اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّ ٱللَّهَ يُدۡخِلُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ يُحَلَّوۡنَ فِيهَا مِنۡ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٖ وَلُؤۡلُؤٗاۖ وَلِبَاسُهُمۡ فِيهَا حَرِيرٞ} (23)

قوله : «يُحَلَّوْنَ » العامة على ضم الياء وفتح اللام مشددة من حلاه يُحَلِّيه إذا ألبسه الحليّ{[30643]} . وقرئ بسكون الحاء وفتح اللام مخففة{[30644]} ، وهو بمعنى الأول كأنهم عدوه تارة بالتضعيف وتارة بالهمزة . قال أبو البقاء : من قولك : أُحْلي أي : أُلبس الحلي{[30645]} هو بمعنى المشدد .

وقرأ ابن عباس بفتح الياء وسكون الحاء وفتح اللام مخففة{[30646]} ، وفيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه من حَلِيَت المرأة تَحْلَى فهي حال ، وكذلك حَلِيَ الرجل فهو حال ، إذا لبسا الحلي ( أو صارا ذوي حليّ{[30647]} ){[30648]} .

الثاني : أنه من حَلِيَ بعيني كذا يحلى إذا استحسنه ، و «من » مزيدة في قوله «من أساور » قال{[30649]} : فيكون المعنى : يستحسنون فيها الأساور الملبوسة{[30650]} ولما نقل أبو حيان هذا الوجه عن أبي الفضل الرازي قال : وهذا ليس بجيد ، لأنه جعل حلي{[30651]} فعلاً متعدياً ، ولذلك حكم بزيادة ( من ) في الواجب ، وليس مذهب البصريين{[30652]} ، وينبغي على هذا التقدير أن لا يجوز ، لأنه لا يحفظ بهذا المعنى إلا لازماً ، فإن كان بهذا المعنى كانت «من » للسبب ، أي بلباس أساور الذهب يُحَلّون بعين من رآهم أي يحلى بعضهم بعين بعض {[30653]} .

وهذا الذي نقله عن أبي الفضل قاله أبو البقاء ، وجوز في مفعول الفعل وجهاً آخر فقال : ويجوز أن يكون من حلي بعيني كذا إذا حسن ، وتكون «من » مزيدة ، أو يكون المفعول محذوفاً و «مِنْ أَسَاوِرَ » نعت له{[30654]} . فقد حكم عليه بالتعدي ليس إلا ، وجوز في المفعول الوجهين المذكورين{[30655]} .

والثالث : أنه من حلي بكذا إذا ظفر به ، فيكون التقدير : يُحَلَّوْنَ بأساور ، و «من » بمعنى الباء{[30656]} ، ومن مجيء حلي بمعنى ظفر قولهم : لم يَحْلَ فلان بطائل أي : لم يظفر به{[30657]} .

واعلم أن حلي بمعنى لبس الحلي{[30658]} أو بمعنى ظفر من مادة الياء لأنها من الحلية وأما{[30659]} حلي بعيني كذا ، فإنه من مادة الواو ؛ لأنه من الحلاوة ، وإنما قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها {[30660]} .

قوله : { مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ } . في من الأولى ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها زائدة كما تقدم تقريره عن الرازي وأبي البقاء ، وإن لم يكن من أصول البصريين{[30661]} .

الثاني : أنها للتبعيض أي : بعض أساور .

الثالث : أنها لبيان الجنس قاله ابن عطية ، وبه بدأ{[30662]} وفيه نظر ، إذ لم يتقدم شيء مبهم{[30663]} وفي «مِنْ ذَهَبٍ » لابتداء الغاية ، وهي نعت لأساور{[30664]} . كما تقدم .

وقرأ ابن عباس «مِنْ أسور » دون ألف ولا هاء{[30665]} ، وهو محذوف من «أساور » كما قالوا : جندل والأصل جنادل . قال أبو حيان : وكان قياسه صرفه ، لأنه نقص بناؤه فصار كجندل لكنه قدر المحذوف موجوداً فمنعه الصرف{[30666]} . قال شهاب الدين : فقد جعل التنوين في جندل المقصور من جنادل تنوين صرف{[30667]} ، وقد نصَّ بعض النحاة على أنه تنوين عوض{[30668]} ، كهو في جوارٍ وغواشٍ وبابهما{[30669]} والأساور جمع سوار .

قوله : «ولُؤْلُؤاً »{[30670]} قرأ نافع وعاصم بالنصب ، والباقون بالخفض{[30671]} . فأما النصب ففيه أربعة أوجه :

أحدها : أنه منصوب بإضمار فعل تقديره : ويؤتون لؤلؤاً ، ولم يذكر الزمخشري غيره{[30672]} ، وكذا أبو الفتح حمله على إضمار فعل{[30673]} .

