قوله تعالى : { إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب } جمع سوار { ولؤلؤاً } قرأ أهل المدينة وعاصم ( ( ولؤلؤاً ) ) هاهنا وفي سورة الملائكة بالنصب وافق يعقوب هاهنا على معنى ويحلون لؤلؤاً ، ولأنها مكتوبة في المصاحف بالألف ، وقرأ الآخرون : بالخفض عطفاً على قوله : ( ( من ذهب ) ) ، وترك الهمزة الأولى في كل القرآن أبو جعفر وأبو بكر ، واختلفوا في وجه إثبات الألف فيه ، فقال أبو عمرو : أثبتوها فيها كما أثبتوا في : قالوا وكانوا . وقال الكسائي : أثبتوها للهمزة ، لأن الهمزة حرف من الحروف { ولباسهم فيها حرير } أي : يلبسون في الجنة ثياب الإبريسم وهو الذي حرم لبسه في الدنيا على الرجال .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا عبد الرحمن بن أبي شريح ، أنبأنا أبو القاسم البغوي ، أنبأنا علي بن الجعد ، أنبأنا شعبة ، عن قتادة ، عن داود السراج ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه الله إياه في الآخرة ، فإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو " .
{ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } ومعلوم أن هذا الوصف لا يصدق على غير المسلمين ، الذين آمنوا بجميع الكتب ، وجميع الرسل ، { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ } أي : يسورون في أيديهم ، رجالهم ونساؤهم أساور الذهب .
{ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } فتم نعيمهم بذكر أنواع المأكولات اللذيذات المشتمل عليها ، لفظ الجنات ، وذكر الأنهار السارحات ، أنهار الماء واللبن والعسل والخمر ، وأنواع اللباس ، والحلي الفاخر .
ثم مشهد من مشاهد القيامة يتجلى فيه الإكرام والهوان ، في صورة واقع يشهد كأنه معروض للعيان :
هذا خصمان اختصموا في ربهم . فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ، يصب من فوق رؤوسهم الحميم ، يصهر به ما في بطونهم والجلود ؛ ولهم مقامع من حديد ، كلما أرادوا أن يخرجوا منها - من غم - أعيدوا فيها . وذوقوا عذاب الحريق . إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار ، يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير .
إنه مشهد عنيف صاخب ، حافل بالحركة ، مطول بالتخييل الذي يبعثه في النفس نسق التعبير . فلا يكاد الخيال ينتهي من تتبعه في تجدده . .
هذه ثياب من النار تقطع وتفصل ! وهذا حميم ساخن يصب من فوق الرؤوس ، يصهر به ما في البطون والجلود عند صبه على الرؤوس ! وهذه سياط من حديد أحمته النار . . وهذا هو العذاب يشتد ، ويتجاوز الطاقة ، فيهب ( الذين كفروا )من الوهج والحميم والضرب الأليم يهمون بالخروج من هذا( الغم )وها هم أولاء يردون بعنف ، ويسمعون التأنيب : ( وذوقوا عذاب الحريق ) . .
ويظل الخيال يكرر هذه المشاهد من أولى حلقاتها إلى أخراها ، حتى يصل إلى حلقة محاولة الخروج والرد العنيف ، ليبدأ في العرض من جديد !
ولا يبارح الخيال هذا المشهد العنيف المتجدد إلا أن يلتفت إلى الجانب الآخر ، الذي يستطرد السياق إلى عرضه . فأصل الموضوع أن هناك خصمين اختصموا في ربهم . فأما الذين كفروا به فقد كنا نشهد مصيرهم المفجع منذ لحظة ! وأما الذين آمنوا فهم هنالك في الجنات تجري من تحتها الأنهار . وملابسهم لم تقطع من النار ، إنما فصلت من الحرير . ولهم فوقها حلى من الذهب واللؤلؤ . وقد هداهم الله إلى الطيب من القول ، وهداهم إلى صراط الحميد . فلا مشقة حتى في القول أو في الطريق . . والهداية إلى الطيب من القول ، والهداية إلى صراط الحميد نعمة تذكر في مشهد النعيم . نعمة الطمأنينة واليسر والتوفيق .
وتلك عاقبة الخصام في الله . فهذا فريق وذلك فريق . . فليتدبر تلك العاقبة من لا تكفيه الآيات البينات ، ومن يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير . .
