( كلا ! بل تكذبون بالدين . وإن عليكم لحافظين ، كراما كاتبين ، يعلمون ما تفعلون . إن الأبرار لفي نعيم . وإن الفجار لفي جحيم ، يصلونها يوم الدين ، وما هم عنها بغائبين ) . .
وكلا كلمة ردع وزجر عما هم فيه . وبل كلمة إضراب عما مضى من الحديث . ودخول في لون من القول جديد . لون البيان والتقرير والتوكيد . وهو غير العتاب والتذكير والتصوير . .
( كلا . بل تكذبون بالدين ) . . تكذبون بالحساب والمؤاخذة والجزاء . وهذه هي علة الغرور ، وعلة التقصير . فما يكذب القلب بالحساب والجزاء ثم يستقيم على هدى ولا خير ولا طاعة . وقد ترتفع القلوب وتشف ، فتطيع ربها وتعبده حبا فيه ، لا خوفا من عقابه ، ولا طمعا في ثوابه . ولكنها تؤمن بيوم الدين وتخشاه ، وتتطلع إليه ، لتلقى ربها الذي تحبه وتشتاق لقاءه وتتطلع إليه . فأما حين يكذب الإنسان تكذيبا بهذا اليوم ، فلن يشتمل على أدب ولا طاعة ولا نور . ولن يحيا فيه قلب ، ولن يستيقظ فيه ضمير .
تكذبون بيوم الدين . . وأنتم صائرون إليه ، وكل ما عملتم محسوب عليكم فيه .
القول في تأويل قوله تعالى : { كَلاّ بَلْ تُكَذّبُونَ بِالدّينِ * وَإِنّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ * إِنّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } .
يقول تعالى ذكره : ليس الأمر أيّها الكافرون كما تقولون ، من أنكم على الحقّ في عبادتكم غير الله ، ولكنكم تكذّبون بالثواب والعقاب والجزاء والحساب . وبنحو الذي قلنا في معنى قوله بَلْ تُكَذّبُونَ بِالدّينِ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : بَلْ تُكَذّبُونَ بِالدّينِ قال : بالحساب .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : تُكَذّبُونَ بِالدّينِ قال : بيوم الحساب .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله : بَلْ تُكَذّبُونَ بالدّينِ قال : يوم شدّة ، يوم يدين الله العباد بأعمالهم .
{ كَلاَّ } ردع عما هو غرور بالله أو بالغرور مما تضمنه قوله : { ما غرك بربك } [ الانفطار : 6 ] من حصور ما يغرّ الإِنسان بالشرك ومن إغْراضه عن نعم الله تعالى بالكفر ، أو من كون حالة المشرك كحالة المغرور كما تقدم من الوجهين في الإِنكار المستفاد من قوله : { ما غرك بربك الكريم } .
والمعنى : إشراكك بخالقك باطل وهو غُرور ، أو كالغرور .
ويكون قوله بعده : { بل تكذبون بالدين } إضراباً انتقالياً من غرض التوبيخ والزجر على الكفر إلى ذكر جرم فظيع آخر ، وهو التكذيب بالبعث والجزاء ويشمله التوبيخ بالزجر بسبب أنه معطوف على توبيخ وجزر لأن { بل } لا تخرج عن معنى العطف أي العطف في الغرض لا في نسبة الحكم . ولذلك يتبع المعطوف بها المفرد في إعراب المعطوف عليه فيقول النحويون : إنها تُتْبَع في اللفظ لا في الحكم ، أي هو اتباعُ مناسبة في الغرض لا اتباعٌ في النسبة .
ويجوز أن يكون { كلاّ } إبطالاً لوجود ما يغرّ الإِنسان أن يشرك بالله ، أي لا عذر للإِنسان في الإِشراك بالله إذ لا يوجد ما يغرّه به .
ويكون قوله : { بل تكذبون } إضراباً إبطالياً ، وما بعد { بل } بياناً لِما جرَّأهم على الإِشراك وأنه ليس غروراً إذ لا شبهة لهم في الإِشراك حتى تكون الشبهة كالغرور ، ولكنهم أصروا على الإِشراك لأنهم حسبوا أنفسهم في مأمن من تبعته فاختاروا الاستمرار عليه لأنه هوى أنفسهم ، ولم يعبأوا بأنه باطل صُراح فهم يكذبون بالجزاء فذلك سبب تصميم جميعهم على الشرك مع تفاوت مداركهم التي لا يخفى على بعضِها بطلانُ كون الحجارة آلهة ، ألا ترى أنهم ما كانوا يرون العذاب إلا عذاب الدنيا .
وعلى هذا الوجه يكون فيه إشارة إلى أن إنكار البعث هو جُماع الإِجرام ، ونظير هذا الوجه وقع في قوله تعالى : { فمالهم لا يؤمنون وإذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون بل الذين كفروا يكذبون } في سورة الانشقاق ( 20 ، 22 ) .
وقرأ الجمهور : { تكذبون } بتاء الخطاب . وقرأه أبو جعفر بياء الغيبة على الالتفات .
وفي صيغة المضارع من قوله : { تكذبون بالدين } إفادة أن تكذيبهم بالجزاء متجدد لا يقلعون عنه ، وهو سبب استمرار كفرهم .