الثاني : أنه منصوب نسقاً على موضع «مِنْ أَسَاوِرَ » وهذا كتخريجهم «وَأَرْجُلَكُم » بالنصب عطفاً على محل «برؤوسكم »{[30674]} ، ولأن { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ } في قوة : يلبسون أساور ، فحمل هذا عليه {[30675]} .

الثالث : أنه عطف على «أَسَاوِرَ » ، لأن «من » مزيدة فيها كما تقدم .

الرابع : أنه معطوف على ذلك المفعول المحذوف ، التقدير يحلون فيها الملبوس من أساور ولؤلؤاً ف «لُؤلُؤاً »{[30676]} عطف على الملبوس .

وأما الجر فعلى وجهين :

أحدهما : عطفه على «أَسَاوِر »{[30677]} .

والثاني : عطفه على «مِنْ ذَهَب » ، ( لأنَّ السوار يتخذ من اللؤلؤ أيضاً بنظم بعضه إلى بعض{[30678]} . فقد منع أبو البقاء أن يعطف على «ذَهَب »{[30679]} ) . قال : لأنَّ السوار لا يكون من اللؤلؤ في العادة{[30680]} . قال شهاب الدين : بل قد يتخذ منه في العادة السوار {[30681]} .

واختلف الناس في رسم هذه اللفظة في الإمام فنقل الأصمعي أنها في الإمام «لؤلؤ » بغير ألف بعد الواو{[30682]} . ونقل الجحدري أنها ثابتة في الإمام بعد الواو{[30683]} وهذا الخلاف بعينه قراءة وتوجيهاً جارٍ{[30684]} في حرف فاطر أيضاً{[30685]} . وقرأ أبو بكر في رواية المعلى{[30686]} بن منصور{[30687]} عنه «لؤلؤاً » بهمزة أولا وواو آخرا وفي رواية يحيى عنه عكس ذلك{[30688]} .

وقرأ الفياض{[30689]} " ولوليا " بواو أولاً وياء آخراً{[30690]} ، والأصل «لؤلؤاً » أبدل الهمزتين واوين ، فبقي في آخر الاسم واو بعد ضمة ، ففعل فيها ما فعل بأدل جمع دلو بأن قلبت الواو ياء والضمة كسرة {[30691]} .

وقرأ ابن عباس «وَليلياً » بياءين فعل ما فعل الفياض ثم أتبع الواو الأولى للثانية{[30692]} في القلب{[30693]} وقرأ طلحة «وَلُولٍ »{[30694]} بالجرِ عطفاً على المجرور قبله{[30695]} ، وقد تقدم{[30696]} ، والأصل وَلُولُو{[30697]} بواوين ثم أعل إعلال أَدْلٍ{[30698]} . واللؤلؤ قيل : كبار الجوهر ، وقيل : صغاره {[30699]} .

قوله : { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } أي أنهم يلبسون في الجنة ثياب الإبريسم والمعنى أنه تعالى يوصلهم في الآخرة إلى ما حرمه عليهم{[30700]} في الدنيا . قال عليه السلام{[30701]} «مَنْ لَبِسَ الحَرِيرَ في الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ في الآخرة ، فإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه » {[30702]} .