لما أخبر تعالى عن حال أهل النار ، عياذًا بالله من حالهم ، وما هم فيه من العذاب والنَّكال والحريق والأغلال ، وما أعد لهم من الثياب من النار ، ذكر حال أهل الجنة - نسأل الله من فضله وكرمه أن يدخلنا الجنة - فقال : { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } أي : تتخَرّق في أكنافها وأرجائها وجوانبها ، وتحت أشجارها وقصورها ، يصرفونها حيث شاءوا وأين شاءوا ، { يُحَلَّوْنَ فِيهَا } من الحلية ، { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا } أي : في أيديهم ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه : " تبلغ الحِلْيَة من المؤمن حيث يبلغ الوُضُوء " {[20097]} .
وقال كعب الأحبار : إن في الجنة ملكًا لو شئت أن أسميه لسميتُه ، يصوغ لأهل الجنة الحلي منذ خلقه الله إلى يوم القيامة ، لو أبرز قُلْب منها - أي : سوار منها - لرد شعاع الشمس ، كما ترد{[20098]} الشمس نور القمر .
وقوله : { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } : في مقابلة ثياب أهل النار التي فصلت لهم ، لباس هؤلاء من الحرير ، إستبرقه وسُنْدُسه ، كما قال : { عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا . إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا } [ الإنسان : 21 ، 22 ] ، وفي الصحيح : " لا تلبسوا الحرير ولا الديباج في الدنيا ، فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة " {[20099]} .
قال عبد الله بن الزبير : ومن لم يلبس الحرير في الآخرة ، لم يدخل الجنة ، قال الله تعالى : { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ }
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ اللّهَ يُدْخِلُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ يُحَلّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَهُدُوَاْ إِلَى الطّيّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوَاْ إِلَىَ صِرَاطِ الْحَمِيدِ } .
يقول تعالى ذكره : وأما الذين آمنوا بالله بالله ورسوله فأطاعوهما بما أمرهم الله به من صالح الأعمال ، فإن الله يُدخلهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار ، فيحلّيهم فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَلُؤْلُؤا فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة وبعض أهل الكوفة نصبا مع التي في الملائكة ، بمعنى : يحلون فيها أساور من ذهب ولؤلؤا ، عطفا باللؤلؤ على موضع الأساور لأن الأساور وإن كانت مخفوضة من أجل دخول «مِنْ » فيها ، فإنها بمعنى النصب قالوا : وهي تعدّ في خط المصحف بالألف ، فذلك دليل على صحة القراءة بالنصب فيه . وقرأت ذلك عامة قرّاء العراق والمصرين : «وَلُؤْلُؤٍ » خفضا عطفا على إعراب الأساور الظاهر .
واختلف الذي قرءوا ذلك كذلك في وجه إثبات الألف فيه ، فكان أبو عمرو بن العلاء فيما ذكر لي عنه يقول : أثبتت فيه كما أثبتت في «قالوا » و «كالوا » . وكان الكسائي يقول : أثبتوها فيه للهمزة ، لأن الهمزة حرف من الحروف .
والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، متفقتا المعنى صحيحتا المخرج في العربية فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
وقوله : وَلِباسُهُمْ فيها حَرِيرٌ يقول : ولبوسهم التي تلي أبشارهم فيها ثياب حرير .
{ إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار } غير الأسلوب فيه وأسند الإدخال إلى الله تعالى وأكده بإن إحمادا لحال المؤمنين وتعظيما لشأنهم . { يحلون فيها } من حليت المرأة إذا ألبستها الحلى ، وقرىء بالتخفيف والمعنى واحد . { من أساور } صفة مفعول محذوف و { أساور } جمع أسورة وه جمع سوار . { من ذهب } بيان له . { ولؤلؤا } عطف عليها لا على { ذهب } لأنه لم يعهد السوار منه إلا يراد المرصعة به ، ونصبه نافع وعاصم عطفا على محلها أو إضمار الناصب مثل ويؤتون ، وروى حفص بهمزتين وترك أبو بكر والسوسي عن أبي عمرو الهمزة الأولى ، وقرئ " لؤلؤا " بقلب الثانية واوا و " لوليا " بقلبهما ، و " لوين " ثم قلب الثانية ياء و " ليليا " بقلبهما ياءين و " لول " كأدل . { ولباسهم فيها حرير } غير أسلوب الكلام فيه للدلالة على أن الحرير ثيابهم المعتادة ، أو للمحافظة عل هيئة الفواصل .
