قوله تعالى : { فلولا } ، فهلا .
قوله تعالى : { إذ جاءهم بأسنا } ، عذابنا .
قوله تعالى : { تضرعوا } ، فآمنوا فيكشف عنهم ، أخبر الله عز وجل أنه قد أرسل إلى قوم بلغوا من القسوة إلى أنهم أخذوا بالشدة في أنفسهم وأموالهم ، فلم يخضعوا ولم يتضرعوا ، فذلك قوله : { ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون } ، من الكفر والمعاصي .
لقد أخذهم الله بالبأساء والضراء ليرجعوا إلى أنفسهم ؛ وينقبوا في ضمائرهم وفي واقعهم ، لعلهم تحت وطأة الشدة يتضرعون إلى الله ، ويتذللون له ، وينزلون عن عنادهم واستكبارهم ، ويدعون الله أن يرفع عنهم البلاء بقلوب مخلصة ، فيرفع الله عنهم البلاء ، ويفتح لهم أبواب الرحمة . . ولكنهم لم يفعلوا ما كان حريا أن يفعلوا . لم يلجأوا إلى الله ، ولم يرجعوا عن عنادهم ، ولم ترد إليهم الشدة وعيهم ، ولم تفتح بصيرتهم ، ولم تلين قلوبهم . وكان الشيطان من ورائهم يزين لهم ما هم فيه من الضلال والعناد :
( ولكن قست قلوبهم ، وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ) . .
والقلب الذي لا ترده الشدة إلى الله قلب تحجر فلم تعد فيه نداوة تعصرها الشدة ! ومات فلم تعد الشدة تثير فيه الإحساس ! وتعطلت أجهزة الاستقبال الفطرية فيه ، فلم يعد يستشعر هذه الوخزة الموقظة ، التي تنبه القلوب الحية للتلقي والاستجابة . والشدة ابتلاء من الله للعبد ؛ فمن كان حيا أيقظته ، وفتحت مغاليق قلبه ، وردته إلى ربه ؛ وكانت رحمه له من الرحمة التي كتبها الله على نفسه . . ومن كان ميتا حسبت عليه ، ولم تفده شيئا ، وإنما أسقطت عذرة وحجته ، وكانت عليه شقوة ، وكانت موظئة للعذاب !
قال الله تعالى : { فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا } أي : فهلا إذ ابتليناهم بذلك تضرعوا إلينا وتمسكنوا إلينا{[10683]} { وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ } أي : ما رقت ولا خشعت { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : من الشرك والمعاصي .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَوْلآ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرّعُواْ وَلََكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيّنَ لَهُمُ الشّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ } . .
وهذا أيضا من الكلام الذي فيه متروك استغني بدلالة الظاهر عن ذكر ما ترك ، وذلك أنه تعالى ذكره أخبر عن الأمم التي كذّبت رسلها أنه أخذهم بالبأساء والضرّاء ليتضرعوا ، ثم قال : فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرّعوا ، ولم يخبر عما كان منهم من الفعل عند أخذه إياهم بالبأسأء والضرّاء .
ومعنى الكلام : ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضرّاء لعلهم يتضرّعون فلم يتضرّعوا ، فلولا إذا جاءهم بأسنا تضرّعوا . ومعنى : فَلَوْلاَ في هذا الموضع : فهلاّ ، والعرب إذ أوْلت «لولا » اسما مرفوعا جعلت ما بعدها خبرا وتلقتها بالأمر ، فقالت ، فلولا أخوك لزرتك ، ولولا أبوك لضربتك ، وإذا أوْلتها فعلاً ، أو لم تولها اسما ، جعلوها استفهاما ، فقالوا : لولا جئنا فنكرمك ، ولولا زرت أخاك فنزورك ، بمعنى هلاّ . كما قال تعالى : لَوْلا أخّرْتَنِي إلى أجَلٍ قَرِيبٍ فأصّدّق وكذلك تفعل ب «لوما » مثل فعلها ب «لولا » .
فتأويل الكلام إذن : فهلا إذ جاء بأسنا هؤلاء الأمم المكذّبة رسلها الذين لم يتضرّعوا عند أخذناهم بالبأساء والضرّاء ، تضرّعوا فاستكانوا لربهم وخضعوا لطاعته ، فيصرف ربهم عنهم بأسه وهو عذابه وقد بينا معنى البأس في غير هذا الموضوع بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ يقول : ولكن أقاموا على تكذيبهم رسلهم ، وأصروا على ذلك واستكبروا عن أمر ربهم ، استهانة بعقاب الله واستخفافا بعذابه وقساوة قلب منهم . وَزَيّنَ لَهُمُ الشّيْطَانُ ما كَانُوا يَعْمَلُونَ يقول : وحسن لهم الشيطان ما كانوا يعملون من الأعمال التي يكرهها الله ويسخطها منهم .
و «لولا » تحضيض ، وهي التي تلي الفعل بمعنى هلا ، وهذا على جهة المعاتبة لمذنب غائب وإظهار سوء فعله مع تحسر ما عليه ، والمعنى إذ جاءهم أوائل البأس وعلاماته وهو تردد البأساء والضراء ، و { قست } معناه صلبت وهي عبارة عن الكفر ونسب التزيين إلى الشيطان وقد قال تعالى في آية أخرى { كذلك زينا لكل أمة عملهم }{[4917]} لأن تسبب الشيطان ووسوسته تجلب حسن الفكر في قلوبهم ، وذلك المجلوب الله يخلقه ، فإن نسب إلى الله تعالى فبأنه خالقه ، وإلى الشيطان فبأنه مسببه .