اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمۡ أَعۡمَٰلَهُمۡ فَهُمۡ يَعۡمَهُونَ} (4)

قوله{[38190]} : { إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة } الآية .

لما بيّن{[38191]} ما للمؤمنين من البشرى أتبعه بما للكفار من سوء العذاب ، فقال : { إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة زَيَّنََّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ } القبيحة ، حتى رأوها حسنة ، «فهم يعمهون » يترددون فيها متحيرين . فإن قيل : كيف أسند تزيين أعمالهم إلى ذاته مع أنه أسنده إلى الشيطان في قوله { زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ } [ الأنفال : 48 ] ؟ .

فالجواب : أما أهل السنة فأجروا الآية على ظاهرها ، لأن الإنسان لا يفعل شيئاً ألبتة إلا إذا دعاه الداعي إلى الفعل والمعقول من الداعي هو العلم و{[38192]} الاعتقاد ، أو الظن بكون الفعل مشتملاً على منفعة ، وهذا الداعي لا بد وأن يكون من فعل الله تعالى لوجهين :

الأول : أنه لو كان لافتقر فيه إلى داع آخر ، ولزم{[38193]} التسلسل ، وهو محال .

الثاني : أن العلم{[38194]} إما أن يكون ضرورياً ، أو كسبياً ، فإن كان ضرورياً فلا بد من تصورين والتصور يمتنع أن يكون مكتسباً ، لأن المكتسب إن كان شاعراً به ، فهو متصور له ، وتحصيل الحاصل محال ، وإن لم يكن متصوراً ، كان غافلاً عنه ، والغافل عن الشيء يمتنع أن يكون طالباً له . فإن قيل : هو مشعور به من وجه{[38195]} ، قلنا : فالمشعور به غير ما هو{[38196]} غير{[38197]} مشعور به ، فيعود التقسيم{[38198]} المتقدم في كل واحد من هذين الوجهين .

وإذا ثبت أن التصور غير مكتسب ألبتة ، والعلم الضروري هو الذي يكون مكتسباً ، فإن{[38199]} كل واحد من تصوُّريه كاف{[38200]} في حصول التصديق ، فالتصورات{[38201]} غير مكتسبة فهي مستلزمة التصديقات ، فإذن متى حصلت التصورات البديهية ، كان التصديق بها بديهياً وليس كسبياً . ثم إن التصديقات البديهية إن كانت مستلزمة التصديقات النظرية ، كانت كسبية ، لأن لازم الضروري ضروري ، وإن لم تكن مستلزمة لها لم تكن تلك الأشياء التي فرضناها علوماً نظرية كذلك ، بل هي اعتقادات تقليدية ، لأنه لا معنى لاعتقاد المقلد إلا اعتقاد تحسيني بفعله ابتداء من غير أن يكون له موجب ، فثبت بهذا أن العلوم بأسرها ضرورية ، وثبت أن مبادئ الأفعال هي العلوم ، وأفعال العباد بأسرها ضرورية فالإنسان مضطر في صورة مختار ، فثبت أن الله تعالى هو الذي ( زين لكل عامل عمله ، والمراد من التزيين هو الذي ){[38202]} يخلق في قلبه العلم بما فيه من ( المنافع واللذات ، ولا يخلق في قلبه العلم بما فيه من ){[38203]} المضار والآفات ، فثبت بهذه الدلائل{[38204]} العقلية القاطعة وجوب{[38205]} إجراء هذه الآية على ظاهرها . وأما المعتزلة فتأولوها بوجوه :

أحدها : أن المراد بينا لهم أمر الدين ، وما يلزمهم أن يتمسكوا به ، وزيناه بأن بينا حسنه وما لهم فيه من الثواب ، لأن التزيين من الله للعمل{[38206]} ليس إلا وصفه بأنه حسن واجب وحميد العاقبة ، وهو المراد من قوله{[38207]} : { حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ } [ الحجرات : 7 ] .

وقوله : «فَهُمْ يَعْمَهُونَ » يدل على ذلك ، إذ المراد : فهم يعدلون ويتخيرون عما زينا من أعمالهم .

وثانيها : أنه تعالى لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق ، جعلوا إنعام الله عليهم بذلك ذريعة إلى اتباع شهواتهم ، وعدم الانقياد لما يلزمهم من التكاليف ، فكأنه{[38208]} تعالى زين بذلك أعمالهم ، ولذلك أشارت الملائكة عليهم السلام بقولهم : { ولكن مَّتَّعْتَهُمْ }{[38209]} [ الفرقان : 18 ] { وآباءهم حتى نَسُواْ }{[38210]} [ الفرقان : 18 ] { الذكر } [ الفرقان : 18 ] .

وثالثها : أن إمهاله الشيطان وتخليته حتى يزين لهم ملابسة ظاهرة للتزيين ، فأسند إليه .

والجواب عن الأول : أن قوله تعالى : { زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ } صيغة عموم ، فوجب أن يكون الله تعالى قد زين لهم كل أعمالهم حسناً أو قبيحاً{[38211]} .

وعن الثاني : أن الله تعالى لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق فهل لهذه الأمور في ترجيح فاعلية المعصية على تركها أثر ، أو وليس لها أثر فيه ، فإن كان الأول فقد دللنا على أن التحصيل متى حصل فلا بد أن ينتهي إلى حد الوجوب والاستلزام ، وحينئذ يحصل الغرض - وإن لم يكن له فيه أثر - صارت{[38212]} هذه الأشياء بالنسبة إلى أعمالهم كصرير الباب ونعيق الغراب ، بالنسبة إلى أعمالهم ، وذلك يمنع من إسناد فعلهم إليها ، وهذا بعينه هو الجواب عن التأويل الثالث الذي ذكروه{[38213]} .


[38190]:في ب: قوله تعالى.
[38191]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 25/179-180.
[38192]:في ب: أو.
[38193]:في ب: لزم.
[38194]:في ب: أن العلم الثاني. وهو تحريف.
[38195]:في ب: وجهين. وهو تحريف.
[38196]:في ب: فالمشعور غيرها وهو.
[38197]:غير: تكملة من الفخر الرازي.
[38198]:كذا في الفخر الرازي، وفي الأصل: التقديم، وفي ب: التقدير.
[38199]:في ب: على.
[38200]:في ب: كافياً.
[38201]:في ب: والتصورات.
[38202]:ما بين القوسين سقط من ب.
[38203]:ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.
[38204]:في ب: العلوم.
[38205]:وجوب: سقط من ب.
[38206]:في ب: الفعل.
[38207]:في النسختين: وحبب.
[38208]:في ب: فكأن الله.
[38209]:في النسختين: بل متعت هؤلاء.
[38210]:في ب: نسبوا. وهو تحريف.
[38211]:في ب: حسناً كان العمل أو قبيحاً.
[38212]:في ب: فصارت.
[38213]:آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 24/179-180.