وعند ذكر الآخرة يركز عليها ويؤكد في صورة التهديد والوعيد لمن لا يؤمنون بها ، فيسدرون في غيهم ، حتى يلاقوا مصيرهم الوخيم :
إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فيهم يعمهون . أؤلئك الذين لهم سوء العذاب ، وهم في الآخرة هم الأخسرون . .
والإيمان بالآخرة هو الزمام الذي يكبح الشهوات والنزوات ، ويضمن القصد والاعتدال في الحياة . والذي لا يعتقد بالآخرة لا يملك أن يحرم نفسه شهوة أو يكبح فيها نزوة ، وهو يظن أن الفرصة الوحيدة المتاحة له للمتاع هي فرصة الحياة على هذا الكوكب ، وهي قصيرة مهما طالت . وما تكاد تتسع لشيء من مطالب النفوس وأمانيها التي لا تنال ! ثم ما الذي يمسكه حين يملك إرضاء شهواته ونزواته ، وتحقيق لذاته ورغباته ؛ وهو لا يحسب حساب وقفة بين يدي الله ؛ ولا يتوقع ثوابا ولا عقابا يوم يقوم الأشهاد ?
ومن ثم يصبح كل تحقيق للشهوة واللذة مزينا للنفس التي لا تؤمن بالآخرة ، تندفع إليه بلا معوق من تقوى أو حياء . والنفس مطبوعة على أن تحب ما يلذ لها ، وأن تجده حسنا جميلا ؛ ما لم تهتد بآيات الله ورسالاته إلى الإيمان بعالم آخر باق بعد هذا العالم الفاني . فإذا هي تجد لذتها في أعمال أخرى وأشواق أخرى ، تصغر إلى جوارها لذائذ البطون والأجسام !
والله - سبحانه - هو الذي خلق النفس البشرية على هذا النحو ؛ وجعلها مستعدة للاهتداء إن تفتحت لدلائل الهدي ، مستعدة للعماء إن طمست منافذ الإدراك فيها . ومشيئته نافذة - وفق سنته التي خلق النفس البشرية عليها - في حالتي الاهتداء والعماء . ومن ثم يقول القرآن عن الذين لا يؤمنون بالآخرة : ( زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون ) . . فهم لم يؤمنوا بالآخرة فنفذت سنة الله في أن تصبح أعمالهم وشهواتهم مزينة لهم حسنة عندهم . . وهذا هو معنى التزيين في هذا المقام . فهم يعمهون لا يرون ما فيها من شر وسوء . أو فهم حائرون لا يهتدون فيها إلى صواب .
{ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } أي : إنما تحصل الهداية والبشارة من القرآن لِمَنْ آمن به واتبعه وصدقه ، وعمل بما فيه ، وأقام الصلاة المكتوبة ، وآتى الزكاة المفروضة ، وآمن{[21958]} بالدار الآخرة والبعث بعد الموت ، والجزاء على الأعمال ، خيرها وشرها ، والجنة والنار ، كما قال تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } [ فصلت : 44 ] . وقال : { لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا } [ مريم : 97 ] ؛ ولهذا قال هاهنا : { إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ } أي : يكذبون بها ، ويستبعدون وقوعها { زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ } أي : حَسَّنَّا لهم ما هم فيه ، ومددنا لهم في غَيهم فهم يَتيهون في ضلالهم . وكان هذا جزاء على ما كذبوا به من الدار الآخرة ، كما قال تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأنعام : 110 ] ، { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ } أي : في الدنيا والآخرة ، { وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ } أي : ليس يخسر أنفسهم وأموالهم سواهم من أهل المحشر .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ زَيّنّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ * أُوْلََئِكَ الّذِينَ لَهُمْ سُوَءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الاَخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : إن الذين لا يصدّقون بالدار الاَخرة ، وقيام الساعة ، وبالمعاد إلى الله بعد الممات والثواب والعقاب زَيّنا لَهُمْ أعمالَهُمْ يقول : حببنا إليهم قبيح أعمالهم ، وسهّلنا ذلك عليهم فَهُمْ يَعْمَهُونَ يقول : فهم في ضلال أعمالهم القبيحة التي زيّناها لهم يتردّدون حيارى ، يحسبون أنهم يحسنون .
ثم ذكر تعالى الكفرة { الذين لا يؤمنون } بالبعث ، والإشارة إلى قريش ، وقوله { زينا لهم أعمالهم } يحتمل أن يريد أنه تعالى جعل عقابهم على كفرهم أن حتم عليهم الكفر وحبب إليهم الشرك ، وزينه بأن خلقه واخترعه في نفوسهم ، ومع ذلك اكتسابهم وحرصهم ، وهذا على أن تكون الأعمال المزينة كفرهم وطغيانهم ويحتمل أن الأعمال المزينة هي الشريعة التي كان الواجب أن تكون أعمالهم ، فأخبر الله تعالى على جهة الذكر لنقصهم أنه بفضله ونعمته زين الدين وبينه ، ورسم الأعمال والتوحيد لكن هؤلاء { يعمهون } ، ويعرضون ، والعمه : الحيرة والتردد في الضلال ،