وفي المضارع أيضاً استحضار حالة هذا التكذيب استحضاراً يقتضي التعجيب من تكذيبهم لأن معهم من الدلائل ما لحقه أن يقلع تكذيبهم بالجزاء .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{كلا} لا يؤمن هذا الإنسان بمن خلقه وصوره، ثم قال: {بل تكذبون بالدين} يعنى الحساب.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ليس الأمر أيّها الكافرون كما تقولون، من أنكم على الحقّ في عبادتكم غير الله، ولكنكم تكذّبون بالثواب والعقاب والجزاء والحساب...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فإن حملت قوله: {كلا} على التنبيه والردع، فيمكن أن يعطف على ما قبله وعلى ما بعده، وكذلك إذا حملته على القسم بمعنى: حقا، فإنه يستقيم عطفه على الأمرين جميعا. وقوله تعالى: {بالدين} يحتمل أن يكون أريد به دين الإسلام. والأصل أن الدين إذا أطلق أريد به الدين الحق، وهو الإسلام، وكذلك الكتاب المطلق كتاب الله تعالى. ويجوز أن يكون أريد به البعث والجزاء. وسمي يوم الدين لما ذكرنا أن الناس يدانون بأعمالهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{كَلاَّ} ارتدعوا عن الاغترار بكرم الله والتسلق به، وهو موجب الشكر والطاعة... ثم قال: {بَلْ تُكَذِّبُونَ بالدين} أصلا وهو الجزاء. أو دين الإسلام. فلا تصدّقون ثواباً ولا عقاباً وهو شرّ من الطمع المنكر...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم رد على سائر أقوالهم ورد عنها بقوله: {كلا}، ثم أثبت لهم تكذيبهم بالدين، وهذا الخطاب عام ومعناه الخصوص في الكفار...
... قال القفال: كلا أي ليس الأمر كما تقولون من أنه لا بعث ولا نشور، لأن ذلك يوجب أن الله تعالى خلق الخلق عبثا وسدى، وحاشاه من ذلك، ثم كأنه قال: وإنكم لا تنتفعون بهذا البيان بل تكذبون،...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
أي: بل إنما يحملكم على مواجهة الكريم ومقابلته بالمعاصي، تكذيب في قلوبكم بالمعاد والجزاء والحساب...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{كلا} أي ما أوقعكم أيها الناس في الإعراض عمن يجب الإقبال عليه ويقبح غاية القباحة الإعراض- بوجه عنه مطلق الغرور {بل} أعظمه وهو أنكم {تكذبون} أي على سبيل التجديد بتحدد إقامة الأدلة القاطعة وقيام- البراهين الساطعة {بالدين} أي الجزاء الذي وظفه الله في- يوم البعث، فارجعوا عن الغرور مطلقاً خاصاً وعاماً، وارتدعوا غاية الارتداع...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمعنى: إشراكك بخالقك باطل وهو غُرور، أو كالغرور. ويكون قوله بعده: {بل تكذبون بالدين} إضراباً انتقالياً من غرض التوبيخ والزجر على الكفر إلى ذكر جرم فظيع آخر، وهو التكذيب بالبعث والجزاء ويشمله التوبيخ بالزجر...
.ويجوز أن يكون {كلاّ} إبطالاً لوجود ما يغرّ الإِنسان أن يشرك بالله، أي لا عذر للإِنسان في الإِشراك بالله إذ لا يوجد ما يغرّه به. ويكون قوله: {بل تكذبون} إضراباً إبطالياً، وما بعد {بل} بياناً لِما جرَّأهم على الإِشراك وأنه ليس غروراً إذ لا شبهة لهم في الإِشراك حتى تكون الشبهة كالغرور، ولكنهم أصروا على الإِشراك لأنهم حسبوا أنفسهم في مأمن من تبعته فاختاروا الاستمرار عليه لأنه هوى أنفسهم، ولم يعبأوا بأنه باطل صُراح فهم يكذبون بالجزاء فذلك سبب تصميم جميعهم على الشرك مع تفاوت مداركهم التي لا يخفى على بعضِها بطلانُ كون الحجارة آلهة، ألا ترى أنهم ما كانوا يرون العذاب إلا عذاب الدنيا. وعلى هذا الوجه يكون فيه إشارة إلى أن إنكار البعث هو جُماع الإِجرام...
وكل شيء يصيب الإنسان من إهمال منهج الله، والغفلة عنه، وعدم الاستعداد للقائه، كل ذلك تكذيب بيوم الدين، فكأن يوم الدين قضية كاذبة عندهم، ولو أن يوم الدين قضية صادقة عندهم لما كان منهم إلا أن يستعدوا لذلك اليوم، وأن لا يغفلوا عنه أبداً.
فكل غفلة عن منهج الله منشؤها إما التكذيب بيوم الدين الذي يرد فيه الإنسان إلى ربه ليجازيه على أعماله، وإما الارتياب فيه، ومعنى الارتياب أنه يذكره تارة، ويغفل عنه تارة، فحين يذكره يعمل العمل الصالح، وحين يغفل عنه يلتوي عن منهج الله عز وجل.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وتتناول الآية التالية منشأ الغرور والغفلة: (كلاّ بل تكذبون بالدّين). فالكرم الإلهي، ولطف الباري ونعمه ليست بمحفز لغروركم، ولكنكم آليتم على عدم إيمانكم بالقيامة، فوقعتم بتلك الهاوية الموهمة. ولو دققنا النظر في حال المغرورين والغافلين، لرأينا أنّ الشك بيوم القيامة أو إنكاره هو الذي استحوذ على قلوبهم وما دونه مجرّد مبررات واهية، ومن هنا يأتي التشديد على أصل المعاد، فلو قوي الإيمان بالمعاد في القلوب لارتفع الغرور وانقشعت الغفلة عن النفوس. «الدين»: يراد به هنا، الجزاء يوم الجزاء، وما احتمله البعض من أنّه (دين الإسلام) فبعيد عن سياق حديث الآيات، لأنّها تتحدث عن «المعاد»...