مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يُبَشِّرُهُمۡ رَبُّهُم بِرَحۡمَةٖ مِّنۡهُ وَرِضۡوَٰنٖ وَجَنَّـٰتٖ لَّهُمۡ فِيهَا نَعِيمٞ مُّقِيمٌ} (21)

ثم قال تعالى : { يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم } .

واعلم أن هذه الإشارة اشتملت على أنواع من الدرجات العالية وأنه تعالى ابتدأ فيها بالأشرف فالأشرف ، نازلا إلى الأدون فالأدون ، ونحن نفسرها تارة على طريق المتكلمين وأخرى على طريقة العارفين .

أما الأول فنقول : فالمرتبة الأولى منها وهي أعلاها وأشرفها كون تلك البشارة حاصلة من ربهم بالرحمة والرضوان ، وهذا هو التعظيم والإجلال من قبل الله . وقوله : { وجنات لهم } إشارة إلى حصول المنافع العظيمة وقوله : { فيها نعيم } إشارة إلى كون المنافع خالصة عن المكدرات لأن النعيم مبالغة في النعمة ، ولا معنى للمبالغة في النعمة إلا خلوها عن ممازجة الكدورات وقوله : { مقيم } عبارة عن كونها دائمة غير منقطعة . ثم إنه تعالى عبر عن دوامها بثلاث عبارات : أولها : { مقيم } وثانيها : قوله : { خالدين فيها } وثالثها : قوله : { أبدا } فحصل من مجموع ما ذكرنا أنه تعالى يبشر هؤلاء المؤمنين المهاجرين المجاهدين بمنفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم ، وذلك هو حد الثواب . وفائدة تخصيص هؤلاء المؤمنين بكون هذا الثواب كامل الدرجة عالي الرتبة بحسب كل واحد من هذه القيود الأربعة . ومن المتكلمين من قال قوله : { يبشرهم ربهم برحمة منه } المراد منه خيرات الدنيا وقوله : { ورضوان لهم } المراد منه كونه تعالى راضيا عنهم حال كونهم في الحياة الدنيا وقوله : { وجنات } المراد منه المنافع وقوله : { لهم فيها نعيم } المراد منه كون تلك النعم خالصة عن المكدرات ، لأن النعيم مبالغة في النعمة وقوله : { مقيم خالدين فيها أبدا } المراد منه الإجلال والتعظيم الذي يجب حصوله في الثواب .

وأما تفسير هذه الآية على طريقة العارفين المحبين المشتاقين فنقول : المرتبة الأولى من الأمور المذكورة في هذه الآية قوله : { يبشرهم ربهم } .