هذه الآية معادلة لقوله : { فالذين كفروا } [ الحج : 19 ] وقرأ الجمهور «يُحلون » بضم الياء وشد اللام من الحلي ، وقرأ ابن عباس «يَحلَون » بفتح الياء واللام وتخفيفها ، يقال حلي الرجال وحليت المرأة إذا صارت ذات حلي وقيل هي من قولهم لم يحل فلان بطائل{[8335]} ، و { من } في قوله { من أساور } هي لبيان الجنس ويحتمل أن تكون للتبعيض ، و «الأساور » جمع سوار وإسوار بكسر الهمزة ، وقيل { أساور } جمع أسورة وأسورة جمع سوار ، وقرأ ابن عباس من «أسورة من ذهب » ، و «اللؤلؤ » الجوهر وقيل صغاره وقيل كباره والأشهر أنه اسم للجوهر ، وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر{[8336]} «ولؤلؤاً » بالنصب عطفاً على موضع الأساور لأن التقدير يحلون أساور ، وهي قراءة الحسن والجحدري وسلام ويعقوب والأعرج وأبي جعفر وعيسى بن عمر ، وحمل أبو الفتح نصبه على إضمار فعل ، وقرأ الباقون من السبعة و «لؤلؤٍ » بالخفض عطفاً إما على لفظ الأساور ويكون اللؤلؤ في غير الأساور ، وإما على الذهب لأن الأساور أيضاً تكون «من ذهب » و «لؤلؤ » قد جمع بعضه إلى بعض ، ورويت هذه القراءة عن الحسن بن أبي الحسن وطلحة وابن وثاب والأعمش وأهل مكة ، وثبتت في الإمام ألف بعد الواو قاله الجحدري ، وقال الأصمعي : ليس فيها ألف ، وروى يحيى عن أبي بكر عن عاصم همز الواو الثانية دون الأولى ، وروى المعلى بن منصور عن أبي عن عاصم ضد ذلك ، قال أبو علي : همزهما وتخفيفهما وهمز إحداهما دون الأخرى جائز كله ، وقرأ ابن عباس «ولئلئاً » بكسر اللامين ، وأخبر عنهم بلباس الحرير لأنها من أكمل حالات الآخرة ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة »{[8337]} وقال ابن عباس : لا تشبه أمور الآخرة أمور الدنيا إلا في الأسماء فقط وإما الصفات فمتباينة .
كان مقتضى الظاهر أن يكون هذا الكلام معطوفاً بالواو على جملة { فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار } [ الحج : 19 ] لأنه قسيم تلك الجملة في تفصيل الإجمال الذي في قوله : { هذان خصمان اختصموا في ربهم } [ الحج : 19 ] بأن يقال : والذين آمنوا وعملوا الصالحات يُدخلهم الله جنات . . . إلى آخره . فعدل عن ذلك الأسلوب إلى هذا النظم لاسترعاء الأسماع إلى هذا الكلام إذا جاء مبتدأ به مستقلاً مفتتحاً بحرف التأكيد ومتوّجاً باسم الجلالة ، والبليغ لا تفوته معرفة أنّ هذا الكلام قسيم للذي قبله في تفصيل إجمال { هذان خصمان اختصموا في ربهم } [ الحج : 19 ] لوصف حال المؤمنين المقابل لحال الذين كفروا في المكان واللباس وخطاب الكرامة .
فقوله : { يدخل الذين آمنوا } الخ مقابل قوله : { كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها } [ الحج : 22 ] . وقوله : { يحلون فيها من أساور من ذهب } يقابل قوله { يصب من فوق رؤوسهم الحميم } [ الحج : 19 ] . وقوله : { ولباسهم فيها حرير } مقابل قوله : { قطعت لهم ثياب من نار } [ الحج : 19 ] . وقوله : { وهدوا إلى الطيب من القول } مقابل قوله : { وذوقوا عذاب الحريق } [ الحج : 22 ] فإنه من القول النكِد .
والتحليّة وضع الحَلْي على أعضاء الجسم . حَلاّه : ألبسه الحَلي مثل جلبب .
والأساور : جمع أسورة الذي هو جمع سِوار . أشير بجمع الجمع إلى التكثير كما تقدم في قوله : { يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثياباً خضراً } في [ سورة الكهف : 31 ] .
