحتمل أن يكون معطوفاً على قوله { فصبروا } ويبعد أن يكون معطوفاً على { كذبوا } ويكون التقدير فصبروا على تكذيبهم وإيذائهم ، وروي عن ابن عامر أنه قرأ وأذوا بغير واو بعد الهمزة جعله ثلاثياً لا رباعياً من أذيت فلاناً لا من آذيت ، وفي قوله : { نصرنا } التفات إذ قبله بآيات الله وبلاغة هذا الالتفات أنه أضاف النصر إلى الضمير المشعر بالعظمة المتنزل فيه الواحد منزلة الجمع والنصر مصدر أضيف إلى الفاعل والمفعول محذوف أي نصرنا إياهم على مكذبيهم ومؤذيهم ، والظاهر أن الغاية هنا الصبر والإيذاء لظاهر عطف { وأوذوا } على { فصبروا } وإن كان معطوفاً على { كذبوا } فتكون الغاية للصبر أو معطوفاً على { كذبت } فغاية له وللتكذيب أو للإيذاء فقط .

{ ولا مبدل لكلمات الله } قال ابن عباس : أي لمواعيد الله ولم يذكر الزمخشري غيره قال : لمواعيده من قوله { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون } وقال الزجاج لما أخبر به وما أمر به والإخبار والأوامر من كلمات الله ، واقتصر ابن عطية على بعض ما قال الزجاج فقال : ولا رادَّ لأوامره .

وقيل : المعنى لحكوماته وأقضيته ، كقوله { ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين } أي وجب ما قضاه عليهم .

وقيل : المعنى لا يقدر أحد على تبديل كلمات الله وإن زخرف واجتهد ، لأنه تعالى صانه برصين اللفظ وقويم المعنى أن يخلط بكلام أهل الزيغ .

وقيل : اللفظ خبر والمعنى على النهي أي لا يبدل أحد كلمات الله ، فهو كقوله { لا ريب فيه } أي لا يرتابون فيه على أحد الأقوال .

{ ولقد جاءك من نبأ المرسلين } هذا فيه تأكيد تثبيت لما تقدم الإخبار به من تكذيب أتباع الرسل للرّسل وإيذائهم وصبرهم إلى أن جاء النصر لهم عليهم والفاعل بجاء .

قال الفارسي : هو من نبأ ومن زائدة أي ولقد جاءك نبأ المرسلين ، ويضعف هذا لزيادة من في الواجب .

وقيل : معرفة وهذا لا يجوز إلا على مذهب الأخفش ، ولأن المعنى ليس على العموم بل إنما جاء بعض نبأهم لا أنباؤهم ، لقوله { منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك } وقال الرماني : فاعل جاءك مضمر تقديره : ولقد جاءك نبأ .

وقال ابن عطية : الصواب عندي أن يقدر جلاء أو بيان ، وتمام هذا القول والذي قبله أن التقدير : ولقد جاء هو من نبإ المرسلين أي نبأ أو بيان ، فيكون الفاعل مضمراً يفسر بنبإ أو بيان لا محذوفاً لأن الفاعل لا يحذف والذي يظهر لي أن الفاعل مضمر تقديره هو ، ويدلّ على ما دلّ عليه المعنى من الجملة السابقة أي ولقد جاءك هذا الخبر من تكذيب أتباع الرسل للرسل والصبر والإيذاء إلى أن نصروا ، وأن هذا الإخبار هو بعض نبإ المرسلين الذين يتأسى بهم و { من نبإ } في موضع الحال ، وذو الحال ذلك المضمر والعامل فيها وفيه { جاءك } فلا يكون المعنى على هذا ولقد جاءك نبأ أو بيان إلا أن يراد بالنبإ والبيان هذا النبأ السابق أو البيان السابق ، وأما الزمخشري فلم يتعرض لفاعل جاء بل قال : { لقد جاءك من نبأ المرسلين } بعض أنبائهم وقصصهم ، وهو تفسير معنى لا تفسير إعراب لأن من لا تكون فاعلة .