[30643]:انظر التبيان 2/938، البحر المحيط 6/360.
[30644]:المرجعان السابقان.
[30645]:التبيان 2/938.
[30646]:المختصر 94 – 95، المحتسب 2/77 البحر المحيط 6/360.
[30647]:انظر التبيان 2/938، البحر المحيط 6/360.
[30648]:ما بين القوسين في ب: وصار ذوا حلي.
[30649]:أي أبو الفضل الرازي. البحر المحيط 6/360.
[30650]:في الأصل: ملبوسة.
[30651]:حلي: سقط من ب.
[30652]:والأخفش والكوفيون يجوزون زيادة (من) في الواجب.
[30653]:البحر المحيط 6/361.
[30654]:التبيان 2/938.
[30655]:وهما كون "من" مزيدة في المفعول وهذا الوجه غير جائز على مذهب البصريين، لأن "من" لا تكون مزيدة عندهم في الواجب، وكون المفعول محذوفا.
[30656]:قاله أبو الفضل الرازي البحر المحيط 6/361.
[30657]:اللسان (حلا).
[30658]:في ب: الحلية.
[30659]:في الأصل: وما.
[30660]:انظر المحتسب 2/77، اللسان (حلا).
[30661]:عند توجيه قراءة ابن عباس لقوله تعالى: {يحلون} بفتح الياء وسكون الحاء وفتح اللام مخففة.
[30662]:فإنه قال: ("ومن" في قوله تعالى: {من أساور} هي لبيان الجنس ويحتمل أن تكون للتبعيض) تفسير ابن عطية 10/251.
[30663]:في ب: منهم. وهو تحريف.
[30664]:في الأصل: ومن نعت الأساور. وهو تحريف.
[30665]:البحر المحيط 6/361.
[30666]:المرجع السابق.
[30667]:في ب: تنوين من الصرف. وهو تحريف.
[30668]:قال سيبويه: (ويقول بعضهم: جندل وذلذل، يحذف ألف جنادل وذلاذل، وينونون يجعلونه عوضا من هذا المحذوف) الكتاب 3/228.
[30669]:الدر المصون 5/69.
[30670]:في الأصل: لؤلؤ.
[30671]:السبعة (435) الكشف 2/117 – 118، النشر 2/326، الإتحاف 314.
[30672]:قال الزمخشري: ("ولؤلؤا" بالنصب على ويؤتون لؤلؤا) الكشاف 3/29.
[30673]:قال ابن جنى: (هو محمول على فعل يدل عليه قوله: "يحلون فيها من أساور" أي: يؤتون لؤلؤا، ويلبسون لؤلؤا) المحتسب 2/78، وانظر أيضا البيان 2/172، التبيان 2/938.
[30674]:من قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} [المائدة :6]. وقرأ بنصب "وأرجلكم" نافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم. السبعة (242 -243).
[30675]:انظر البيان 2/172، التبيان 2/938، البحر المحيط 6/361، الإتحاف (314).
[30676]:في ب: "لؤلؤ".
[30677]:انظر الكشف 2/118، التبيان 2/938، البحر المحيط 6/361، الإتحاف (314).
[30678]:انظر البيان 2/172، البحر المحيط 6/361.
[30679]:ما بين القوسين سقط من ب.
[30680]:التبيان 2/938.
[30681]:الدر المصون: 5/69.
[30682]:انظر تفسير ابن عطية 10/252، البحر المحيط 6/361.
[30683]:المرجعان السابقان.
[30684]:في ب: جاز.
[30685]:وهو قوله تعالى: {جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير} [فاطر: 33] السبعة (534 – 535).
[30686]:وفي ب بعد قوله: في رواية المعلى: قال البغوي: واختلفوا في وجه إثبات الألف فيه، فقال أبو عمرو: أثبتوها كما أثبتوا في قالوا وكانوا، وقال الكسائي: أثبتوها للهمزة لأن الهمزة حرف من الحروف.
[30687]:هو معلى بن منصور الحنفي الرازي، أبو يعلى الحافظ الفقيه، عن مالك والليث وغيرهما، وعنه عبد الله بن أبي شيبة وابن المديني وغيرهما، مات سنة 223 هـ، خلاصة تذهيب الكمال 3/46.
[30688]:السبعة (435) تفسير ابن عطية 10/252 البحر المحيط 6/361.
[30689]:لعله فياض بن غزوان الضبي الكوفي. وقد تقدم.
[30690]:المختصر (95) البحر المحيط 6/361.
[30691]:وذلك أن أصل: لوليا "لؤلؤا" فقلبت الهمزة الأولى والثانية واوا، لأن الهمزة إذا كانت ساكنة أو مفتوحة وقبلها مضموم فأردت أن تخفف أبدلت مكانها واوا، كقولك في الجؤنة، والبوس: الجونة والبوس، وفي الجؤن جون. ثم قلبت الواو الثانية ياء لوقوعها متطرفة إثر ضمة؛ لأنه ليس في العربية اسم معرب آخره واو قبلها ضمة أصلية، ثم قلبت الضمة كسرة لمناسبة الياء وذلك كما قلبت الواو في (أدل) جمع (دلو) ياء لوقوعها متطرفة إثر ضمة فإن أصل (أدل) أدلو، ثم قلبت الضمة كسرة، ثم أعل (أدلي) إعلال قاض، فصار (أدل). الكتاب 3/543، شرح الملوكي 467 – 471.
[30692]:في ب: الثانية.
[30693]:المختصر (95) البحر المحيط 6/361.
[30694]:في ب: ولو. وهو تحريف.
[30695]:البحر المحيط 6/361.
[30696]:عند توجيه قراءة من قرأ من الجمهور بالخفض.
[30697]:في ب: ولولوا. وهو تحريف.
[30698]:أي: أن أصل (ولول) "لؤلؤ" فقلبت الهمزتان واوا، لما تقدم عند توجيهه قراءة الفياض، ثم قلبت الواو الثانية ياء لوقوعها متطرفة إثر ضمة، ثم قلبت الضمة كسرة لمناسبة الياء، فاستثقل اجتماع التنوين مع الياء فحذفت الياء، فصار (ولول) كما في أدل جمه دلو.
[30699]:انظر تفسير ابن عطية 10/252.
[30700]:عليهم: سقط من ب.
[30701]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[30702]:أخرجه البخاري (لباس) 4/31، مسلم (لباس) 3/1641 – 1642 – 1645، الترمذي (أدب) 5/122، ابن ماجه (لباس) 2/1187، أحمد 1/ 20، 26، 37، 39، 2/166، 3/23، 101، 281، 4/5، 156.