و ( مِن ) في قوله { من أساور } زائدة للتوكيد . ووجهه أنه لما لم يعهد تحلية الرجال بالأساور كان الخبر عنهم بأنهم يُحلّون أساور معرّضاً للتردد في إرادة الحقيقة فجيء بالمؤكد لإفادة المعنى الحقيقي ، ولذلك ف { أساور } في موضع المفعول الثاني ل { يُحلَّون } .
{ ولؤلؤاً } قرأه ناقع ، ويعقوب ، وعاصم بالنصب عطفاً على محل { أساور } أي يحلون لؤلؤاً أي عقوداً ونحوها . وقرأه الباقون بالجرّ عطفاً على اللفظ والمعنى : أساور من ذهب وأساور من لُؤلؤ .
وهي مكتوبة في المصحف بألف بعد الواو الثانية في هذه السورة فكانت قراءة جر { لؤلؤ } مخالفة لمكتوب المصحف . والقراءة نقل ورواية فليس اتباع الخط واجباً على من يروي بما يخالفه . وكتب نظيره في سورة فاطر بدون ألف ، والذين قرأوه بالنصب خالفوا أيضاً خط المصحف واعتمدوا روايتهم .
وسريان معنى التأكيد على القراءتين واحد لأنّ التأكيد تعلّق بالجملة كلها لا بخصوص المعطوف عليه حتى يحتاج إلى إعادة المؤكد مع المعطوف .
واللؤلؤ : الدرّ . ويقال له الجمان والجوهر . وهو حبوب بيضاء وصفراء ذات بريق رقراق تُستخرج من أجواف حيوان مائي حَلزوني مستقرّ في غلاف ذي دفتين مغلقتين عليه يفتحهما بحركة حيوية منه لامتصاص الماء الذي يسبح فيه ويسمى غِلافه صَدفاً ، فتوجد في جوف الحيوان حبة ذات بريق وهي تتفاوت بالكبر والصغر وبصفاء اللون وبياضه . وهذا الحيوان يوجد في عدّة بحار : كبحر العجم وهو المسمّى بالبحرين ، وبحر الجابون ، وشط جزيرة جربة من البلاد التونسية ، وأجوده وأحسنه الذي يوجد منه في البحرين حيث مصب نهري الدجلة والفرات ، ويستخرجه غَوّاصون مدَرّبون على التقاطه من قعر البحر بالغوص ، يغوص الغائص مُشدوداً بحبل بيد مَن يمسكه على السفينة وينتشله بعد لحظة تكفيه للالتقاط .
وقد جاء وصف ذلك في قول المسيب بن علَس أو الأعشى :
لَجمانة البحريّ جاء بها *** غَوّاصها من لُجّة البحر
نَصفَ النّهارَ الماء غامره . . . ورفيقه بالغيب لا يدري
وقال أبو ذؤيب الهذلي يصف لؤلؤة :
فجَاءَ بِها ما شئتَ من لَطَمِيّة *** على وجهها ماء الفرات يموج
وقد أشارت إليه آية [ سورة النحل : 14 ] { وهو الذي سخر لكم البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً وتستخرجوا منه حلية تلبسونها } ولما كانت التحلية غير اللباس جيء باسم اللباس بعد يُحَلّون } بصيغة الاسم دون ( يلبسون ) لتحصيل الدلالة على الثّبات والاستمرار كما دلّت صيغة { يُحَلّون } على أن التحلية متجددة بأصناف وألوان مختلفة ، ومن عموم الصيغتين يفهم تحقق مثلها في الجانب الآخر فيكون في الكلام احتباك كأنه قيل : يحلّون بها وحليتهم من أساور من ذهب ولباسهم فيها حرير يلبسونه .
