قوله{[38190]} : { إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة } الآية .
لما بيّن{[38191]} ما للمؤمنين من البشرى أتبعه بما للكفار من سوء العذاب ، فقال : { إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة زَيَّنََّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ } القبيحة ، حتى رأوها حسنة ، «فهم يعمهون » يترددون فيها متحيرين . فإن قيل : كيف أسند تزيين أعمالهم إلى ذاته مع أنه أسنده إلى الشيطان في قوله { زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ } [ الأنفال : 48 ] ؟ .
فالجواب : أما أهل السنة فأجروا الآية على ظاهرها ، لأن الإنسان لا يفعل شيئاً ألبتة إلا إذا دعاه الداعي إلى الفعل والمعقول من الداعي هو العلم و{[38192]} الاعتقاد ، أو الظن بكون الفعل مشتملاً على منفعة ، وهذا الداعي لا بد وأن يكون من فعل الله تعالى لوجهين :
الأول : أنه لو كان لافتقر فيه إلى داع آخر ، ولزم{[38193]} التسلسل ، وهو محال .
الثاني : أن العلم{[38194]} إما أن يكون ضرورياً ، أو كسبياً ، فإن كان ضرورياً فلا بد من تصورين والتصور يمتنع أن يكون مكتسباً ، لأن المكتسب إن كان شاعراً به ، فهو متصور له ، وتحصيل الحاصل محال ، وإن لم يكن متصوراً ، كان غافلاً عنه ، والغافل عن الشيء يمتنع أن يكون طالباً له . فإن قيل : هو مشعور به من وجه{[38195]} ، قلنا : فالمشعور به غير ما هو{[38196]} غير{[38197]} مشعور به ، فيعود التقسيم{[38198]} المتقدم في كل واحد من هذين الوجهين .
وإذا ثبت أن التصور غير مكتسب ألبتة ، والعلم الضروري هو الذي يكون مكتسباً ، فإن{[38199]} كل واحد من تصوُّريه كاف{[38200]} في حصول التصديق ، فالتصورات{[38201]} غير مكتسبة فهي مستلزمة التصديقات ، فإذن متى حصلت التصورات البديهية ، كان التصديق بها بديهياً وليس كسبياً . ثم إن التصديقات البديهية إن كانت مستلزمة التصديقات النظرية ، كانت كسبية ، لأن لازم الضروري ضروري ، وإن لم تكن مستلزمة لها لم تكن تلك الأشياء التي فرضناها علوماً نظرية كذلك ، بل هي اعتقادات تقليدية ، لأنه لا معنى لاعتقاد المقلد إلا اعتقاد تحسيني بفعله ابتداء من غير أن يكون له موجب ، فثبت بهذا أن العلوم بأسرها ضرورية ، وثبت أن مبادئ الأفعال هي العلوم ، وأفعال العباد بأسرها ضرورية فالإنسان مضطر في صورة مختار ، فثبت أن الله تعالى هو الذي ( زين لكل عامل عمله ، والمراد من التزيين هو الذي ){[38202]} يخلق في قلبه العلم بما فيه من ( المنافع واللذات ، ولا يخلق في قلبه العلم بما فيه من ){[38203]} المضار والآفات ، فثبت بهذه الدلائل{[38204]} العقلية القاطعة وجوب{[38205]} إجراء هذه الآية على ظاهرها . وأما المعتزلة فتأولوها بوجوه :
أحدها : أن المراد بينا لهم أمر الدين ، وما يلزمهم أن يتمسكوا به ، وزيناه بأن بينا حسنه وما لهم فيه من الثواب ، لأن التزيين من الله للعمل{[38206]} ليس إلا وصفه بأنه حسن واجب وحميد العاقبة ، وهو المراد من قوله{[38207]} : { حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ } [ الحجرات : 7 ] .
وقوله : «فَهُمْ يَعْمَهُونَ » يدل على ذلك ، إذ المراد : فهم يعدلون ويتخيرون عما زينا من أعمالهم .
وثانيها : أنه تعالى لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق ، جعلوا إنعام الله عليهم بذلك ذريعة إلى اتباع شهواتهم ، وعدم الانقياد لما يلزمهم من التكاليف ، فكأنه{[38208]} تعالى زين بذلك أعمالهم ، ولذلك أشارت الملائكة عليهم السلام بقولهم : { ولكن مَّتَّعْتَهُمْ }{[38209]} [ الفرقان : 18 ] { وآباءهم حتى نَسُواْ }{[38210]} [ الفرقان : 18 ] { الذكر } [ الفرقان : 18 ] .
وثالثها : أن إمهاله الشيطان وتخليته حتى يزين لهم ملابسة ظاهرة للتزيين ، فأسند إليه .
والجواب عن الأول : أن قوله تعالى : { زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ } صيغة عموم ، فوجب أن يكون الله تعالى قد زين لهم كل أعمالهم حسناً أو قبيحاً{[38211]} .
وعن الثاني : أن الله تعالى لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق فهل لهذه الأمور في ترجيح فاعلية المعصية على تركها أثر ، أو وليس لها أثر فيه ، فإن كان الأول فقد دللنا على أن التحصيل متى حصل فلا بد أن ينتهي إلى حد الوجوب والاستلزام ، وحينئذ يحصل الغرض - وإن لم يكن له فيه أثر - صارت{[38212]} هذه الأشياء بالنسبة إلى أعمالهم كصرير الباب ونعيق الغراب ، بالنسبة إلى أعمالهم ، وذلك يمنع من إسناد فعلهم إليها ، وهذا بعينه هو الجواب عن التأويل الثالث الذي ذكروه{[38213]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.