واعلم أن الفرح بالنعمة يقع على قسمين : أحدهما : أن يفرح بالنعمة لأنها نعمة . والثاني : أن يفرح بها لا من حيث هي بل من حيث إن المنعم خصه بها وشرفه . وإن عجز ذهنك عن الوصول إلى الفرق بين القسمين فتأمل فيما إذا كان العبد واقفا في حضرة السلطان الأعظم وسائر العبيد كانوا واقفين في خدمته ، فإذا رمى ذلك السلطان تفاحة إلى أحد أولئك العبيد عظم فرحه بها فذلك الفرح العظيم ما حصل بسبب حصول تلك التفاحة ، بل بسبب أن ذلك السلطان خصه بذلك الإكرام ، فكذلك ههنا . قوله : { يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان } منهم من كان فرحهم بسبب الفوز بتلك الرحمة ، ومنهم من لم يفرح بالفوز بتلك الرحمة ، وإنما فرح لأن مولاه خصه بتلك الرحمة وحينئذ يكون فرحه لا بالرحمة بل بمن أعطى الرحمة ، ثم إن هذا المقام يحصل فيه أيضا درجات فمنهم من يكون فرحه بالراحم لأنه رحم ، ومنهم من يتوغل في الإخلاص فينسى الرحمة ولا يكون فرحه إلا بالمولى لأنه هو المقصد ، وذلك لأن العبد ما دام مشغولا بالحق من حيث أنه راحم فهو غير مستغرق في الحق ، بل تارة مع الحق وتارة مع الخلق ، فإذا تم الأمر انقطع عن الخلق وغرق في بحر نور الحق وغفل عن المحبة والمحنة ، والنقمة والنعمة ، والبلاء والآلاء ، والمحققون وقفوا عند قوله : { يبشرهم ربهم } فكان ابتهاجهم بهذا وسرورهم به ، وتعويلهم عليه ورجوعهم إليه ومنهم من لم يصل إلى تلك الدرجة العالية فلا تقنع نفسه إلا بمجموع قوله : { يبشرهم ربهم برحمة منه } فلا يعرف أن الاستبشار بسماع قول ربهم ، بل إنما يستبشر بمجموع كونه مبشرا بالرحمة ، والمرتبة الثانية هي أن يكون استبشاره بالرحمة وهذه المرتبة هي النازلة عند المحققين . واللطيفة الثانية من لطائف هذه الآية هي أنه تعالى قال : { يبشرهم ربهم } وهي مشتملة على أنواع من الرحمة والكرامة . أولها : أن البشارة لا تكون إلا بالرحمة والإحسان . والثاني : أن بشارة كل أحد يجب أن تكون لائقة بحاله ، فلما كان المبشر ههنا هو أكرم الأكرمين ، وجب أن تكون البشارة بخيرات تعجز العقول عن وصفها وتتقاصر الأفهام عن نعتها . والثالث : أنه تعالى سمى نفسه ههنا بالرب وهو مشتق من التربية كأنه قال : الذي رباكم في الدنيا بالنعم التي لا حد لها ولا حصر لها يبشركم بخيرات عالية وسعادات كاملة . والرابع : أنه تعالى قال : { ربهم } فأضاف نفسه إليهم ، وما أضافهم إلى نفسه ، والخامس : أنه تعالى قدم ذكرهم على ذكر نفسه فقال : { يبشرهم ربهم } والسادس : أن البشارة هي الإخبار عن حدوث شيء ما كان معلوم الوقوع ، أما لو كان معلوم الوقوع لم يكن بشارة ، ألا ترى أن الفقهاء قالوا : لو أن رجلا قال من يبشرني من عبيدي بقدوم ولدي فهو حر ، فأول من أخبر بذلك الخبر يعتق ، والذين يخبرون بعده لا يعتقون وإذا كان الأمر كذلك فقوله : { يبشرهم } لا بد أن يكون إخبارا عن حصول مرتبة من مراتب السعادات ما عرفوها قبل ذلك ، وجميع لذات الجنة وخيراتها وطيباتها قد عرفوه في الدنيا من القرآن ، والإخبار عن حصول بشارة فلا بد وأن تكون هذه البشارة بشارة عن سعادات لا تصل العقول إلى وصفها البتة . رزقنا الله تعالى الوصول إليها بفضله وكرمه .

واعلم أنه تعالى لما قال : { يبشرهم ربهم } بين الشيء الذي به يبشرهم وهو أمور : أولها : قوله : { برحمة منه } وثانيها : قوله : { ورضوان } وأنا أظن -والعلم عند الله- أن المراد بهذين الأمرين ما ذكره في قوله : { ارجعي إلى ربك راضية مرضية } والرحمة كون العبد راضيا بقضاء الله وذلك لأن من حصلت له هذه الحالة كان نظره على المبلي والمنعم لا على النعمة والبلاء ، ومن كان نظره على المبلي والمنعم لم يتغير حاله ، لأن المبلي والمنعم منزه عن التغير .

فالحاصل أن حاله يجب أن يكون منزها عن التغير ، أما من كان طالبا لمحض النفس كان أبدا في التغير من الفرح إلى الحزن ، ومن السرور إلى الغم ، ومن الصحة إلى الجراحة ، ومن اللذة إلى الألم ، فثبت أن الرحمة التامة لا تحصل إلا عندما يصير العبد راضيا بقضاء الله فقوله : { يبشرهم ربهم برحمة منه } هو أنه يزيل عن قلبه الالتفات إلى غير هذه الحالة ، ويجعله راضيا بقضائه . ثم إنه تعالى يصير راضيا وهو قوله : { ورضوان } وعند هذا تصير هاتان الحالتان هما المذكورتان في قوله : { راضية مرضية } وهذه هي الجنة الروحانية النورانية العقلية القدسية الإلهية . ثم إنه تعالى بعد أن ذكر هذه الجنة العالية المقدسة ذكر الجنة الجسمانية ، وهي قوله : { وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا } وقد سبق شرح هذه المراتب ، ولما ذكر هذه الأحوال قال : { إن الله عنده أجر عظيم } والمقصود شرح تعظيم هذه الأحوال .