والحرير : يطلق على ما نسج من خيوط الحرير كما هنا . وأصل اسم الحرير اسم لخيوط تفرزها من لعابها دودة مخصوصة تلفّها لَفّاً بعضها إلى بعض مثل كُبّة تلتئم مشدودة كصورة الفول السوداني تحيط بالدودة كمثل الجوزة وتمكث فيه الدودة مدّة إلى أن تتحول الدودة إلى فراشة ذات جناحين فتثقب ذلك البيت وتخرج منه . وإنما تحصّلُ الخيوط من ذلك البيت بوضعها في ماء حار في درجة الغليان حتى يزول تماسكها بسبب انحلال المادة الصمغية اللعابية التي تشدها فيُطلقونها خيطاً واحداً طويلاً . ومن تلك الخيوط تنسج ثياب تكون بالغة في اللين واللمعان . وثياب الحرير أجود الثياب في الدنيا قديماً وحديثاً ، وأقدم ظهورها في بلاد الصين منذ خمسة آلاف سنة تقريباً حيث يكثر شجر التوت ، لأن دود الحرير لا يفرز الحرير إلا إذا كان عَلَفُه ورقَ التُّوت ، والأكثر أنه يبني بيوته في أغصان التُّوت . وكان غير أهل الصين لا يعرفون تربية دود الحرير فلا يحصّلون الحرير إلاّ من طريق بلاد الفرس يجلبه التجار فلذلك يباع بأثمان غالية . وكانت الأثواب الحريرية تباع بوزنها من الذهب ، ثم نقل بَزر دود الحرير الذي يتولد منه الدود إلى القسطنطينية في زمن الأمبراطور ( بوستنيانوس ) بين سنة 527 وسنة 565م . ومن أصناف ثياب الحرير السندس والإستبرق وقد تقدما في سورة الكهف . وعُرفت الأثواب الحريرية في الرومان في حدود أوائل القرن الثالث المسيحي .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكر ما أعد الله، عز وجل، للمؤمنين، فقال سبحانه: {إن الله يدخل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار} يقول: تجري العيون من تحت البساتين.
{يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا} أي أساور من لؤلؤ. {ولباسهم فيها حرير}، مما يلي الجسد الحرير، وأعلاه السندس والإستبرق.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وأما الذين آمنوا بالله ورسوله فأطاعوهما بما أمرهم الله به من صالح الأعمال، فإن الله يُدخلهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار، فيحلّيهم فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا...
وقوله:"وَلِباسُهُمْ فيها حَرِيرٌ" يقول: ولبوسهم التي تلي أبشارهم فيها ثياب حرير.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... وقال ابن عباس: لا تشبه أمور الآخرة أمور الدنيا إلا في الأسماء فقط وأما الصفات فمتباينة.
ثم إنه سبحانه ذكر حكمه في المؤمنين من أربعة أوجه. أحدها: المسكن، وهو قوله: {إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار}، وثانيها: الحلية، وهو قوله: {يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير} فبين تعالى أنه موصلهم في الآخرة إلى ما حرمه عليهم في الدنيا من هذه الأمور، وإن كان من أحله لهم أيضا شاركهم فيه؛ لأن المحلل للنساء في الدنيا يسير بالإضافة إلى ما سيحصل لهم في الآخرة. وثالثها: الملبوس وهو قوله: {ولباسهم فيها حرير}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إن الله} أي الذي له الأمر كله {يدخل الذين آمنوا} عبر في الإيمان بالماضي ترغيباً في المبادرة إلى إيقاعه {وعملوا الصالحات} تصديقاً لإيمانهم، وعبر بالماضي إشارة إلى أن من عمل الصالح انكشف له ما كان محجوباً عنه من حسنه فأحبه ولم ينفك عنه {جنات تجري} أي دائماً {من تحتها الأنهار} أي المياه الواسعة، أينما أردت من أرضها جرى لك نهر في مقابلة ما يجري من فوق رؤوس أهل النار {يحلون فيها} في مقابلة ما يزال من بواطن الكفرة وظواهرهم {من أساور}. ولما كان مقصودها الحث على التقوى المعلية إلى الإنعام بالفضل، شوّق إليه بأعلى ما نعرف من الحلية فقال: {من ذهب ولؤلؤاً}...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
كان مقتضى الظاهر أن يكون هذا الكلام معطوفاً بالواو على جملة {فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار} [الحج: 19] لأنه قسيم تلك الجملة في تفصيل الإجمال الذي في قوله: {هذان خصمان اختصموا في ربهم} [الحج: 19] بأن يقال: والذين آمنوا وعملوا الصالحات يُدخلهم الله جنات... إلى آخره. فعدل عن ذلك الأسلوب إلى هذا النظم لاسترعاء الأسماع إلى هذا الكلام إذا جاء مبتدأ به مستقلاً مفتتحاً بحرف التأكيد ومتوّجاً باسم الجلالة، والبليغ لا تفوته معرفة أنّ هذا الكلام قسيم للذي قبله في تفصيل إجمال {هذان خصمان اختصموا في ربهم} [الحج: 19] لوصف حال المؤمنين المقابل لحال الذين كفروا في المكان واللباس وخطاب الكرامة.
