{ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ } جودا منه ، وكرما وبرا بهم ، واعتناء ومحبة لهم ، { بِرَحْمَةٍ مِنْهُ } أزال بها عنهم الشرور ، وأوصل إليهم [ بها ] كل خير . { وَرِضْوَانٍ } منه تعالى عليهم ، الذي هو أكبر نعيم الجنة وأجله ، فيحل عليهم رضوانه ، فلا يسخط عليهم أبدا .
{ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ } من كل ما اشتهته الأنفس ، وتلذ الأعين ، مما لا يعلم وصفه ومقداره إلا اللّه تعالى ، الذي منه أن اللّه أعد للمجاهدين في سبيله مائة درجة ، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، ولو اجتمع الخلق في درجة واحدة منها لوسعتهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { يُبَشّرُهُمْ رَبّهُم بِرَحْمَةٍ مّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنّاتٍ لّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مّقِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : يبشر هؤلاء الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله ربهم برحمة منه لهم أنه قد رحمهم من أن يعذبهم وبرضوان منه لهم ، بأنه قد رضي عنهم بطاعتهم إياه وأدائهم ما كلفهم . وجَنّاتٍ يقول : وبساتين لهم فيها نعيم مقيم لا يزول ولا يبيد ، ثابت دائم أبدا لهم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد الموسوي ، قال : حدثنا سفيان ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله ، قال : «إذا دخل أهل الجنة الجنة ، قال الله سبحانه : أعطيكم أفضل من هذا ، فيقولون : ربنا أيّ شيء أفضل من هذا ؟ قال : رضواني » .
وقوله تعالى : { يبشرهم ربهم } الآية ، هذه آية وعد ، وقراءة الناس «يُبَشِّرهم » بضم الياء وكسر الشين المشددة ، وقرأ الأعمش وطلحة بن مصرف وحميد بن هلال «يَبْشُرهم » بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين خفيفة ، وأسند الطبري إلى جابر بن عبد الله أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله عز وجل أعطيتكم أفضل من هذا ، فيقولون ربنا أي شيء أفضل من هذا ؟ قال : رضواني »{[5573]} ، وفي البخاري في كتاب السنة منه «فلا أسخط عليكم أبداً » ، وقرأ الجمهور «ورِضوان » بكسر الراء ، وقرأ عاصم وعمرو «ورُضوان » بضم الراء وقرأ الأعمش بضم الراء والضاد جميعاً ، قال أبو حاتم لا يجوز هذا{[5574]} .
بيان للدرجة العظيمة التي في قوله : { أعظم درجة عند الله } [ التوبة : 20 ] فتلك الدرجة هي عناية الله تعالى بهم بإدخال المسرّة عليهم ، وتحقيق فوزهم ، وتعريفهم برضوانه عليهم ، ورحمته بهم ، وبما أعد لهم من النعيم الدائم . ومجموع هذه الأمور لم يمنحه غيرهم من أهل السقاية والعمارة ، الذين وإن صلحوا لأن ينالوا بعض هذه المزايا فهم لم ينالوا جميعها .
والتبشير : الإخبار بخير يحصل للمخبَر لم يكن عالماً به .
فإسناد التبشير إلى اسم الجلالة بصيغة المضارع ، المفيد للتجدّد ، مؤذن بتعاقب الخيرات عليهم ، وتجدّد إدخال السرور بذلك لهم ، لأنّ تجدّد التبشير يؤذن بأن المبشّر به شيء لم يكن معلوماً للمبشَّر ( بفتح الشين ) وإلاّ لكان الإخبار به تحصيلاً للحاصل .
وكون المسند إليه لفظ الربّ ، دون غيره ممّا يدلّ على الخالق سبحانه ، إيماء إلى الرحمة بهم والعناية : لأنّ معنى الربوبية يَرجع إلى تدبير المربوب والرفق به واللطف به ، ولتحصل به الإضافة إلى ضميرهم إضافة تشريف .
وتقدّمت الرحمة في قوله : { الرحمن الرحيم } [ الفاتحة : 1 ] .
والرضوان بكسر الراء وبضمها : الرضا الكامل الشديد ، لأنّ هذه الصيغة تشعر بالمبالغة مثل الغُفران والشُكران والعِصيان .
والجنّات تقدّم الكلام عليها في ذكر الجنة في سورة البقرة ، وجمعها باعتبار مراتبها وأنواعها وأنواعِ النعيم فيها .
والنعيم : ما به التذاذ النفس باللذات المحسوسة ، وهو أخصّ من النِعمة ، قال تعالى : { إن الأبرار لفي نعيم } [ الإنفطار : 13 ] وقال : { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } [ التكاثر : 8 ] .
والمقيم المستمرّ ، استعيرت الإقامة للدوام والاستمرار .
والتنكير في { برحمة ، ورضوان ، وجنات ، ونعيم } للتعظيم ، بقرينة المقام ، وقرينة قوله { منه } وقرينة كون تلك مبشرّاً بها .