فقوله: {يدخل الذين آمنوا} الخ مقابل قوله: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها} [الحج: 22]. وقوله: {يحلون فيها من أساور من ذهب} يقابل قوله {يصب من فوق رؤوسهم الحميم} [الحج: 19]. وقوله: {ولباسهم فيها حرير} مقابل قوله: {قطعت لهم ثياب من نار} [الحج: 19]. وقوله: {وهدوا إلى الطيب من القول} مقابل قوله: {وذوقوا عذاب الحريق} [الحج: 22] فإنه من القول النكِد.
والتحليّة: وضع الحَلْي على أعضاء الجسم...
والأساور: جمع أسورة الذي هو جمع سِوار. أشير بجمع الجمع إلى التكثير كما تقدم في قوله: {يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثياباً خضراً} في [سورة الكهف: 31].
و (مِن) في قوله {من أساور} زائدة للتوكيد. ووجهه أنه لما لم يعهد تحلية الرجال بالأساور كان الخبر عنهم بأنهم يُحلّون أساور معرّضاً للتردد في إرادة الحقيقة فجيء بالمؤكد لإفادة المعنى الحقيقي، ولذلك ف {أساور} في موضع المفعول الثاني ل {يُحلَّون}...
واللؤلؤ: الدرّ. ويقال له الجمان والجوهر...
ولما كانت التحلية غير اللباس جيء باسم اللباس بعد {يُحَلّون} بصيغة الاسم دون (يلبسون) لتحصيل الدلالة على الثّبات والاستمرار كما دلّت صيغة {يُحَلّون} على أن التحلية متجددة بأصناف وألوان مختلفة، ومن عموم الصيغتين يفهم تحقق مثلها في الجانب الآخر فيكون في الكلام احتباك كأنه قيل: يحلّون بها وحليتهم من أساور من ذهب ولباسهم فيها حرير يلبسونه.
والحرير: يطلق على ما نسج من خيوط الحرير كما هنا.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
فالفريق المؤمن يدخله الله تعالى بسبب إيمانه، ولقد عبر بالموصول، {جنات تجري من تحتها الأنهار} ويجتمع فيها النعيم الحسي، والنفسي، فيكون المنظر البهيج بالأنهار تجري من تحت الجنات، وغرف أهل الجنة، وقد أضاف سبحانه وتعالى الإدخال إليه كأنهم في ضيافته مكرمون، لا يلقون في الجحيم مدحورين معذبين. وهذا أقصى أحوال النعيم الحسي، وقد يقال: كيف يذكر ذلك على أنه من نعيم أهل الجنة، وقد وردت الآثار بأن الذهب والحرير حرام على رجال الأمة، فكيف يذكران على أنهما من نعيم أهل الجنة. والجواب عن ذلك: إن الجنة ليست دار تكليف، إنما هي دار ثواب، ولذا كان فيها أنهار من خمر لذة للشاربين وفوق ذلك أن الجنة فيها نعيم الرجال والنساء، ولا شك أن الأساور واللآلئ والحرير من نعيم النساء، والله سبحانه وتعالى هو المكافئ العلي القدير.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وأوضحت الآيات التالية وضع المؤمنين الصالحين، مستخدمة اُسلوب المقارنة، لتكشف بها عن وضع هاتين المجموعتين، وهنا تستعرض هذه الآيات خمسة أنواع من المكافئات للمؤمنين فخلافاً للمجموعة الأُولى الذين يتقلّبون في نار جهنّم، نجد أنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات يتمتّعون بنعيم رياض الجنّة على ضفاف الأنهار وهذه هي المكافأة الأُولى، وأمّا لباسهم وزينتهم فتقول الآية: و (يحلّون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير). وهاتان مكافئتان يمنّ الله بهما كذلك على عباده العالمين في الجنّة، يهبهم أفخر الملابس التي حرموا منها في الدنيا، ويجملّهم بزينة الأساور التي منعوا عنها في الحياة الأُولى، لأنّها كانت تؤدّي إلى إصابتهم بالغرور والغفلة، وتكون سبباً لحرمان الآخرين وفقرهم. أمّا في الجنّة فينتهي هذا المنع ويباح للمؤمنين لباس الحرير والحلي وغيرها. وبالطبع ستكون للحياة الاُخروية مفاهيم أسمى ممّا نفكّر به في هذه الدنيا الدنيّة، لأنّ مبادىء الحياة ومدلولها يختلفان في الدنيا عمّا هي في الآخرة...